المسرح عند سعد الله ونوس
إدريس الذهبي
1- تقنيات المسرح عند سعد الله ونوس :
إن ما يميز سعد الله ونوس كمنظر وممارس مسرحي عن توفيق الحكيم ويوسف إدريس، هو كونه لم يصدر تنظيراته المسرحية قبل إبداعه المسرحي، بل نجده قد كتب مسرحية “حفلة سمر من أجل5 حزيران” عام 1967. أي بعد الهزيمة مباشرة، وننتظر حتى عام 1970 ليصدر آراءه المسرحية في البيانات”… ولسوف نجد في بياناته (…) قدرا كبيرا من آرائه التي تتيح لنا أن نفهم كيف وعي المسرح، طبيعة وأثرا؛ وكيف وظف هذا الوعي”
إن ونوس كمبدع مسرحي، عايش الهزيمة، وأصبح يحمل هما فكريا وثقافيا، إذ لم يستسلم للتيار العبثي أو اللامسؤولية في أعماله واللامبالاة في مكنونه، بل أضحى المسرحي الثائر الباحث عن مسرح أصيل، يأخذ الواقع بكل تجلياته ليعكسها على مستوى جمالي. فهو واع بأهدافه وتطلعاته التي سخر لها المسرح كقناة توصيلية. ويبدو أن مفهوم التسييس أو السياسة في المسرح عند ونوس غامض، وسيتفادى الالتباس والغموض الذي قد يطرحه هذا المفهوم بالاعتماد على تصريح “ونوس” نفسه بقوله “هو حوار بين مساحتين” الأولى هي العرض المسرحي الذي يقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره، والثانية هي جمهور الصالة الذي تنعكس بنية كل ظواهر الواقع ومشكلاته”
، فونوس إذن، يسمي الحوار الذي يدور بين الصالة والمنصة أو بين المتفرج والممثل تـسييسا، ومن هنا نفهم كيف أن سعد الله ونوس صاغ مسرحياته بعد هزيمة حزيران، وفق القالب الأرسطي، وكيف سخر تقنيات جديدة في إطار حمل المتفرج على المناقشة والجدل معتبرا أن “جوهر المسرح هو لقاء…
فما هي وسائل تحقيق المسرح عند ونوس؟
2-وسائل تحقيق المسرح عند سعد الله ونوس :
2-1- التغريب عند سعد الله ونوس :
إن أهم مصطلح اشتهر عند بريشت هو بالألمانية Verfremdung والواقع أن هذه الكلمة-التي تلاك في محيط مسارحنا العربية بفهم وبلا فهم- تتضمن معظم المكونات الأساسية للمسرح الملحمي. وقد ترجم هذا المصطلح إلى اللغة الإنجليزية بـAlienation أو كما هو معمم بين نقاد الدراما في أمريكا بـ Estrangementوفي غالب الأحيان يختصرونه بهذه العبارة V.effect أي التأثير عنV وهو الحرف الأول من الكلمة الألمانية، أما نفس المصطلح فيعرف في اللغة الفرنسية بـ Distantiation وهو أقرب في دلالته إلى الأصل من المقابل الإنجليزي. أما في لغة الضاد فقد درج الدارسون على ترجمته بـ "التغريب" أو "الإغراب" أو "الإبعاد" في القليل النادر. ولا شك أن الكلمة الأولى لائقة وشيوع تداولها سيؤصلها ويحدد طبيعة مفهومها
وقد قام مسرح بريشت “الثوري على أساس تصور التغريب، أو الأثر التغريبي، وهو التصور الذي يلتقي كثيرا بمفهوم الاستيلاب Entfremdung كما وظف من لدن هيجل وماركس، لكن الأثر التغريبي انتقل إلى ما هو جمالي، من لدن بريشت لدحر خطر الاستلاب في العلاقات الإنسانية داخل المجتمع المشيأ. تشكل طرائق التغريب، في الغالب دحرا ثوريا لسلبية التي يتم بواسطتها توجيه المتفرج بطريقة ماكرة لاستهلاك الوهم المخدر”
، ويعد أيضا “التغريب والتأرخة والدياليكتيك هي الأعمدة الثلاثة التي ينهض عليها مسرح بريشت بل ونظريته عن المسرح”
وعليه، يرتبط تنظير سعد الله ونوس في بياناته “بآثار غريبة بريختية، وذلك في مجال استخدامه لبعض التقنيات المسرحية التي وظفها هذا الأخير في مسرحه “الملحمي” مثل تكسير الجدار الرابع، حيث أراد من خلال هذا العمل تحقيق ما هدف إليه “وإذا كان التغريب verfremdung هو تحويل المألوف إلى شيء غريب، يحرك الذهن ويفجر السؤال، فإنه لا يعدو أن يكون وسيلة لا غاية”
