ماليفبتش أثّر في عدد كبير من الفنانين
نظّم متحف الفن الحديث في لندن معرضا استعاديا للفنان الروسي كازيمير ماليفيتش للفترة من 16 يوليو وإلى غاية 26 أكتوبر 2014. وقد ضمّ المعرض 150 لوحة فنية نُفذت على سطوح تصويرية متنوعة وهي تمثل مراحل مختلفة من حياة هذا الفنان المثير للجدل الذي عاش بين عامي 1879 و1935، حيث شهِد ثلاث حقب مضطربة وهي الحكم القيصري، والحرب العالمية الأولى، وثورة أكتوبر التي تركت بصماتها الواضحة على المنظومة الاشتراكية لسبعة عقود تقريبا.
يعتبر كازيمير ماليفيتش مؤسسا لحركة السوبرماتيزم أو “التفوقية”، وأحد أعلام الفن التجريدي الهندسي، ورمزا من رموز البنائية الروسية، هذا إضافة إلى كونه منظّرا فنيا بارزا توّج تجربته التنظيرية بكتاب قيّم حمل عنوان “العالم اللاموضوعي” الذي شرح فيه نظرياته السوبرماتية التي تسلّح بها خلال عمره القصير نسبيا.
بدأ ماليفيتش حياته الفنية بالرسم التشخيصي ثم تنقّل بين تيارات فنية متعددة كالرمزية وما بعد الانطباعية والمستقبلية قبل أن يستقر على السوبرماتية ويصل من خلالها إلى التجريد الهندسي الخالص الذي يعتمد في أساسه على المثلث والمربع والدائرة والمستطيل، إضافة إلى بعض الخطوط المستقيمة والمنحنية التي يعززها بألوان أساسية قوية ومتقشفة. وقد نأى ماليفيتش بنفسه خلال هذه المرحلة عن الرسوم التشخيصية التي يحاكي فيها الأشكال البشرية والحيوانية والنباتية وما إلى ذلك في محاولة جدية للوصول إلى الفن اللاتشبيهي الخالص.
الأشكال الهندسية
لا بد لنا من الإشارة إلى لوحة “المربّع الأسود” التي أنجزها الفنان عام 1915 وخبأها لمدة تسعة أشهر، ثم ظهرت إلى الوجود لكنها غابت ثانية ولم تظهر إلا بعد خمسين عاماً! تنطوي هذه اللوحة على مفارقة فنية فسطحها التصويري يخلو من أية ثيمة أو إحالة تشخيصية وهي تشبه إلى حدٍ كبير “الكلمة الأخيرة” التي يُطلقها الفنان لكنها لا تُسعف المتلقي، ولا تُعينه في فهم وإدراك العمل الفني الذي يتطلع إليه، فهو بالنتيجة “مربّع أسود على أرضية بيضاء”. وسوف يتعرض هذا العمل إلى التلف فيكرره في نسخ جديدة وصلت واحدة منها إلى هذا المعرض الاستعادي.
لا تقل لوحة “مربع أبيض على أرضية بيضاء” 1918 أهمية عن “المربّع الأسود” وغيرها من الأعمال الفنية التي تقوم على أشكال هندسية أخرى، فهي الأخرى تعد واحدة من أبرز النماذج السوبرماتية الروسية حيث تتجلى فيها قوة ضربات الفرشاة التي تُوحي لنا بالمربّع، عنوان اللوحة، الذي يبرز بقوة من سطحها التصويري. وقد ظلت هذه اللوحة أيضا مثارا للتهكم والسخرية شأنها دائما شأن الأعمال المبتكرة الجديدة التي تحتاج إلى مساحة زمنية مناسبة كي يتمثّلها الناقد ويتقبّلها المتلقي.
ماليفيتش كان متأثرا بالتصوير الجوي الذي قاده لاحقا إلى التجريد
المنحى التشخيصي
على الرغم من نزوعه الدائم لخلق لغة بصرية جديدة لم يسْلَم ماليفيتش من المنحى التشخيصي خصوصا في مراحلة المبكرة التي تأثر فيها بالفن الشعبي، والأيقونات الأرثوذكسية الروسية حيث أنجز العديد من البورتريهات والأعمال التشخيصية التي تمزج بين تيارات فنية متعددة تتجلى فيها اللمسات التشخيصية والتكعيبية والرمزية والمستقبلية والسوبرماتية أيضا مع تنويعات واضحة على الأبعاد ما بعد الانطباعية خصوصا في البورتريه الشخصي له الذي أنجزه عام 1912 والذي لا يخلو من لمسات “غوغانية” إن صحّ التعبير، لكنه سرعان ما عاد إلى منحاه المستقبلي والسوبرماتي في أعمال أخرى تظهر فيها فيغرات مموهة الملامح لكنها تحيل إلى كانئات بشرية كما في لوحة “امرأة مع مِدَمَّة” و”امرأة مع عمود” أو مجموعة اللوحات التي تتمحور حول “الفلاحات الروسيات” التي تكشف عن تأثره الواضح بماتيس وبيكاسو وسواهما من أساطين الفن الحديث.
لا بد من الإشارة إلى أن ماليفيتش كان متأثرا بالتصوير الجوي الذي قاده لاحقا إلى التجريد الأوليّ في “الفلاحات الروسيات” ثم التجريد الخالص في كل أعماله الهندسية المعروفة. وبما أن ماليفيتش قد ولد في “كييف” فإن الأوكرانيين يزعمون بأنه متأثر بالفن الشعبي الأوكراني، وليس الروسي فحسب، بل أن البولنديين يجذبونه إلى دائرتهم الفنية الخاصة بحجة أن لغته الأم هي البولندية والروسية.
