تم النشر بواسطة د.عائشة الخضر لونا عامر في الاتحاد العربي للثقافة — مع نزار بريك هنيدي.
نزار بريك هنيدي
أمس -10-11-2020م ·
بمناسبة ذكرى وفاة الشاعر العربي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، أعيد نشر دراستي التي ألقيتها في ندوة تكريمه التي أقامتها وزارة الثقافة السورية بتاريخ26/11/2008 في مكتبة الاسد الوطنية:
عبد الرزّاق عبد الواحد
بين الأصالة والتجديد
لابدّ للمتأمّل في العمارة الشعرية الباذخة، التي بدأ بناءها عبد الرزاق عبد الواحد منذ أواسط القرن الماضي، ومافتئ يغنيها ويضيف إليها حتى اليوم، من أن يلاحظ أن هذا الإنجاز الضخم يكاد يختزل مسيرة الشعر العربي المعاصر، بكل ما اعترضتها من نزعات وتجاذبات، وكل ما اعتمل فيها من تجارب ومحاولات، وكل ما حققته أو صَبَتْ إلى تحقيقه من إنجازات.
فقد نذر هذا الشاعر حياته كلها للشعر، ووقفها عليه. مستنداً إلى موهبة فطرية أصيلة قلما تتأتّى إلا للقليلين في كل عصر، وإلى معرفة عميقة بالشعر العربي، وتمثّل أصيل لإمكاناته الفنية والجمالية في عصوره جميعها، وإلى تجربة حياتية غنيّة، قيّض له أن يعيشها في أحوال متباينة ومستويات مختلفة، وإلى معاصرته لأمراء المدرسة الكلاسيكية الجديدة في الشعر العربي، وعلى رأسهم الجواهري ، وكذلك معايشته الحثيثة لعدد كبير من رواد حركة الحداثة الشعرية العربية، التي حمل لواءها عدد من شعراء الجيل الذي سبقه مباشرة، وربطته بهم ، أو ببعضهم، صداقات متينة، وخصومات قوية أيضاَ. ولا شكّ أن ذلك كله كان له أثر واضح في ما أبدعه من شعر، بشكله الكلاسيكي ذي الشطرين، أو بشكل قصيدة التفعيلة بتنويعاتها المتعددة، على حدّ سواء.
وربما جاز للمرء أن يذهب إلى أن القصيدة العربية الكلاسيكية الجديدة، التي وصل بها الجواهري إلى ذراها الشاهقة، لم تجد بعد رحيله، من يحمل لواءها خيراً من عبد الرزاق عبد الواحد، الذي استطاع بالعدد الكبير من القصائد التي أبدعها على نظام الشطرين، أن يؤكد حضور هذا الشكل وفاعليته، ويحافظ على رونقه وبهائه، ويبرهن على قدرته على الحياة والتجدّد، جنباَ إلى جنب، مع الأشكال الفنية الحديثة.
وفي الحقيقة، فإن هناك لبس لابدّ من مناقشته مع الكثيرين ممن يتعاطون كتابة الشعر الحديث ونقده، لاسيّما من الجيل الجديد، الذين وَقَرَ في أذهانهم أن ثورة الحداثة الشعرية جاءت لتلغي قصيدة الشطرين، وتنفيها من الساحة الشعرية المعاصرة، متوهّمين أن هذا الشكل لم يعد صالحاً للتعبير عن حساسية الإنسان في العصر الحديث، متناسين أن عواطف الناس ومشاعرهم وطرائق تفاعلهم مع المحيط واستجابتهم للمحرّضات الانفعالية والحسّية والجمالية ورؤيتهم للعالم لا يحكمها نسق واحد، ومتجاهلين أن هذا الشكل ما هو إلا إنجاز عبقري لقرون من الشعرية العربية الأصيلة، ولا ترتبط حياته أو موته إلا بتوفّر الشاعر الموهوب الخبير والقدير من جهة، وبتوافق الحالة أو الموقف أو الرؤيا التي تتمّ مقاربتها مع الطاقات التعبيرية والجمالية التي يحملها هذا الشكل من جهة أخرى. وهذه الحالات كثيرة ومتنوعة ولا تقتصر على عصر دون آخر، لأنها مرتبطة بثوابت الجوهر الإنساني نفسه.