وسيلة توظف لتحقيق أهداف ثقافية أو سياسية إيديولوجية. وقد مال سعد الله ونوس إلى هذه التقنيات ليصدع الوضع القائم والسكوني على الساحة العربية، للدفع بها نحو آفاق أخرى حيث الديناميكية والحركة. ومن ثم ركز سعد الله ونوس على الجمهور كطرف ثاني في ميدان المسرح، والذي يعتبر مرسلا إليه، وتساءل عن الوسائل الفعالة التي تساعده على جعل المتفرج يعي الرسالة المسرحية، ويعمل على تطبيقها فعلا. وفي هذا الصدد يقوم عمل ونوس على تحديد نوعية الجمهور، من جوانب مختلفة : طبقية وفكرية. والمشاكل التي يعاني منها، أن ونوس فنان مسرحي واع بجدية وفعالية أداته، لذا يرى أن الجمهور هو المدخل الأساسي الصحيح للحديث عن المسرح، وفي مسار هذا يحدد هوية الجمهور الذي يتوجه إليها العرض، وهذا يعني تحديد هوية الجمهور الطبقية وصيرورته الاجتماعية، والثقافية، ومكوناته وهمومه وقضايا حياته
. إن ونوس يحدد بعض الشروط التي يجب توافرها في المجتمع ليكون قطبانه في الإبداع المسرحي عموما، بحيث يمكن أن يحاور ويناقش ويكسر صمته بالتدخل في العرض باديا بوجهة نظره، ومن ثم يسهم في الحائط الرابع الوهمي الذي يفصل الجمهور عن الممثلين. هذا ويربط ونوس فعالية الجمهور بثلاثة شروط : “أولا أن يعي أهميته بوصفه طرفا أساسيا في العرض… وثانيا أن ينهي سلبيته، لأن ما يدور أمامه يستهدفه، ومن ثم لابد له من موقف، وثانيا أن يشعر بمسؤوليته وبأن موقفه من أي عمل ثقافي بشكل عام، ومن أية مسرحية بخاصة، نتائج خطيرة عليه بوصفه فردا، وعلى وطنه أيضا”
، وفي هذا يقوم سعد الله ونوس بتحريض المتفرج، ويعطي نماذج من هذه المشاركة الفعالة من خلال أعماله الإبداعية، التي جاءت بعد الهزيمة كـ”حفلة” سمر من أجل حزيران”، و”الفيل يا ملك الزمان” و”مغامرة رأس المملوك جابر” إن هذه المعطيات تمد الفنان المسرحي بلا شك بإمكانية تأطير عمله، ثم تصريفه لأجل جمهور يفهمه تمام الفهم سواء في حياته اليومية ومشاكل عيشه، أو في مخزونه الثقافي وتطلعاته، ينتقل إلى الرسالة التي تعتبر الوسيلة التواصلية بينه وبين الجمهور، بحيث يذهب إلى تحديد المحتوى الذي ينبغي طرحه على خشبة المسرح، يتمكن المتلقي من مشاهدة ذاته وهي تتحرك على الخشبة-الركح، بكل ما عملته هذه الذات من أبعاد لأن هذا المحتوى الذي سيؤدي أدواره الممثلون أصواتا وإيماءة) يتطابق وواقع المتلقي اليومي. ومن خلال مسرحية : “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، “يحاول سعد الله ونوس تفجير الأسئلة الكبرى حول الهزيمة، ومسؤولية كل من الرجل المثقف والعادي، ويدور الحوار بين”ممثل واحد” (م1) و”ممثل إثنان”(م2) حول المسؤولية الهزيمة :
- م1 : هل حقا نحن المسؤولون؟
- م2 : (ينتفض فجأة وكأنه اتخذ قرارا. حركة مليئـة بالحيوية،
إنه يـمثل ما يقول (تقول هي المرآة… حسن لتنصب المرآة أمامنا هنا (يرسم مستطيلا في الفراغ) سنضعها في مواجهتنا… مرآة كبيرة ترسم قامتنا مهما علت، وستنظر في جوفها جيدا… سننظر (يلتفت إلى المتفرجين) لكي نتحمل المسؤولية، ألا ينبغي أن نكون موجودين؟
- م1 : ليس وجودنا هو السؤال الجوهري… بل نوعية هــذا الوجود (بعنف) لنعترف أننا المسؤولون. نهرب… نتخلص من رائحة شيء كريه يفوح بيننا وحولنا.