السباحة ضد التيار
كان النظام السوفييتي السابق يروّج لتيار الواقعية الاشتراكية الذي رفضه ماليفيتش وأنكره طوال حياته، بل إنه سبح ضدّ التيار السائد آنذاك، وتململ من القيود التي كانت تفرضها الجهات الأمنية عليه، وقد تحمّلوه على مضض لعدد من السنوات لكنهم زجّوه في السجن في محاولة يائسة منهم لتقليم أظفاره التي طالت قليلا لكنه لم يرعوِ فوقف النظام الستاليني علانية ضدّ رسومه التجريدية معتبرين إياها نوعا من الفن البرجوازي الذي لا يستطيع التعبير عن الحقائق الاجتماعية التي كانت موجودة على أرض الواقع آنذاك. وحينما أوغل في عناده صادروا العديد من لوحاته التجريدية ومنعوه من رسم أعمال فنية تجريدية أو تنظيم معارض يتسيّد فيها الفن السوبرماتي. لقد سخرَ النقاد الفنيون من أعمال ماليفيتش وركزّوا على خلوها من كل شيء جيد ونقي، بل إن الفنان والمؤرخ أليكساندر بينوا صرّح بالفم الملآن أن لوحات ماليفيتش تخلو من حُبّ الحياة والطبيعة في آنٍ معا.
التكوين السوبرماتي
تحتل لوحة “التكوين السوبرماتي” 1916 مكانة كبيرة جدا في المشهد الفني الروسي حيث توصف هذه اللوحة غالبا بأنها “مستطيل أزرق فوق شعاع أحمر”، وهي في مجملها كوكبة من الأشكال الهندسية المعروفة التي تسبح في فضاء اللوحة المتقشفة الألوان، لكن ماليفيتش عبّر من خلالها عن جانب من نظريته السوبرماتية التي تنشد الوصول إلى التجريدي الخالص الذي لا تشوبه أية شائبة من التيارات الفنية الأخرى المتعارف عليها. ولو وضعنا السبب الفني الذي يكشف عن تقنيات هذه اللوحة السوبرماتية جانبا فإننا سنقف إزاء عمل فني باهظ الثمن، فقد بيعت هذه اللوحة بمبلغ 60 مليون دولار أميركي وهو أغلى ثمن وصلت إليه لوحة في تاريخ الفن الروسي.
فنانون يرون أن لوحات ماليفيتش تخلو من حُبّ الحياة والطبيعة
إذا كان عنوان “التكوين السوبرماتي” متطابقا مع مضمونه الهندسي فإن لوحة “المربّع الأحمر” 1915 التي يفصح عنوانها الأصلي عن ثيمة “الواقعية الفنية لفلاحتين في بُعدين” ولكنك حينما تتطلع إلى اللوحة كمُشاهد لا تجد أي أثرٍ للفلاحتين الروسيتين وعليك أن تستخلص من العنوان بأن اللون الأحمر يمثل أيقونة من أيقونات التقليد الديني الروسي التي تتيح لك الإمساك بمعنى العنوان ودلالته السرّية الكامنة في المعنى المجازي للون الأحمر ولبقية الألوان الأساسية والثانوية.
ملهم المبدعين
لا شك في أن ماليفيتش قد أثرّ في عدد كبير من الفنانين سواء الذين عاصروه أم الذين جاؤوا بعده. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه نقتطف مقطعا من كلمة آريا كانديلا أمينة مُتحف “التيت مودرن” التي قالت: “يُعتبر ماليفيتش شخصية رئيسة في اكتشاف الفن التجريدي في القرن العشرين. وإذا تحدثتَ الآن إلى أبرز الفنانين المعاصرين فإنهم سيخبرونك بأن تأثير لوحة “المربع الأسود” لا يزال قائما”. لم يقتصر تأثير ماليفيتش على الفنانين حصرا، بل امتدّ إلى كُتاب ونقّاد وسينمائيين كثيرين نذكر منهم الروائي الأميركي مارتن كروز سميث الذي اتخذ من لوحات ماليفيتش موضوعا لحبكته التشويقية الرصينة التي انضوت تحت عنوان “المربع الأحمر”. كما كتب الروائي نوا تشارني عن قصة “سارق الأعمال الفنية” التي تدور حول لوحتين مسروقتين لماليفيتش وهناك إشارات كثيرة إلى لوحة “مربع أبيض على أرضية بيضاء”. وفي السياق ذاته صوّر المخرج الدنماركي المعروف لارس فون تراير العديد من أعمال ماليفيتش الفنية في فيلمه المعنون “ميلانخوليا”.
لا يسعنا الوقوف عند عدد أكبر من لوحات هذا المعرض الذي يؤرخ لحياة ماليفيتش الإبداعية التي اكتظت بالمدارس والتيارات الفنية لعل أبرزها السوبرماتية التي انضمّ إليها لاحقاً بعض الفنانين المتميزين أمثال رودشنكو، رزدانوف وليسلكي.
حري بنا أن نشير في خاتمة المقال إلى أن منابع السوبرماتية تمتد إلى الانطباعية والتكعيبية والمستقبلية. ولعل هذه الإشارة تذكِّرنا ببيانه الأول الذي جاء تحت عنوان: “من التكعيبية إلى السوبرماتيزم في الفن” والذي يركزّ فيه على محورين أساسيين وهما الاتجاه صوب واقعية جديدة، ومحاولة الوصول إلى الإبداع الخالص الذي يمكن تلمّسه كل لوحات هذا المعرض الاستعادي من دون استثناء.