ولا بدّ من التذكير بأن جميع المعارك الضارية التي خاضتها حركة الحداثة الشعرية ، لم تكن في سبيل إلغاء الشكل الكلاسيكي، وإنما من أجل انتزاع الاعتراف بشرعيّة الأشكال الجديدة وحقّها في الحياة جنباً إلى جنب معه، على أساس أنه شكل خاص من أشكال الكتابة الشعرية، قد يكون الأكثر مناسبة عند بعض الشعراء، للتعبير عن عدد من الحالات والمناخات المعيّنة، أو تأدية بعض الوظائف المحدّدة، لاسيّما وأن حركة الحداثة هي التي طرحت موضوعة العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون.
ومهما يكن من أمر، فإن التمعّن في هذا العدد الكبير من القصائد التي كتبها عبد الرزاق عبد الواحد على نظام الشطرين، كفيل بأن يتيح للمرء الوقوف على براعته في المحافظة على أهمّ سمات القصيدة الكلاسيكية، من متانة في البناء، ونصاعة في البيان، وقوّة التراكيب اللغوية، ورونق الجملة، وتناسب الألفاظ، بالإضافة إلى جمال الأسلوب ورشاقة الصور التخييلية، مما لا يتأتّى إلا لشاعر كبير حقاً.
إلا أن ما يجب الوقوف عنده في هذا المجال، هو تلك اللمسات الإبداعية، والإضافات الفنيّة الخاصة، التي أسبغها الشاعر على بنية القصيدة، فجعلها تفور بالجدّة والحيوية، كما فعل في قصيدة (صبر أيوب) حين لم يلجأ إلى الطرائق المألوفة في مطالع القصائد التقليدية، بل افتتح قصيدته برواية حكاية من المأثور الشعبي عن المخرز الذي نسي تحت الحمولة على ظهر الجمل، ليباغتنا بذلك الشطر الشعري الذي ينفذ مثل المخرز، إلى قلب المتلقي ووجدانه:
قالوا: وظلّ ولمْ تشعرْ بهِ الإبلُ
يمشي، وحاديهِ يحدو، وهو يحتملُ
ومخرزُ الموتِ في جنبيهِ ينشتلُ
حتى أناخَ بباب الدارِ إذ وصلوا
وعندما أبصروا فيضَ الدما جفلوا
صبرُ العراقِ صبورٌ أنتَ يا جملُ
وصبرُ كلّ العراقيين يا جملُ
ومثل ذلك ما فعله في رائعته عن المتنبي، والتي يفتتحها بمشهد نرى فيه الشاعر وقد جلس ذات غروبٍ وحيداً، على شاطئ البحر، يتأمّله، فيتراءى له طيف المتنبي:
لا أكتمنّكَ، حدَّ المغربِ انعقدت
حولي ظلالُك، تغريني.. وتعتصمُ
جلست للبحرِ مأخوذاً برهبته
وكان بيني وأدنى موجهِ قدمُ
وكنت أرقبُ.. كان البحرُ في رئتي
وفي عروقي، وفي عينيَّ يلتطمُ
اللهُ.. كم كان ضخماً في مروءتهِ
وكم تأبّدَ فيهِ النبلُ والقِدَمُ
واللانهايةُ، والمجهول.. ثمّ سَرَت
بي رعدةٌ.. كنتَ عرضَ البحرِ ترتسمُ !
ولعل أهمّ ما يلفت النظر في القصائد ذات الشطرين عند عبد الواحد، سيطرة هاجسين رئيسين، تكاد لا تخلو قصيدة من التصريح المباشر بهما، أو الإشارة إليهما.