- م2 : قبل أن نلقي على أنفسنا الأحـكام، من الأهم أن نـعرف من نحن؟ ما هي هذه المرآة (يعود فيرسم مستطيلا في الفراغ) تعالوا نسألها من نحن؟
- م5،4،3 : (بصوت واحد) حقا من نحن؟
- م2 : السؤال موجود قبل الهزيمة. فننفض عنه التراب لا أكثر.
(يعود إلى اللعبة) نحدق إلى المرآة ونسأل سطحها الصقيل بإلحاح من نحن؟ في الجوف… في القعر… في الزوايا”
2-2- المتفـرج وتكسير الإيـهام :
ركز سعد الله ونوس على المسرح الذي يشكل المتفرج عضوا فعالا ومشاركا فيه، ونعته باسم “مسرح التسييس” كما سبقت الإشارة، لكننا نتساءل عن نوعية هذه المشاركة؟
يجعل ونوس المسرح بمثابة أداة تثوير وتحفيز. وذلك بما يطرح من قضايا ذات حساسية كبيرة؛ ومن ثم، يخرج “المشاهد من سلبيته، ليشارك في مناقشة مأساته ومأساة عصره، وصولا إلى الوعي بنفسه ووظيفته. وعليه أن يقوم بعملية إلصاق الصالة بالمنصة، وإلغاء الحائط الوهمي، إضافة إلى وضع الممثلين بين الجمهور، ينوبون عنهم في الأداء، كما هو الشأن في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” إذ استخدم فيها المسرح داخل المسرح، وجعل زبناء المقهى من الممثلين، يتكلمون باسم الجمهور، وفيها أيضا عمد إلى التغريب المكاني كما هو الحال في هذا المشهد “فنحن في مقهى في مدينة ما، لكن هذه المدينة لا يمكن أن تكون إلا عربية”. إن هذا المفهوم للمسرح، كما يسعى إليه ونوس “يرمي في الأساس إلى التوغل الفكري في المادة المطروحة، وإلى تحقيق تفاعل بينها وبين الجمهور الذي لا يترك خارج العمل، وإنما يقحم في داخله. ولبلوغ هذا الهدف، فقد حرص في مسرحيته “مغامرة رأس المملوك جابر” على توظيف الحكواتي، والعرض الشعبي كعنصرين فنيين”
. وإننا نجد هذه المعطيات منعكسة بوضوح في بقية أعماله المسرحية بعد الهزيمة، ففي مشاركة المتفرج وإلغاء الإيهام، يوظف ممثلا “يصعد على الخشبة وهو فلاح”
. ناهيك إلى كونه وظف بعض الممثلين ليؤدوا أدوار المتفرجين، والنيابة عنهم في المناقشة وإبداء الرأي، مثلا في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” يسخر “المتفرج الأول” و”المتفرج الثاني”، وهي شخصيات عمد ونوس إلى جعلها تصعد من الصالة إلى المنصة محاولة منه لهدم الإيهام. ولمزيد من التوضيح نورد فقرة من خاتمة مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” بحيث ينتصب الممثلون” وفضاء الأنوار ليقولوا لنا :
هذه الحكاية
ونحن ممثلون.
مثلناها لكم لكي نتعلم معكم عبرتها.
هل عرفتم الآن لماذا توجد الفيلة.
لكن حكايتنا ليست إلا البداية.
عندما تتكاثر الفيلة تبدأ حكاية أخرى.
حكاية دموية عنيفة.
