الرسام والشاعر المغربي فؤاد شردودي في معرضه (اندبندت عربية)
المغربي فؤاد شردودي: فتنة الصورة بين الرسم والشعر
قماشة الكمامة صارت تشبه قماشة اللوحة والوباء طرح سؤالا عن جدوى الفن حيال المأساة
عبد الرحيم الخصار الخميس 22 أكتوبر 2020
يقطع فؤاد شردودي محيط الإبداع بمجذافين متناغمين: الشعر والتشكيل. وسواء بالكتابة أو الرسم يترافع على القيم الجمالية ذاتها، هو أحد الذين اختاروا الانضمام إلى الحياة الفنية والثقافية بكل راهنيتها. يسعى باستمرار إلى أن تكون له لمسته الخاصة في مجال جاء إليه بثقافة كبيرة وروح شاعرية. ومثلما حصل على جائزة “بيت الشعر” في المغرب حصل أيضاً على الجائزة الأولى لبينالي الفنانين العرب في الكويت. أصدر أعمالاً شعرية، من بينها: “السماء تغادر المحطة”، “من باب الاحتياط”، “عدوات يوم واحد”، وعرض لوحاته في المغرب، فرنسا، الجزائر، إسبانيا، الكويت، تونس وغيرها. توجد الأعمال الفنية لفؤاد في أهم المؤسسات المُقتنية كالبرلمان ومتحف محمد السادس ووزارة الثقافة ومتحف بنك المغرب. كما أن عدداً من أعماله دخلت إلى مزادات عالمية.
زرناه في معرضه الجديد المقام في رواق “أرتيم غاليري” في الدار البيضاء، كخلاصة تجربة دام البحث فيها مدة طويلة، تجربة عمّق فيها اشتغاله على بلورة تصوره الشخصي لخطاب بصري مختلف ومشاكس، على الرغم من وفائه للمدرسة التجريدية التعبيرية. يقول فؤاد عن تجربته: “المتتبع مساري الفني يكتشف منذ الوهلة الأولى ما يتسم به هذا المعرض من خصوصية وهوية بصرية، ففي مستوى تقني خالص صرت في أعمالي الأخيرة أكثر إنصاتاً لحساسية اللون ومساحات انتشاره في اللوحة. هو إنصات صاغته رؤية جمالية تحتكم بالأساس إلى منطلقات شعرية وتخييلية. ولعل العتبة الأولى لهذا المعرض والتي هي عنوانه تدل على عمق هذا التصور، فالشعر ظل داخل سفر اللوحة هو الوجهة والرحلة أيضاً. الشعر باعتباره تشكيلاً جديداً للعالم وتخطيطاً لصيغ مبتكرة للوجود. ولأن فضاء “أرتيم غاليري” يشكل بالنسبة إلي أكثر من مجرد رواق فني، فقد كانت سعادتي بالغة وأنا أقدم فاكهة هذا الاشتغال لجمهور الفن التشكيلي ومتذوقيه بالدار البيضاء”.
بارقة أمل
يأتي معرض فؤاد شردودي في فترة صعبة، لذلك سألناه عن إقبال الجمهور في الزمن الكوروني، فأجاب: “في الحقيقة لقد تحايلنا على ظروف العرض وإكراهاته في هذا التوقيت الذي يشهد تأزماً كبيراً بفعل انتشار وباء كورونا، ولعلني آمنت منذ البداية بأن الفن يجب أن يظل الباعث الأول على الحياة وعلى المقاومة. طبعاً كنا نعي أن العرض في ظروف مماثلة يشبه المغامرة حيث من الصعب جداً أن تضمن لمعرضك جمهوراً حياً، ثم إن القوانين تجرم ذلك”. لهذا التجأ شردودي إلى دعوات خاصة حتى لا يكون عدد الزوار كثيراً، كما اعتمد التواصل مع جمهور يقف خلف شاشات الهواتف والحواسيب، ممن منعته الظروف من التنقل. يضيف فؤاد: “أعتقد أن المعرض في هذا الظرف بالذات حقق المراد، وحرّك مياهاً ظلت راكدة شهوراً. فالمعارض الفنية صارت نادرة، وهذا في حد ذاته كان دافعاً قوياً لبعث بارقة أمل في سماء صارت رمادية وثقيلة”.
