في «بوح الحجارة» للمصور الفلسطيني العالمي أسامة السلوادي» –
تحسين يقين –
ما الذي أراد أن يقوله المصور أسامة السلوادي في كتابه عن التراث المعماري الفلسطيني المعنون بعبارة شاعرية: «بوح الحجارة».
لقد صور السلوادي لعدة أماكن تاريخية أثرية بعضها تتعرض للإهمال، وهي أماكن معمارية رسمية ومحلية ظهرت في عهود مختلفة، لكنها تتميز بأنها تنتمي للمعمار المحلي، في سياق اهتمامه بالممتلكات الثقافية الفلسطينية.
فبوح الحجارة هو الجزء الثاني من مشروعه لتوثيق التراث الفلسطيني؛ بعد ملكات الحرير الذي وثق الأزياء التقليدية، وبعد وثائقه المصورة عن القدس وفلسطين.
في رؤيته لحضارة البلاد في جانبها المعماري بأنها «تجمع ما بين العلم والفن والذوق والوضع الاقتصادي والقوة السياسية» يكمن وعيه الفني والثقافي والفكري، حيث أنه بفضل العلوم الهندسية والمعمارية الفنية، وفي ظل وفرة اقتصادية، ووضع سياسي مستقر، تم تأسيس مراكز المدن التاريخية. ويمكن تفسير العمارة المحلية في القرى والبلدات تبعا للمستويات الاقتصادية والذوق الفني.
لقد رصدت كاميرا السلوادي المصور المعروف بحبه للطبيعة والمعمار التاريخي، أثر الحضارات التي مرت والتي منها «الكنعانية والإغريقية والرومانية، والإسلامية المتنوعة بعصورها: الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني، والتي كل واحدة منها تركت أثرا من المعابد والأضرحة والحليات والزخارف والمسارح والأعمدة والأسقف والجدران والأسوار والقباب».
أما مدخل القارئ-المشاهد لكتاب «بوح الحجارة» فكان نصا أدبيا رفيعا كتبه مهندس معماريّ وأديب هو نصير عرفات، والذي حلل العمارة المحلية المتداخلة ودلالاتها الإنسانية، من خلال أسلوب أدبي جماليّ.
يجذب الكتاب المصور متصفحه من الغلاف، فهي تحاكي سحر البلدات القديمة في فلسطين، كما في القدس والخليل ونابلس، حيث أن الأسلوب المعماري نفسه يخلق فضاءات الإضاءة، أي اللعب البصري بين الأبيض والأسود، حيث تظهر إضاءة قادمة من مدخل سماوي معين، يتلوها ظل، فإضاءة جانبية تشي بمنفذ ما، كأنها تغري العين بمواصلة المسير لاستكشاف المكان.
إن وعي المصور هنا هو وعي فنان تشكيلي مدرك لعناصر لوحته، يستجلي السحر الحاضر في الواقع ليعكسه في الصور. وهو أسلوب شاعري مرهف.
معمار فصول الكتاب: جاءت انعكاسا لعناصر العمارة، مضافا عليها مشاهد كلية لمدن وطبيعة، وكانت على النحو التالي:
الشبابيك: صورت الكاميرا تنوع شكل الشبابيك من مربع ومستطيل ودائرة، وما نقش عليها من كلمات وعبارات دينية وأدبية واجتماعية ونوع الحجارة وما في فضاءاتها من حديد وخشب، وفقا للعصر ومستوى التصنيع.
الزخارف: وهي الزخارف الموجودة على الحجر والحديد والخشب في العناصر المعمارية. من هذه الزخارف: النبي الخضر، عبارات مثل: هذا من فضل ربي، الملك لله الواحد القهار، والاسم والتاريخ، إضافة للمقرنصات، وفي هذا الفصل بالطبع ظهرت صور شبابيك وأبواب وأعمدة وأقواس.
الأبواب: وقفت الكاميرا لترينا أبواب المساجد ودور العبادة والبيوت، ظهر فيها القدم وبصمات الطبيعة من طحالب وتأكسد.
الأقواس: في الخارج ومداخل البيوت، وأقواس الشبابيك وأقواس الأبواب، وأقواس الأزقة الساحرة، وأنصاف الأقواس، في القرة والمدن، وأقواس عمائر البيوت والمعابد الدينية ، وقوس برج الساعة في نابلس، حيث يظهر هنا حبّ المصور لهذه الأقواس، لاستقصائه أماكن وجودها ومواقع الوجود العضوية نفسها.
البيوت: في رصده للبيت كموقع معماري-عمراني، تظل الكلانية الشكلانية، فظهرت بيوت وقصور شخصيات معروفة، وأخرى لم يتم توثيقها، وأدراج، وأحواش عريقة خصوصا بنابلس. وأرتنا الكاميرا ما هو قائم نها، وما هو ومهمل خرب يثير الرثاء إن وقفنا على أطلالها.
الشرفات:
وهي البلاكين، وأساليب بنائها وإضافتها تأثرا بالحداثة والعمارة الكولينيالية، والمشربيات المعروفة في التراث المعماري العربي ومساحات مختلفة.
