الفنان التشكيلي والمصوّر العالمي جورج عشّي. أسيادٌ سُوريّون. يمامة خيّو
من سلسلة “أسيادٌ سوريّون” نلتقي اليوم بالرسام التشكيلي والمصوّر العالمي جورج عشي، أجرت اللقاء الكاتبة والروائية يمامة خيّو. هو العضو المؤسس ورئيس نادي التصوير الضوئي للدول العربية. مصوّر. رسام. كاتب أغنية. مُعدّ برامج إذاعية. عازف كمان. حائز على عدة جوائز عربية وعالمية.
(لا تكنْ بعيداً عن مجتمعك، اجعل نفسَك دائماً في قلبه. افرح معه وتألم معه واجلس معه. حاورهُ وفكر فيما يفكر فيه. قاسمهُ لقمتَك واجلس على بساطهِ واستمع لأطفاله، ثم احملْ كاميرتك واخرج لتصور… ستجد أنك أبدعت فيما قدمت وانبهر العالم من لوحاتك). جورج عشّي.
حمل جورج عشّي كاميرتهُ وخرج مذ كان طفلاً، ليعود ويُجسد ما رآهُ صورةً ورسماً وشِعراً ضمن قالبٍ مُتقنٍ من الإنسانية والتفاؤل والحبّ.
كيف يمكن لفتاة أن تشكل خطراً على دولة يرأسها “جمال عبد الناصر”؟
بهذا السؤال وبمبلغ واحد جنيه تكلفة برقيته إلى الرئيس “جمال عبد الناصر” أعاد شقيقته “نجلاء” إلى وظيفتها، بعد أن سرحها “عبد الحميد السراج” من وظيفتها بتهمة الانتماء للحزب السوري القومي بعد عملية اغتيال المالكي.
(فليوثق غيري القبحَ والمأساة رسماً وتصويراً، أما أنا فسأظل باحثاً عن الأمل والجمال حتى آخر لحظة وما عاد ممكناً في هذا العمر صياغة معنى آخر لحياتي). جورج عشي.
التاسعة صباحاً مقهى “الهافانا” في دمشق، كان موعدنا مع الفنان “جورج عشي”، وحديث البدايات أولاً.. البداية عام 1940 ولادتي في “ضهر صفرا” ونشأتي الأولى حتى عمر الخمس سنوات، حيث انتقلتُ مع أسرتي إلى “اللاذقية” لأبدأ دراستي الابتدائية هناك. “اللاذقية” التي تركتها بعد وفاة والدي في عمر الثالثة عشرة، وكان الفقر الأقسى وفي المرحلة الأقسى، ذروة المراهقة، العمر الذي يبحث فيها الطفل عن النموذج.
بدأت دروسي الأولى في العزف على الكمان عام 1954 قي اللاذقية على يد عازف الكمان اليوناني ميشيل كوستانتنيدس، الذي التقيتهُ بعد 31 عاماً في دمشق والصورة التقطتها له في محلات موزار عبدالله شاهين للموسيقا عام 1975 وكان في زيارة ابنه جوزيف، الذي كان يدرس العزف على الكمان أيضا ولكن في دمشق. لم يتذكرني؛ رغم ذلك قمت بواجب الاحترام والتقدير له .
ملاحظة: عندما انتقلنا إلى حلب 1956 تابعت دروسي على يد الأستاذ الروسي ميشيل بوليشنكو .وفاة والدي أدت إلى رسوبي في “البروفيه” فكان الحل أن اصطحبني الخوري “إلياس شاهين” إلى “جوني” عام 1954 وكان أحد أقارب العائلة. تكفل بدراستي في واحدة من أهم مدارس الشرق آنذاك وهي الـ “فريرماريش” أو “الأخوة المريمية”، لكن تم إعادتي أربع سنوات إلى الخلف وحصلت على “السرتيفيكا” بترتيب الخامس عالمياً في هذه المدارس.
أسأله عن أبرز ما قدمته هذه المدرسة؟
فيُجيب: كنا نُعاقب إذا تكلمنا بالعربية، فالفرنسية شرط وإجادتنا لها أهم خطوة للاستمرار في هذه المدرسة. لكن الملفت أن تعليمها للغة العربية كان شديد الاحترام والمهنية.
هنا يفاجئنا جورج عشي بعودتهِ إلى “اللاذقية” وحصوله على “البروفيه” هناك وتركه لمدينة “جوني”.. وعند السؤال عن سبب عودته، يقول: شعرتُ بأن الخوري “إلياس شاهين” يريد مني الالتحاق بسلك الكهنوتية. وعندما سألته “هل هربت خوفاً من ذلك؟!” كانت إجابته ملفته، الغريب أنه يشعر بأن أمورهُ تسيرُ كما يريد، ولم يعتقد يوماً أن هناك ما يُجبره على فعل شيء لا يمكنهُ قبوله منذ طفولته..