هل تسرب كوفيد-19 إلى لوحاتك؟ أقصد هل تفاعلت مع الوباء فنياً؟ يجيب شردودي: “أعتقد أن الإبداع الحقيقي لا يمكن أن يتخلق إلا في تواشج مع واقعه، إن بشكل مباشر أو غير مباشر. في حالتي وبعد ظهور هذا الوباء وتفشي سطوته عبر العالم أصبت بذهول غريب شلّ أفكاري كما شل يدي. صرت أفكر في نهاية ما لهذا العالم الذي فاجأنا بهذا المنعطف الحاد. صرت مشغولاً بأسئلة الجدوى، ما جدوى أن أكتب؟ ما جدوى أن أرسم؟ كانت المشاهد والأخبار تزلزل الأرض من تحت قدمي أنا الذي اعتدت الوقوف على أرض صلبة وهادئة. بعد تفكير ووقت وبعدما أخذت مسافة وجدانية كافية لتأمل الوضع، خلصت إلى أن دوري يجب أن ألعبه كاملاً. لذلك التجأت إلى المرسم وحاولت أن أعبر عمّا يخالجني فنياً، وأن أجعل من الألوان والخطوط والأشكال نداءات للفرح. وصرت كلما أنهيت عملاً أحس كما لو أنني زرعت شجرة في حديقة المستقبل”.
لوحات من المعرض المغربي (اندبندنت عربية)
وجوه شاحبة
هذا التفاعل ترجمه الفنان المغربي في لمسات خاصة داخل أعماله الفنية. يقول عن ذلك: “صارت الكمامة ومفردات مظاهر الزمن الكوروني حاضرة في أفقي البصري بصيغ بديلة، فقد أنجزت أعمالاً تتحدى واقع الخوف والهلع والتوجس من السقوط في كل حين، وتلك الوجوه الشاحبة المتكلسة التي بلا روح، تتوسطها قطع قماش، قد تقيها الموت. القماشة هنا صارت صنو الحياة، كما صارت قماشة لوحتي بالمعنى والأهمية نفسيهما، هي في الحالتين إعلان عن محبة الحياة وتشبث بروحها الجميلة”.
طرحنا على فؤاد سؤالاً ربما طرح مراراً، عن التوفيق بين التشكيل والشعر. وبدا لنا أنه سؤال يجب أن يُطرح على الدوام. فقد يغير الفنان يوماً ما رأيه في الشاعر أو يغير الشاعر رأيه في الفنان. يؤكد فؤاد أن هذا السؤال يلاحقه أينما حل وارتحل، وهو سؤال تفرضه التجربة التي ينتمي إليها والتي يشتغل إبداعياً من داخلها. ويفسر طبيعة العلاقة بين هذين الحقلين الإبداعيين على النحو التالي: “الحقيقة أن كل ما قُمت به حتى الآن هو في صالح إلغاء أية مسافة ممكنة بين التشكيلي والشاعر فيّ، بحيث إن كليهما ينصهر في الآخر، حتى أنه يسعدني كثيراً أن تُنسَبَ أعمالي التشكيلية إلى الشاعر مثلما تنسَبُ قصائدي إلى التشكيلي. ولم يحدث مرة أن وعيت بالقطيعة بين الممارستين. كتبتُ لأرسُمَ ورسمتُ لأكتُبَ. دائماً كنت أؤمن بأن الكتابة والرسم فعلان إبداعيان متكاملان، وفي داخلهما ما يجعلهما متماثلين إلى حد التطابق. فكلاهما يعتمد الصورة أساسا له، الصورة المتخيلة في القصيدة توازيها الصورة البصرية الإيحائية في اللوحة. وبذلك فإنني لا أجيد تحديد المسافة بين الفعلين”.
يعمق فؤاد فكرته حين يقول: “لا أهرب من الكتابة إلى الرسم أو العكس، بل أعيش بينهما في ودّ تام، وأحياناً أقوم بهما في الوقت نفسه مثلما يقول في إطار هذا التداخل فرناندو بوتيرو: (أبدأ كشاعر، فأضع الألوان والتكوين على القماش كرسام، لكنني أنهي عملي كنحات يأخذه السرور وهو يداعب الأشكال).
كثيراً ما كتبت ورسمت في الوقت ذاته، لذلك يبدو جلياً لكل مهتم أن الأسئلة ذاتها التي تسكنني في اللوحة تسكنني في القصيدة أيضاً، ولعلها أسئلة من داخل الممارسة الفنية وليست من خارجها على اعتبار أن الرسم والشعر يستدعيان بعضهما، أو كما يقول جورج براك (الشعر بالنسبة للصباغة مثل الحياة بالنسبة للإنسان).