أما الأول منهما فهو ذلك التعلّق الشديد ببغداد المدينة، تعلقاً لا نكاد نرى ما يماثله في الشعر العربي المعاصر سوى تعلق نزار قباني بمدينته دمشق. فبغداد هي المبتدأ لكل خبر تبتكره مخيلة الشاعر. بل إن حقيقتها عنده أكبر من أي خيال. فهي التي وضعت فوق سِفر الحضارات سفراً إلى يومنا يقتدى، ومع ذلك حمّلوها وزرَ جميع الذنوب فكانت على حمله أجلدا. ولولا مائها ليبست عظام الشاعر ، ولولا إزارها لانكشف عريه.ومنذ أن شعشع الضوء لم يكن له عين غيرها، ولا رئة سواها. بغداد التي أمضى عمره كله يتتّبع شطآن نهرها وأمواجه في الليل كيف ارتجافها، وآخى فيها النخل طلعاً فمُبسراً إلى التمر، والأعذاق زاهٍ قطافها، وتتبّع فيها أولاده وهم يملؤونها صغاراً إلى أن شيّبتهم ضفافها، وتتبّع فيها أوجاعه ومسرى قصائده وأيام أهله. لذلك فما أن يمرّ في بال الشاعر خاطر عابر يدعوه إلى عوفها حتى يسارع إلى الاعتذار منها، لأن مجرّد عبور خاطر مثل هذا هو كبيرة من الكبائر التي لا تغتفر:
سلام على بغداد.. لست بعاتبٍ
عليها، وأنّى لي وروحي غلافها
فلو نسمةٌ طافت عليها بغير ما
تُراحُ به، أدمى فؤادي طوافها
وها أنا في السبعين أزمع عوفها
كبير على بغداد أني أعافها
أما الهاجس الثاني، فهو ذلك الشعور الطاغي بالاغتراب والقلق ووجع الروح. وهو شعور يلقي ظلاله على الكثير من القصائد ذات الموضوعات المختلفة، بالإضافة إلى تلك التي خصصها الشاعر بكاملها لهذا الشعور الوجودي العميق، مثل قصائد (الموجعة) و(يا أم خالد) و(في نهايات الأربعين) وغيرها. فبالرغم من أن الشاعر قد يكون استطاع أن يبثّ الفرح في نفوس الآخرين، إلا أن مأساته الخطيرة أن نفسه غير قابلة للفرح. وحتى لو تمكّن من اتقاء جميع السهام التي توجّه إليه، فأين سيهرب من سهم نفسه التي تكابد الحرقة التي مالها منتهى، والقلق الذي ماله مستقرّ؟ إنه مستوحش حدّ البكاء، حباله مقطّعة، وجمره مطفأ، ونصاله مكسّرة. مستفرد، لا العمّ عمّه إن ندب، ولا عزيز الخال خاله. وليس له سوى خيباته يجمعها حياله. عمره كله بدد، لا وقاء له ولا سند.
وقد يكون من المفاجئ أن تجري هذه التعابير المشحونة بلوعة الاغتراب وأسى الحرمان، على لسان شاعر أتيح له من أبّهة السلطة ونعيمها ما نَدر أن يتاح لشاعر آخر. إلا أنه الشعر الحقيقي الذي يبقى أميناً للجوهر الراخم في الأعماق، مهما ألقي على عاتقه من مهام ووظائف آنيّة، ومهما فُرضَ عليه من أقنعة زائفة وزائلة.
إلا أن عبد الرزاق عبد الواحد لم يقصر شعره على الشكل التقليدي للقصيدة ذات الشطرين. فموهبته الأصيلة، وتفاعله مع الكثير من التجارب الشعرية العالمية والعربية، ومجايلته لرواد شعر الحداثة، كل ذلك دفعه إلى كتابة القصيدة الحديثة بأشكالها المتنوّعة وتقنياتها المتعدّدة. فمن هذه القصائد ما يمكن إدراجه في خانة قصيدة تفاصيل الحياة اليومية، مثل قصيدة (قلق في ليل متأخر) حيث نرى الشاعر وقد أصيب بارتفاع الضغط الشرياني، وأصبح همّه الوحيد أن يثبّت جهاز الضغط على ذراعه . ولا شيء يمنح هذه القصيدة شعريتها غير إدراك الشاعر، بعد فوات الأوان، أنه أنفق عمره دون أن يلتفت لتآكل نياط قلبه، ليقول في خاتمتها:
إن قلبك مازال ينبض يا صاحبي
دع له في الأقل
أن يقرّر كيف سينهي نشازاته
وهناك أيضاً القصيدة التي تعتمد في بنائها على ما تولّده في نفس القارئ من إحساس بشعريّة الحالة، مثل قصيدته (انكسار) التي تتألف من ثلاثة سطور فقط:
ليس لي من أحد
ليس عندي إلا رغد
ورغد غائبة.