وفي سهرة أخرى سنمثل جميعا تلك الحكاية”
هذه الحكاية الدموية المأساوية العنيفة التي تولد الخوف والعجز والقهر، تتضح وتتسع في “مغامرة رأس المملوك جابر”، وفي مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” من الحكم ما ينور المتفرج ويعلمه، ثم يدفع به إلى الثورة على الواقع المعيش، ويظهر موقف الجمهور من خلال الزبناء، حيث يتعمد المخرج قتل بطله “جابر” فيعترض المتفرجون على هذه النهاية، ويرفضونها باحتجاج، فيتحول العرض المسرحي إلى فرجة مسرحية لتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي.
وفي مسرحية : “الملك هو الملك” يجعل ونوس المتفرج يشاهد المسرحية بدون إيهام، لأن في نهاية المسرحية يذكرنا بأن ما حدث كان مجرد لعبة .
- “الملك : لعبة ربما كانت لعبة (لهجة إصدار الأوامر) من الآن
فصاعدا، اللعب ممنوع ...
- المجموعة : … اللعب ممنوع.
- الملك : الوهم ممنـوع …
“والفيل يا ملك الزمان” ذات طابع تعليمي، كما هو كل عمل ألليجوري، مما يعيدنا مرة أخرى إلى تأثيرات المسرح البريختي الغائرة في ثنايا عمل ونوس
، كما يتسم تقديم البنية الاجتماعية في مسرحية “الملك هو الملك” بسمات مفجعة، ناجمة عن الالتجاء القديم إلى لعبة “التوهيم” لاجتياز عوائق السلطة… نحو العامة (…) وإذا كانت للتوهيم القديم (كليلة ودمنة مثلا) ما برره اجتماعيا/سلطويا، فإن تطور الشروط الاجتماعية وتعقدها الشديد حاليا، هزل هذا الاستخدام وأظهره بمظهر هجين، مصطنع وهو الذي جر سعد الله ونوس إلى أبعد من توهيم عمله الأدبي إلى نفيه من ثلاث زوايا : - زاوية الفعل
- زاوية المكان
- زاوية الزمان
3 – الحوار عند سعد الله ونوس :
الحوار بمنزلة العمود الفقري للعمل المسرحي برمته، بما يتضمنه من كلمات وجمل وعبارات، فهو أداة المسرحية، و”الذي يعرض بوضوح الحقائق التي تقدم الفعل في المسرحية”
، لكن بالطبع تتغير مهمة الحوار في المسرح التسييسي الارتجالي أو الشعبي الذي يقدم الحقائق ويعرض الفعل من خلال ذلك، في حين لدى ونوس فإن الحوار “مرتجل وحار وحقيقي بين مساحتي المسرح! العرض والمتفرج… ولا بد لموضوع الحوار أن يكون مرتبطا بحياة المتفرج أو مشاكله من جهة، ونوع المعالجة وشكلها، لكي لا تكون المعالجة مسألة شكلية وتقنية، حيث لا بد للهواجس الجمالية أن يتم تعديلها إلى المشكلات السياسية والاجتماعية للواقع وذلك لتشجيع المتفرج على الكلام والارتجال والحوار…
ولا يكتفي ونوس بذلك، بل إنه يشرك معه المتفرج ويقيم معه حوار آخر، يحاول به أن يخلق الانسجام الكامل بين خشبة المسرح والصالة وهذا يتطلب حوارا أكبر من الحوار. وعليه أن يقوم بأعباء كبيرة، ومن هنا حاول ونوس أن يوفر له قدرات فنية أخرى يؤدي بها مهمته وينجح في تأكيد دعوته إلى مسرح جديد” سيظل العمل حوارا مستمرا وفي اتجاهين متوافقين معا. حوار داخل المجموعة ذاتها، يوضح الأفكار ويعمقها، يصمم العمل ويبنيه. وحوار آخر بين المجموعة والمتفرجين، أو الجمهور الذي يتوجهون إليه. والحواران لا بد من أن يسيرا معا. وأن ينعكس واحدهما على الآخر في جدلية هي التي ستحقق ازدهار المسرح وإيجابيته”
