جورج البهجوري.. فنان عالمي يهدي لوحاته لمقاهي القاهرة
- خلف جابر
- المصدر: الميادين نت
21 كانون الثاني 2020م
منذ عودته من باريس في تسعينيات القرن الماضي، اعتاد أن يهدي جيرانه لوحات بتوقيعه؛ ليعلّقوها في مقاهيهم، كما اعتادوا أن يبادلونه المحبة والاحترام.
بخطوط كاريكاتورية، وصفتها لجنة تحكيم المسابقة العالمية للكاريكاتير في روما عام 1985 بأنها خطوط ساحرة، قبل أن يفوز صاحبها بالجائزة الأولى، عن بورتريه لـ”فرانكو” الزعيم الإسباني الشهير، وقفت لوحة السيّدة أمّ كلثوم.
لكن في تلك المرة كانت في وسط القاهرة، وبدلاً من أن تستند إلى حامل داخل معرض للفن التشكيلي في العاصمة الإيطالية، استندت إلى حائط مقهى شعبي في شارع “معروف” القريب من ميدان طلعت حرب في وسط العاصمة المصرية، وفي أسفل اللوحة خطّ توقيع جورج البهجوري.
ليس مقهى “نادي العمال” وحده الذي يضمّ لوحة للفنان البهجوري، بل هناك الكثير غيره في محيط وسط البلد، ولا سيما القريبون من شارع “معروف” حيث يقع مرسمه ومنزله.
فهذا الرجل ومنذ عودته من باريس في تسعينيات القرن الماضي، اعتاد أن يهدي جيرانه لوحات بتوقيعه؛ ليعلّقوها في مقاهيهم، كما اعتادوا أن يبادلونه المحبة والاحترام.
صاحب “نادي العمال”: لوحة البهجوري كانت وشّ السعد
كان “عمّ محمّد” صاحب مقهى “نادي العمال” يرتدي ثوبه الأبيض، ولا تتوقّف خطواته، مع كل زبون يدخل المقهى. يسرع تجاهه؛ ليسأله عن طلبه، والذي يعرفه كل زبائنه بعد ثوان، “معاك شاي خفيف للأستاذ”، مستغلاً بذلك المسافة ما بين الزبون و”النصبة” التي يقف خلفها صنايعي آخر ليحضر المشاريب، فما إن وصل إليه حتى يجد الشاي في انتظار أن تحمله يداه؛ ليعود به ثانية إلى الزبون.
في بداية حديثه للميادين الثقافية يحكي “عمّ محمّد” صاحب الـ45 عاماً، عن مجيئه من محافظة سوهاج، التي تقع جنوب مصر، قبل 20 عاماً، شاباً صعيدياً حلم كثيراً بالقاهرة، ليعمل في مقهى “نادي العمال”، ومنذ ذلك الوقت “تعرّفت على الفنان البهجوري، كان دائماً ما يأتي إلينا ليشرب قهوته، ثم يذهب إلى مرسمه في الشارع المجاور”.
يعامل الفنان جورج البهجوري أصدقاءه “القهوجية” بودّ شديد. وكان كلما سافر إلى فرنسا؛ عاد مسرعاً إليهم ليحكي لهم عن رحلته، والمعارض التي شارك فيها، وكيف فتن الفرنسيون برسوماته، كما لا يفوته أيضا ًأن يحكي لهم عن نساء فرنسا الجميلات، ومن ثم يتبادلون الضحك، حسبما يروي لنا “عمّ محمّد”.
وبشأن لوحة أمّ كلثوم الموقّعة بخط البهجوري، والتي أصبحت مَعلماً أساسياً من معالم المقهى، وجزءاً لا يغفله الزبائن، وكثيراً ما يلتقطون صوَر “السيلفي” معها، يحكي “عمّ محمّد” أنه بعد مرور السنين تمكّن هو وصديق له أن يستأجرا المقهى من صاحبه، ومن ثم فرح صديقهما الفنان العالمي كثيراً، وأراد أن يؤازرهما، فلم يجد غير فنه ليدعم به أصدقاءه: “كان فرحان جداً، وقال لنا هرسم لكم لوحة جميلة تعلّقوها في المكان”.
مرت أيام قليلة على وعد الفنان لأصدقائه، ليُفاجآ بدخوله حاملاً لوحة السيّدة أمّ كلثوم، وهي تقف بمنديلها، بينما في الخلفية يقف أفراد فرقتها الموسيقية بآلاتهم، وكل ذلك على طريقته الكاريكاتورية، غير مكتفياً برسمته، بل جاء بها في بروازها، حتى لا يكلّف أصدقاءه سوى جهد تعليقها على الحائط: “كانت وشّ السعد، الزبائن عرفوا القهوة بالصورة، وأحبوها، فمرتادو المكان يعرفون قيمته، هو عالمي، وإن كان صاحبنا فلأنه متواضع”.