فمن الواضح أن كلاً من هذه الجمل القصيرة الثلاث ليست أكثر من جملة خبرية عادية يستعملها أي متكلم في حديثه العادي، دون أن يكون لها أية وظيفة أعلى من وظيفتها الإخبارية، إلا أن انضفار هذه الجمل في ضفيرة واحدة جعل المتلقي يحس بشعور الأب الذي يختزل الوجود كله في ابنته (رغد)، وجعله يتلقى لوعة الفقدان وحس الاغتراب عند هذا الأب، الذي يبدو وحيداً مقطوع الصلة عن كل ما يربطه بالحياة، بسبب غياب ابنته. وبالتأكيد، فإن العنوان الذي وضعه الشاعر لهذه القصيدة القصيرة (انكسار) كان له دوره الكبير، كعتبة نصّية، في تفعيل تلقي هذه الحالة وشعرنتها.
وهناك أيضاً القصائد التي تقوم على المفارقة. بل إن تقنية المفارقة، بأنواعها المختلفة، تبدو من أكثر التقنيات التي يعتمدها عبد الواحد في بثّ شعرية نصوصه. وهذه المفارقة قد تكون لفظية كما في هذا النص:
يتسع الزمان
يتسع المكان
تتسع الأرقام
تتسع الأبعاد والأحجام
ويصغر البشر
فيصبحون بينها أقزام.
كما قد تكون المفارقة معنوية أو درامية، كما في قصيدته (إدمان) التي تذكرنا بقصة النمور في اليوم العاشر لزكريا تامر:
سنوات وهو يدور
مشدوداً في هذا الناعور
دَميت منه الرقبه
وتآكلت الخشبه
من كثرة ما دار .
ذات نهار
سقط النير
وقف الثور مروعاً
لا يدري كيف يسير.
ومن التقنيات التي تبدو أثيرة عند شاعرنا أيضاً، تقنية الضربة الأخيرة. حيث يأتي السطر الأخير من القصيدة، ليضيء معنى السطور التي سبقته، ويوقد الشعريّة الكامنة فيها، مثل هذه القصيدة:
حضورنا مبتدأ
تجاوز انكسارنا
مبتدأ
مسألة انتصارنا
مبتدأ
وكلها تبحث عن خبر.
وقد تجتمع تقنية الضربة الأخيرة، مع تقنية المفارقة، فتتآزران في تفعيل شعريّة النص، كما في هذه المقطوعة القصيرة من يوميات إعرابي:
قلبوا كلّ مآذنهم
صارت آباراً
قلبوا الآبار
أصبحن مآذن..
لم يتحرك في الأمة من ساكن.
وفيها نرى المفارقة في قلب المآذن إلى آبار، وقلب الآبار إلى مآذن، مما يعني أن العرب قد تنكّروا لكل مقدساتهم، ورموا تاريخهم وسلخوا عنهم هويتهم، سعياً وراء الربح الذي يدرّه عليهم النفط. بل جعلوا من النفط إلهاً يعبدونه ويرفعون إليه آذانهم وتسابيحهم. ثم تأتي الضربة الأخيرة لتضيف بعداً جديداً لا يقلّ إثارة، وهو أنه بالرغم من هذا التحوّل الخطير، الذي أطاح بكيان الأمّة ومصيرها، فإن أحداً لم يرفع صوته في وجه هذا التغيير، وإن شيئاً لم يتحرّك في مستنقع هذه الأمّة التي يبدو أنها فقدت القدرة على الحياة منذ زمن طويل قبل أن يعصف بها هذا التحوّل الخطير.
وفي كثير من الأحيان، يلجأ الشاعر إلى استخدام تقنية الحوار، استخداماً بارعاً يضفي مسحة دراميّة على النص، ويشدّ القارئ ويحفّز حواسه . وقد يأتي الحوار كتقنية فنيّة إضافية ضمن النسيج الشعري العام للنص، كما في قصيدة (في معرض الرسم) حيث لا يكتفي الشاعر ببث الحوار في ثنايا القصيدة، بل يعلّق عليه أيضاً واصفاً حال الشخصية التي تتكلم، مثل المؤلف المسرحي الذي يصف حال أبطاله في المشهد، كما في المقطع التالي:
ترسمين؟
(تصبّب نهرا ضياء بعينيّ )
أكتبُ
( ها أنتَ تغرق
ها أنتَ
حوّلت الماء..