، ويبني الحوار سياقات المتن المسرحي على قاعدة هذه العلاقة مع الجمهور، أي على أساس تحريض الناس للنطق بالمسكوت عنه، بالمعنى المضمر، بالحقيقة التي تكشف أمامهم، والتي هي حقيقة ما يعانون. فالحقيقة بتاريخيتها هي رواية حكايات قهرهم وعذاباتهم. وهي باعتبارها كذلك، أخصب من خيالات الشعراء العقيمة
والحوار عند ونوس يوفر عناصر الفرجة، ويوفر الحركة، وهو يناقش المجتمع ويحاور الجماعة ويعمل طابعا تعليميا أو تحريضا. وحتى يتم الانسجام بين الجمهور والممثلين اهتم ونوس بعناصر الإقناع والفرجة زيادة في الإثارة ورغبة في الاشتراك في الحدث، لأن الحوار عنده ينقل “فعلا” غير خاضع للترتيب الأرسطي [ بداية- وسط تأزم- نهاية حل ]. وهكذا، فإن الغربة تقدم عنصرا هاما من عناصر نجاح الحوار، لأن-الموقف بعناصر الفرجة يهيئ للكاتب الفرجة مبثـوقة في المسرحية دون مبرر، بل لا بد أن تكون مقنعة تتسلل إلى المتلقي، كما لو كانت وليدة الموقف الدرامي، تأتي لتؤكد الحوار وتنشطه بالحركة والفعل. كما أود الإشارة إلى أن ونوس وهو يدعو إلى مسرحه التسييسي الشعبي استخدم ما يسمى بالحوار الغائب والذي يمثل له بالنقط الثلاث (…) وبالتالي يترك للمتفرج بعض الجمل الحوارية غير كاملة، وما يميز هذا النوع من الحوار هو قربه من التلقائية وتركه الفرصة للمتلقي للاشتراك الفعلي في الإرشاد المسرحي.
ولكي يوفر ونوس لحواره الحيوية والحركة والإثارة، استعمل أدوات متعددة مثلا “الحدوثة” التي تمثل عنصرا مثيرا ينطلق منه الحوار. وهي تؤكد الصراع وتكشف عن أطرافه وتوفر عنصر الحركة في الحوار، وهي التي يتسلل الكاتب من خلالها إلى المتلقي ليلقي بالمعلومات التي تدفع الحدث وتؤكد الصراع. ثم لا يملك المتلقي أمام إثارتها إلا الانسجام معها والالتحام بها أيضا. مما يسهل على الكاتب أن يستغل هذه الحالة ويقول كل ما يريده من معلومات، والحوار طبعا هو الذي يكشف عن تطور رؤيتها ويستغل وجودها ويفيد من إمكانياتها.
كما نجد ونوس قد بالغ في الاهتمام بوسائل التشويق، والتوتر الدرامي خلال حواره في مسرحياته. هذا التشويق الذي يعرفه كريفش بأنه : “يعني جذب الاهتمام إلى الأمام والرغبة الملحة في معرفة ما سيحدث فيما بعد، وعندما يكون المشاهد جاهلا تماما بما سيحدث، لكنه يتلهف عليه، وعندما يخمن جزئيا ما سيحدث، ولكن يرغب بشدة في أن يتأكد أو يتردد لأنه يخاف من الحالة المتواضعة فإنه يكون في حالة تشويق لأن اهتمامه يشغل تماما أكان بإرادته أو دونها
وعن التوتر يقول أيضا “إنه العصب المركزي أو اللولب المحرك للدراما”
ولهذا نجد أن هذا ينطبق على أعمال ونوس خصوصا في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر”، حين يأسر الوزير جابر أن يضع كوفية على رأسه التي كتبت عليه الرسالة. ويكمن في حجرة مظلمة ويستأذن الحكواتي في استراحة يشرب فيها الشاي، تنقطع الأحداث عند هذه النقطة، بينما الجمهور قلق على مطلعه الذي كونه من وهمه. ونجد عنصر التوتر قويا في مواقف كثيرة من مسرحيات ونوس وهذا ما يضع ويشكل الصراع الذي هو هدف الدراما.
إن سعد الله ونوس خلال استعراضه لشخصياته في المسرحية لا يصدر معالمها، ولكن الشخصية عنده عبارة عن رمز أو فكرة أو دلالة على موقف. ناهيك على أن الحوار الذي بين الشخصية يكشف عنها ليكون انطباعا معينا يريده الكاتب لشخصية أن تتركه لدى المتلقي، وبالتالي فمن خلال الحوار ندرك معرفة الشخصية من خلال انسجامها مع الطرف الآخر.