أسماء لا تنساها ذاكرة “عشي” وتدين لها بصناعة تحولات في حياته؛ الأول: جاره المصور الأرمني “أبراهام” الذي أدخله لأول مرة إلى غرفة تظهير الصور في سن الثالثة عشرة، وبدأ تعليمه بعض أساسيات التصوير وأهداه أول كاميرا في حياته. الشخصية الثانية: الخوري “إلياس شاهين”. الشخصية الثالثة: الأب “بير جيديون” وهو هولندي أعاده إلى مدرسته الثانوية بعد إقالة أخته “نجلاء”، وعدم قدرته على دفع الأقساط، ولم يكتفِ بذلك، بل طلب من “الفرير” أن يطلب من “العشي” رسم أيقونات يتم شرائها منه لصالح المدرسة، واستطاع دفع مصاريف منزله بدلاً من أخته “نجلاء”..
“جورج عشي” يتحدث عن “نجلاء” بتقديرٍ وحبٍّ كبيرين..
الأخت التي حاولت تعويض فقد الأب ووفرت أدوات إبداع “عشي” وربما صنعتْ توجهه الفني رسماً وتلحيناً بأدوات رسم وكمنجا. عند سؤاله عن رد الدين؟ قال: بعمر السادسة عشرة ودون نية مني برد الدين، اعترفتُ لعناصر الأمن بأني صاحب بيانات القومي السوري المتواجدة في المنزل، فاعتقلتُ لثلاثة أيام وأخرجني ضابط من معارفنا.. لم أشعر بالبطولة، كان فعلاً تلقائياً فقط، لكني سددت جزءاً من الدين بعد برقيتي لـ “جمال عبد الناصر” أثناء تواجدي في مصر مع طلاب سوريا للإحتفال بالذكرى الأولى للوحدة، وعدت إلى سوريا لأجد مدير مكتب المشير “عبد الحكيم عامر” في منزلنا ومعه قرار بإعادة نجلاء لوظيفتها..
أما الجوانب الفنية المتعددة في شخصية “عشي”؛ الرسم، يرسم الرجال بطرابيش وعكاز محاولاً رسم والده الذي لم تسمح له الحياة بالتقاط صورة له كما فعل مع “أم جورج” بصورتهِ الشهيرة، أما التصوير الذي كان حسب قوله وسيلةً لتوثيق لوحاتهِ أصبح عالماً فنياً خاصاً بعد فوزه بالمرتبة الثانية لمعرض الصور الصحفية “إنتر بريس فوتو” inter press photo عام 1983
في مجال كتابة الأغنية التي بات أثناء حديثهِ عنها كما لو أنه يشعر بانتماء مختلف للكلمة.. من استطاع إيصال روح كلماتك أسأله؟.. بإجابة قاطعة “ملحم بركات” عندما غنى لي “عا الشام وديني“، وأيضاً الأغنيتين التي لحنها إحداهما لـ “ربيع الخولي” “آه لو تعرف”، وأغنية “لو بيكون عليا الحق” التي لحنها ملحم لـ “غسان صليبا”، لكني عندما سمعتُ “ملحم بركات” يُغنيها في إحدى الحفلات ضحكتُ وقلت لنفسي: “والله إنك مبدع يا جورج”.. غنى لي آخرون ولحن من كلماتي “سيد مكاوي” أغنية “يا غزال” وغنى لي “عبد المطلب” وغيرهم.. لكن الأهم كانت الكلمات التي منحها “ملحم بركات” من روحه.. حتى يومنا هذا أكتب وأقدم للإذاعة ولا أعرض أعمالي إلا على من يطلبها.
هل أنتَ مدلل من الله يا جورج؟
على مدى ساعة ونصف من لقائي معهُ، شيء آخر أثار شهية روحي للفرح والضوء.. إجابته مثلاً عن سؤالي “هل أنتَ مدلل من الله؟”، أجاب “دوماً… كان هناك مَن يتم تجنيده لمنحي حاجاتي، كما لو أن الله يحيطني”..
ولماذا برأيك؟! يقول: لأني لا أبحث سوى عن الجمال، ولا أوثق سوى الجمال، حتى هذا اليوم أحتفظ بصورة متسولة كان يُمكنني المشاركة فيها إلى جانب صورة الأعمى التي فزت فيها بالميدالية الفضية، لكني لا أفعل ذلك، لن أُسيء إلى بلدي ولن أوثق البؤس ولا أسمح لنفسي أن أستغل حزن الآخرين… أرسم الأمل وأصور الحياة، كما صورت “أم جورج” بشعرها الطويل وهي في السابعة والثمانين من عمرها كدليلٍ قاطعٍ على استمرارية الحياة، حتى هذه اللحظة لا أوثق إلا ما يدفع الناس إلى الحياة والحب والفرح.
رياح الشمال الحزينة. جورج عشي
صوّر النّاس في أعمالهم وحياتهم، في حلّهم وترحالهم، صوّر بسمة الأطفال فزرعَ في روحنا التفاؤل… يسبحُ المتابعُ لأعمال جورج عشّي في بحر من الصور واللوحات، إلى أن يصلَ إلى شاطئِ الأم… فتنزلُ دمعةٌ… ثم دمعة…
صوّر جورج عشي زعماء العالم ولقاءاتهم… الأدباء ورجال الفكر … الفنانين… صوّر فأتقن، رسمَ فأبدع، كتبَ فأطرب… مركز فيريل للدراسات. 14.11.2020.