يختلط الصوت بالصوت
تصبح كل الأحاديث لغطاً
وتَبهَتُ
لم تنشري؟
خلتها تتعمّد إخفاء ضحكتها..
وبعد أن يتحوّل الشاعر إلى مونولوج داخلي يعبّر فيه عن فقدانه كل نقاط ارتكازه في المدى المتوتّر الذي يضيق بينه وبين تلك المرأة التي تغرقه في عينيها حدّ أن تتلامس أطراف كل المفاتيح، يأتي سؤالها الأخير على شكل ضربة مفاجئة:
هاهو زوجي.. تعارفتما قبل ؟
فترخي جميع المفاتيح أوتارها.
وقد تقوم القصيدة بكاملها على الحوار، بشكل تصحّ معه تسميتها بالقصيدة الحوارية. كما في قصيدة الهبوط الأول التي كتبها الشاعر ليلة هبوط أرمسترونج على سطح القمر. وهي حوارية جميلة ومكتنزة بالمعاني والإيحاءات الشعرية. وسيبلغ افتتان الشاعر بتقنية الحوار الشعري مبلغاً يجعله يكتب مسرحية شعرية بعنوان (الحرّ الرياحي)، وإن كانت كلمة (مسرحية) تغمط هذا العمل الشعري الكبير كثيراً من حقه، على حدّ ما يقوله الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، الذي يضيف أن من حق هذا العمل أن يوصف بكلمة (دراما) وبالمعنى الأرسطي في أسمى درجاته.
كما يبرع عبد الرزاق عبد الواحد في كتابة (القصيدة القصصية)، مستفيداً من الطاقات التعبيرية الخاصة بفن القصة القصيرة، وموظّفاً أحدث التقنيات الفنيّة التي يستخدمها كتاب القصة القصيرة. ولا شكّ أن إضافة جماليات القول الشعري إلى جماليات الفن القصصي ستمنح القارئ مزيداً من المتعة، وتفتح له آفاقاً أرحب لتذوّق النص والتفاعل معه. وربما كانت قصيدة (هارب من متحف الآثار) من أجمل الأمثلة على القصيدة القصصية. وفيها نرى واحداً من المحفوظين في متحف الآثار منذ خمسة آلاف عام، وقد استيقظ وخرج من صمته المرمريّ، فيحبو فاغراً مقلتيه إلى اللوح الموضوع أمام الزجاج الذي كان يرقد خلفه، ليقرأ اسمه وبلدته، فيتذكّر أولاده وبيته. ويقشعر من الرعب حين يدرك أنه أمضى خمسة آلاف عام وراء الزجاج، الذي ثقبته آلاف الأعين الغريبة وهي تنفذ إلى عريه وقد تشظى به اللحم والدم. وبتقنية (النهاية المفتوحة) التي تميّز الكثير من القصص الحديثة، ينهي الشاعر قصيدته بهذا المقطع:
ألقى على كتفه عريَه السرمديَّ
تأبّط موتهْ
تهادى بهيبة خمسة آلاف عام ترابيّ
استيقظت كل أعمدة النورِ
دارت مصاريعُ كل النوافذِ
سالت عيوناً
تخطّى.
وستتجلى أبهى صورة للاندغام الفني بين اللغة الشعرية وبين لغة السرد عند عبد الرزاق عبد الواحد، في المطوّلة الشعرية التي حملت عنوان (الصوت) وانضوت على كثير من العناصر الملحمية، والرموز المستمدّة من التراث العربي والإنساني، مثل سبأ وإرم ذات العماد ويوحنا المعمدان والسيد المسيح وغيفارا وباتريس لومومبا، في محاولة لاستقراء تاريخ الإنسان منذ الطوفان الأول، وحتى الطوفان الحالي الذي يهدّد اليوم الوجود البشري برمته.
وهكذا فإن الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، استطاع أن يكون لاعباً رئيساً في حلبة الحداثة الشعرية العربية. وتلك ميزة هامة تميّزه عن الكثيرين من شعراء الكلاسيكية الجديدة، بالرغم من أنه يعدّ بحق، بعد رحيل الجواهري، الحامل الأول للوائها في الشعر العربي المعاصر.