ولكن هذا لا يمنع أن الحوار عند ونوس فيه العيوب، ولكنها قليلة، فمثلا لجوؤه إلى الخطابة حيث تلتبس الأمور لديه فتصبح الارتجالية التي ينشدها خطابية، وبون شاسع بين الاتجاهين. كذلك من العيوب أنه قد يلجأ الحوار إلى التجريد، فيفقد بذلك أرضية الاشتراك مع المتلقي، وهذا ما يعيب المسرحية بعيب خطير في بنائها فيؤدي إلى تفكك العرض وافتقاد التماسك لهذه التجريدية التي يضعها فجأة في طريق التطور الدرامي.
وقد يلجأ الحوار إلى النزعة التعليمية وكأنه يشرح مغزى المسرحية، وإيجاز الدرس المستفاد منها، لأن ونوس ينظر إلى المسرح كرسالة وبالتالي يدعو من خلال الحوار إلى الإصلاح والتغيير، ولكن التعليمية التي تشرح كل المعاني ولا تترك شيئا للمتلقي.
تبقى هذه نقط عبور بسيطة لحوار ونوس، وهي تكشف عن حماسة واندفاع في دعوته إلى التحريفي، ولا تلقي أبدا أن ونوس أحد كتاب المسرح العربي الذين اعترفوا على أسس جديدة للمسرح العربي تلاقت مع موهبته وأدواته، هذا بإيجاز ما يمكن قوله عن أهم ملامح الشكل المسرحي لدى ونوس التي يرتكز أساسا في اللغة بمستوياتها إضافة إلى الحوار الذي يعتبر الركن الأساسي في المسرحية.
وهكذا يمكن القول، بعد إمعان كبير في المسرح لسعد الله ونوس، إن تجربته المسرحية تشكل وحدة متجانسة من التجارب التي تمحي الحدود بين كثافة الشعوب دون إقبار بلورة خصوصياتها الثقافية في أفق تأسيس الهوية المسرحية. إننا أمام تجربة تؤكد على إنسانية الإبداع، واجتماعية وظيفة الفن ومتفتحة على ثلاثة تجارب مسرحية عالمية، هي تجربة سكافور، حيث يلتقي ونوس مع رائد المسرح السياسي هذا في الموقف والهوية السياسية، وفي اعتبار المسرح أداة للتحول الاجتماعية، ووسيلة لتوعية الجماهير، ثم الانفتاح على تجربة برتولت بريشت والمسرح التعليمي والملحمي، فقد راح المسرح الملحمي البريشتي نحو إشراك المتفرج في العرض المسرحي قصد وضع الظواهر التي تعرض أمامه موضع النقد والتحليل. وقد حظي المسرح الملحمي “بتقدير كبير في الوطن العربي ، لأنه يعالج مشكلات سياسية واجتماعية تعني العرب، ويؤكد على الوظيفة الاجتماعية للفرد”
والتجربة الثالثة التي انفتحت عليها نظرية المسرح التسييسي هي تجربة (بيترفايس) في مسرحه التسجيلي الذي يعمد إلى وضع الحقائق تحت منظار التقييم اجتماعيا وسياسيا، فهو يعرض وجهات نظر مختلفة في تلقي الأحداث، ويوضح الأسباب والدوافع التي تحركها. وتفتحه على هذه التجارب، جعله يتوصل إلى حقيقة أن الشكل المسرحي الغربي ليس هو الشكل الوحيد أو المتفوق تقنيا وفكريا، ولكن يمكن خلق مسرح عربي يضاهي ذلك المسرح الغربي باستغلال فنونها العربية الشعبية لإقامة مسرح عربي متميز. والجديد الذي هم التأليف المسرحي وحده شمل أيضا أساليب التمثيل والإخراج وامتداد الاهتمام يشمل حتى هندسة المسرح ومعاصرته وطابع العمارة العربية وطبيعة التجمعات العربية لممارستها لبعض المظاهر المسرحية. كذلك الاتجاه إلى تبسيط الديكور والأزياء والمهمات المسرحية. وهذا يمثل اتجاها صحيحا نحو تأسيس مسرح له هوية عربية متميزة يدعو إلى الإصلاح بأفكار مشتقات من تاريخنا وتراثنا ليكون (أكثر إقناعا وإمتاعا) كما ورد على لسان أبي خليل القباني في مسرحيته سهرة مع أبي خليل القباني “حين نستمد القصص من تراثنا فنحيي أمجاد قيمة وتقدم شخصيات تتمظهر الرواية كأنها فن نابع من هذه البلاد …