رسم أمّ كلثوم كثيراً.. وعبد الوهاب قال له “الستّ زعلانة”
ليست تلك هي المرة الأولى التي يرسم فيها البهجوري السيّدة أمّ كلثوم، ذلك أن تاريخاً له مع “الست” كما يقول للميادين الثقافية. فقد باع لها ما يزيد عن 200 لوحة، رسمها عبر تاريخه الطويل، وكان يظهر في بعض هذه اللوحات نائماً في حفلاتها: “كنت انتقد بذلك تيمة تكرار الكوبليهات لديها، فغضبت كثيراً، حتى إن الموسيقار محمّد عبد الوهاب اتصل بي هاتفياً وقال لي: (الست زعلانة، خفّ النكت دي شوية). لكن البهجوري التقى “الست” وسمع عتابها له ضاحكة “يا واد إنت مش هتبطّل بقى؟”.
يؤكّد البهجوري عشقه لسيّدة الغناء العربي، وتقديره لقيمتها الفنية. لذلك فلا عجب أن نجد لوحات أخرى لها ممهورة بتوقيعه، مثل تلك المعلّقة في مقهى “النصر”، الذي يضمّ لوحتين أخريين لأشخاص كثر، تحيطان بلوحة أمّ كلثوم، وكلها بتوقيعه.
يضم “أبو عميرة” أقرب المقاهي لمرسمه، بمسافة 10 أمتار تقريباً، لوحة أخرى لأمّ كلثوم، وقد عُلّقت بحيث تكون واضحة للعيان، وعنها يقول محمّد أبو عميرة، صاحب المقهى، إنها رسمت قبل عامين، عندما شرع في افتتاح مقهاه :”كان الفنان (البهجوري) يجلس لديّ في الصباح ليشرب قهوته، فطلبت منه أن يرسم لي صورة أعلّقها عندي، فرسوماته موجودة في المقاهي الأخرى”، مضيفاً “وعدني أن يرسم لي لوحة هدية، ومرت الأيام من دون أن يحقّق وعده، حتى ظننت أنه لن يفعل، وفي يوم وجدت الفنان أتى إليّ بلوحة كبيرة لأمّ كلثوم، يحملها بصعوبة بحُكم كبر سنه، فرحت بها جداً وعلّقتها”.
ويختتم صاحب المقهى كلامه مؤكّداً على مكانة تلك اللوحة لديه، مرجعاً ذلك لمعرفته بقيمة جورج البهجوري، والذي كثيراً ما رأى صورته ورسوماته في المجلات والجرائد.
البهجوري: انتظروا كتاباً جديداً.. وعامل في المقهى: هو فنان متواضع
يؤكّد جورج البهجوري (88 عاماً)، أن لديه الكثير من الرسومات لأشخاص قابلهم، وأنه بصدد إصدار كتاب يضمّ كل تلك اللوحات، تحت إسم “كروكيات بهجوري”، ومن بينهم أصدقاؤه “القهوجية” .
فعند مدخل مقهى “غزال” الشهير في وسط البلد، والذي يعدّ أحد أهم أماكن تجمّع الكتّاب والمثقفين في القاهرة، تجد لوحتين، الأولى لعامل في المقهى يدعى حسن يوسف وهو يحمل المشاريب بيد وباليد الأخرى يمسك النارجيلة، والثانية لزميله ويدعى عاطف ممسك بـ”الشيشية”، ومن اللوحتين الموقّعتين باسم البهجوري تستشفّ دور كل منهما في المقهى.
يحكي حسن يوسف عن صورته قائلاً إنه طلب من البهجوري أن يرسمه، وكان ذلك منذ 3 سنوات، حيث اعتاد أن يرى هذا الفنان يجالِس مثقفين، أو ربما صحفيين جاؤوا لإجراء حوار معه: “كنت أعرف أنه فنان مشهور، وأنه صعيدي زيّي، أنا من أسيوط وهو من قرية بهجورة في محافظة قنا، وهو قليل الكلام، وفي يوم طلبت منه أن يرسمني، أبدى موافقته وانصرف، وفي اليوم التالي جاء بصورتي، بل وصنع لها بروازاً”.
يوضح حسن يوسف (43 عاماً)، أنه لا يعرف عدد معارض جورج البهجوري التي أقامها في مختلف بلدان العالم، كما لم يقرأ شيئاً من كتبه “أيقونة فلتس- بهجر في المهجر- من بهجورة إلى باريس- الرسوم الممنوعة”، لكنه يعرف بحكم مِن يجالسون الفنان، أو معرفته لمرسمه الشهير في وسط البلد، أنه “عالمي”.
واختتم حديثه للميادين الثقافية قائلاً إن “الأستاذ البهجوري فنان كبير ومشهور، لكن عندما تراه في المقهى؛ ستجده شخصاً إبن بلد ودمه خفيف، أتذكّر يوم رآني حزيناً فأصرّ أن أخرج تليفوني وطلب من شخص أن يصوّرنا، ولم يتركني إلا بعدما ضحكت”