تجاور وتحاور
يستعيد فؤاد مساره ليعلل رأيه: “في نطاق هذا التحاور والتجاور كنت قد قدمت تجارب تشكيلية يحضر فيها الشعري بسلطته وعنفوانه. أذكر معرضي عن شعر محمود درويش سنتي 2009 و2018، كما أن العديد من الأصدقاء يكتشفون بشكل واضح، التماهي التشكيلي الشعري في دواويني الشعرية، وحضور الألوان والإحالات والصور البصرية التي تكون في غالبها استئنافاً لعمل المرسم”. ويضيف الفنان المغربي: “سواء في الكتابة أو في الرسم ما يقودني هو السؤال، ذلك السؤال البسيط الذي أتتبع تفاصيله مثل ضوء منفلت، لذلك فأنا أفكر كثيراً في القصيدة كما أفكر في اللوحة. لا أطمئن إلى الجاهز منهما، أجرب دائماً أن أخوض مغامرة جديدة، وأبحث في تجريب أشياء غير مسبوقة على الأقل بالنسبة لي، وفي ذلك متعة كبيرة وفرح طفولي ممتع”. يستحضر فؤاد طرفة وهو يتحدث إلينا ضاحكاً: “أحد أصدقائي قال لي ذات مرة مازحاً: أنت تجمع النقود من التشكيل لتصرفها في الشعر، وأعتقد أن الأمر قد يكون صحيحاً في مستوى معين. غير أن خطابي التشكيلي لا ينحو إلى مخاطبة الماديات ولا أسعى من خلاله إلى تسويق أعمالي بشكل مادي فارغ من جوهر الفن. اللوحة في نظري قيمتها الجمالية والروحية أهم من كل شيء، والقصيدة كذلك”.
يبدو أحياناً أن التشكيلي هو شاعر بالضرورة. لذلك سألنا فؤاد أن كان يؤمن بأن الفنان بمقدوره الذهاب إلى اللوحة من دون معرفة بالفن، وقصدنا بذلك دور التكوين الأكاديمي وتأثيره في العمل الفني. فأكد أن الشعر واللوحة موجودان في كل مكان، يكفي أن ننتبه ونقتنص الجملة الشعرية والمشهد البصري المتفردين اللذين يخرقان المألوف ويصنعان المفارقة. يشرح فؤاد فكرته: “وفي نظري تصور الشعر مرتبطاً بالكتابة وبنص القصيدة، تصور ضيق للغاية. فالشعر منبثّ وموجود في كل أشكال الحياة ومظاهرها. الشعر هُوَ حَظنا من الحياة. وهو الطاقة الكامنة وراء ارتفاع الجبال وانبساط السهول وانخفاض المنحدرات”.
وعند سؤالنا له: ما الذي يعانيه حقل التشكيل في المغرب؟ وقصدنا الدعم والاحتضان وحضور التشكيل في السياسة الثقافية للدولة، كان جوابه متفائلاً، إذ أكد لنا أن المجال التشكيلي في المغرب يعد بالكثير من الضوء على الرغم من المشكلات العديدة التي تتربص به، وتساءل معنا: “ماذا لو كانت الأجواء في المغرب أكثر دعماً ووقوفاً إلى جانب الفن والفنانين؟ حتماً سيكون الواقع الفني في بلادنا رائداً وسينال احترام العالم وتقديره”.
لقد قطع التشكيل في المغرب – بحسب فؤاد – مساراً مهماً في إطار تأسيس ذاته علماً أنه لا يزال في بدايته. فلا يمكن الحديث عن خطاب تشكيلي في البلاد إلا من داخل مسافة زمنية تفوق نصف قرن بقليل، وبالتالي فما أنجزه هذا الخطاب إلى حد الآن يعتبر حصيلة مهمة. يضيف: “هناك في المغرب حساسية تشكيلية جديدة واعية بشرطها الزمني والإبداعي، تناقش إبداعها من منطلقات معرفية يحكمها التجريب. هذه الحساسية لم تظل حبيسة المنطق الجغرافي ولا الثقافي الضيق، بل شكلت حواراً بناء وتجاوباً مع المنجز البصري على الصعيد الكوني. وبالتالي صار العديد من المهتمين بالفن خارج البلاد يتابعون المنجز التشكيلي الجديد. وقد لعبت منصات التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في إثارة الانتباه إلى الخطاب التشكيلي الجديد في بلادنا، فحظيت بعض التجارب باهتمام ومتابعة من المغرب والمشرق أيضاً. أضف إلى ذلك حضور الفنانين المغاربة في الملتقيات والسمبوزيومات الدولية، والذي شكل نقطة ضوء. على المستوى الشخصي أحاول دائماً الحضور خارج المغرب وفتح أفق كوني لانتشار أعمالي، تُوّج ذلك بدخول بعضها في مزادات علنية عالمية مؤخراً، كما هو الشأن بالنسبة لفنانين مغاربة آخرين”.