يبث ونوس دعواه إلى المسرح، رسالة تكشف الحقيقة وتبتعد عن الخيالات الوهمية. إنه يرحب بصعود الجماهير على الخشبة، مرحبا بحكاياتهم الواقعية بدلا من خيال بعض المؤلفين. وبالتالي إيقاظ الوعي لدى المتلقي والتمهيد للتغيير الذي يطمع إليه. وكتابات ونوس تحاول أن تلفت متلقيها إلى انفلاتها من موقف فكري محدد في النظر إلى المسرح ودوره، وفي مواجهة إشكاليات الواقع وما يطرأ عليه من نكوص وتقدم، وهو في تصريحاته وكتاباته النظرية عن أحلامه ومشاريعه يشير إلى هذا الفكر. إننا نجد عالم السلطة في مسرح ونوس يتمحور أساسا حول السلطة، والتمحور حول السلطة يقود إلى اختزال عناصر الواقع وعلاقاته المعقدة المتراكبة في مجرد رمز تبسيطي لهذا الواقع، بحيث يمكن القول إن الإلحاح على هذا الرمز يجعله متصورا المشهد فتبدو السلطة بوصفها مؤسسات سياسية واجتماعية، وكأنها منفصلة الشروط الموضوعية التي أنتجتها على هذا النحو أو ذاك. وإذا كانت السلطة -من جانب آخر- أداة، بمعنى أنها تعمل على تزعيم نظام اجتماعي ونسق فكري محدد متوسلة إلى تحقيق هذه المهمة بخلق أجهزة سياسية وثقافية وقانونية يمكن أن يمر الإصلاح من خلال قوانينها. وقد اكتسبت الدولة بوصفها تعبيرا موضوعيا عن نسق من العلاقات والأفكار والرؤى. وفي دول العالم التي تحررت من الاستعمار سمات خاصة، تباعد بينها وبين الصيغة المستقرة في البلاد الاستعمارية التي تمكنت في صعودها ونهـبها للدول المتخلفة من خلق أشكال مؤسسية واضحة التقاليد، وهو الأمر الذي لم يحدث في البلاد المتخلفة بعد تحررها من التبعية الاستعمارية المعلنة في شكل وجود قوات عسكرية. وقد كان لا بد لمؤسسات الدولة في هذه البلدان ولأدوات سيادة الإيديولوجية من التركيز على هذا التباين، مكرسة لعدد من الصيغ الفكرية. حيث انعدمت الفروق، ومنذ أن قدم ونوس “حفلة سمر من أجل 5 حزيران “حتى” الملك هو الملك” وهو يركز على أن يكتشف عن النظام من الخارج ويفضح السلطة الحاكمة القاهرة وسيطرتها، ويبين كيف تتمكن من إحكام قبضتها على المجتمع، وتستلب وعيه عن طريق تجهيله وتكريس التأخر ليظل سلبيا مقتادا، وأكثر خضوعا، وأنها تحرص ألا يعرف الشعب شيئا وألا يخوض في مسيرة السادة، لأن المعرفة ضد الجهل والعلم طريق إلى الإرادة والتخلص من السيطرة ومقاومة السلطة. ثم إن الخوف والذعر يمنعان الرغبة في المعرفة ويقفان جدارا سميكا ضد نور العلم حتى أنه يعطينا نموذجا في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لأهل القرية الذين لا يعرفون معنى الحرب وأسبابها، فهو يقدم علما مشدودا إلى أجهزة هذه السلطة شدا قويا، ويتمظهر ذلك في طرحهم للسؤال من نحن، وكأن الجميع كل واحد متجانس العلاقات والمصالح مع نهاية المسرحية، إلى أن الجميع مسؤولون بشكل مباشر أو غير مباشر عن نكبة