مبان تاريخية، ظهرت منها: دير واد القلت، ودير قرنطل، المعلقين والمنحوتين في الجبال، وكنيسة القيامة من الداخل وقصر هشام، وقلعة صلاح الدين على جبل جرزيم، أعمدة سبسطية، وير يعقوب بنابلس، سور القدس وأبوابها قبة الصخرة، دير أرطاس، والكنيسة الجثمانية، والحرم الإبراهيمي. وبالطبع فإنه في تصويره لتلك المباني التاريخية، فإنه يظهر فيها عناصر العمارة السابقة.
معالم جديدة: وهو هنا وهو يميل للتوثيق، لم يشأ إغفال الحاضر، فقام بتصوير ضريح عرفات ومتحف درويش، برج فلسطين التجاري كعمران معاصر.
مناطير ريفية: وتسمى بالقصور أيضا، وهي خاصة بالمزارع والكروم البعيدة عن التجمعات القروية. صوّر لنا أشكالها، فبعضها بطابقين، ومعروف هنا أن ما ينهدم منها لا يعاد بناؤه.
مشاهد عامة: أماكن الصور كانت طبيعة إضافة للمدن والبلدات والقرى، إلا أنه ركّز على مدن نابلس ورام الله وبيرزيت وبشكل أقل على والخليل والبيرة وعكا وغزة.
في الأسلوب
في صوره الملتقطة، لم يشأ الفنان هنا التقاط صور مجردة، بل عمد إلى التقاطها ضمن سياقها المعماري والطبيعي؛ حيث يظهر النبات الأخضر مضفيا حيوية حتى على المكان الأثري المهمل، كما تظهر أجزاء معمارية محددة ليتم التركيز عليها، كالأبواب والنوافذ والزخارف والأعمدة. أما صورة المعمار مع الحمامة بجناحيها، فصنعت حركة، كأنما أراد المصور تحريك القلب حنينا وشوقا لبيوت الآباء والأجداد، وتحريك الوعي العام للحفاظ على هذه الممتلكات وفاء للفن والتاريخ.
من ميزات المصور هنا الانتباه للتفاصيل الصغيرة، والوضوح والجمال، برزت بشكل خاص الحركة الدائرية، والتي من خلالها تظهر الأرضيات والطوابق العلوية معا، كما في تصويره للأحواش (جمع حوش) كحوش العطعوط بنابلس، كذلك في تصويره للوكالات والخانات كوكالة الفروخية. كما تصرّف في تصويره لمخيم الأمعري للاجئين الفلسطينيين، بما يوحي بالأمل من خلال أفق واسع وسماء أكثر رحابة.
دلالات صور المعرض
أولى هذه الدلالات أننا بالفعل حكومات وشعوبا مقصرون في التعامل مع الممتلكات الثقافية المعمارية، صحيح أنه جرت عدة محاولات قامت بها جهات رسمية وأهلية إلا أن ذلك مازال محدوداً، والصور الفوتوجرافية تضعنا كلنا أمام مسؤولية وتحدٍ في ضرورة حماية تلك الممتلكات.
ثانياً: يمكن التعامل مع الصور تعاملاً تاريخياً في الاستدلال منها على عدة ظواهر ثقافية لها علاقة بنظام المجتمع الاجتماعي والاقتصادي… فالبيت النابلسي الذي أعدّ للأسرة الممتدة، يعكس كيف أن النظام الاجتماعي استولد شكلاً معيناً في البناء، من حيث وجود بيت الجد والجدة، وأبنائهما المتزوجين، في حين ترك الجزء الأسفل للدواب والتخزين. في حين راعى مدخل أفراد الأسرة ومدخل الضيوف المختلف عنه لأسباب لها علاقة بالمحافظة والفصل بين الرجال والنساء.
وقد ظهر ذلك في البيت الخليلي والنابلسي، وهو بالطبع يتحدث عن العائلة الممتدة في المدينة أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين.
ثالثاً: هناك أسلوب معماري هندسي ساد في العهد العثماني في بناء البيوت باستخدام أسلوب «عقد الصليب» الذي لا يقدم على السقف المستوي، بل الشكل المجوف لأعلى، حيث يقوم السقف على أعمدة هي جزء من الجدران، تشكل ما يطلق عليها «الركبة».
رابعا: دلت الصور أيضاً على الشكل الأوروبي الحديث في البناء والذي دخل فلسطين في أواخر العهد العثماني.
خامسا: ثمة اندماج حصل في بعض المباني، ما بين القديم الذي أضيف إليه بناء جديد وفق أسلوب بناء حديث، والذي يمكن أن يكون له دلالات اجتماعية وثقافية في التأثر بالثقافات الوافدة في مجالات مختلفة.
سادسا: ثمة رؤية جمالية لدى المصور في التقاط صور معينة كصورة نوافذ الحمام العلوي الملونة الزجاج، من حيث اهتمام المصور بالإيقاع والألوان (الشبابيك الصغيرة المستديرة الملونة).
جدير بالذكر أن أسامة السلوادي مصور فلسطيني وعالمي نشر صوره في كبريات الصحف والمجلات العالمية.