يونيو، وتنتهي المسرحية بالجميع، وقد قرروا التوجه إلى المسؤولين بحثا عن المسؤول. إنه أي ونوس يرسم صورة سوداء لشعوبنا التي لا تزال تعاني من التخلف والتردد والذعر من السلطة ولا تستطيع أن تثور وأن ترفع صوتها بالشكوى من الأزمة الاقتصادية التي تتعرض لها هذه الشعوب. هذه الأزمة التي لا تأتي إلا من تخطيط سيئ، والأزمة سوف يتبعها انحدار خلقي في المجتمع، وجرائم يصورها ونوس في مسرحياته بشكل يدفع إلى التمعن والتفكير، وفي مشاهد جد مؤثرة قد تدفع إلى البكاء، مشاهد تبين الهوة التي اتسعت بين الفقراء غالبية الشعب والأغنياء علماء الأنظمة وعيونها في هيئة السلطة. ونجد ونوس، بعد هذا كله، لا يؤمن بالبطل الفرد، والبطولة الفردية عنده غواية قد تؤدي إلى استنامة المجتمع، فضلا على أن تبقي البطل وحيدا في غابة مليئة بالحيوانات وتأتي نهايته على يد مجتمعه كما في مغامرة “رأس المملوك جابر”. لقد تعمد ونوس قتل جابر بطريقة مثيرة كي يوقظ المجتمع، ويدعوه أن يصنع البطولة من صفوفه هو، البطولة تضعها الجماهير وترويها من دمائها من صدق حركاتها وحتمية تصديها للظلم.
شيء آخر سوف نراه في جل مسرحيات ونوس، وهو أن كل النهايات متشائمة، هذا لأن النهايات السعيدة تترك المتفرج سعيدا، تحقق متعة وارتياحا، لكنها دعوة للتوهم والإحساس النفسي بأن المشاكل قد حلت وأن أبطال المسرحية قد قاموا بالنيابة عن المتفرجين والمجتمع، بحل قضاياهم وإراحاتهم مما يقلق بالهم، إنها النهاية السعيدة.
ومهما يكن من أمر، فقد تمتاز مسرحيات سعد الله ونوس “باستفادتها من الأساطير والأحداث التاريخية والتراث حيث تقدم له هذه شكلا جاهزا وموضوعا حدث في الماضي وما تزال جذوره تمتد إلى الحاضر”
فضلا على إضافته للمسرح العربي أشياء كثيرة، خرجت به عن نطاقه التقليدي حين حطم الحاجز الرابع، ومخاطبته للعقل قبل العاطفة، وحديثه من منطلق عقلي يصور الواقع بجرأة وصدق، دون إغفال مسرحه السياسي ثم التسييسي الذي يربط بين الموضوع السياسي المعروض والجمهور الذي يشاهده.
4- اللغة المسرحية عند سعد الله ونوس :
رافق سعد الله ونوس رحلته الثقافية العربية أربعين عاما؛ كان في بدايتها قارئا متمعنا، لكنه بعد مرور فترة من حياته صار محرضا فعالا وشغوفا مؤثرا في مجرى الحياة الثقافية. ولعل الوقوف عند سيرة الرجل الحياتية يبعث في المتأمل والمواكب لإنجازاته المتميزة شيئا من العظات والعبر… وهذا يقودنا إلى جملة من الأسئلة لابد من محاولة تلمس بعض الأجوبة لها :
كيف تمكن ونوس من ترك هذا الأثر حيال الساحة الثقافية؟
بعد دراستنا لإنتاج سعد الله ونوس التنظيري والتطبيقي، نجد أنفسنا أمام مبدعا وضع نصب أعينه مشروعا ثقافيا، جعل معظم منتوجاته تصب في أيكة هذا المشروع الكبير، الذي كان يدفعه لمزيد من الإنتاج الخصب مثلما هو يدفع مشروعه للتطور والرقي. ولهذا، فإنه قد يبدو معقولا أن نحاول البحث في خصوصية اللغة التي وظفها ونوس في مشروعه، إذ “لا يمكننا أن ننسى خصوصية تعامله مع اللغة، وحرصه على إيجاد أسلوبيته الخاصة؛ إن كان في نصوصه الإبداعية أو نصوصه الأخرى، وقد تبدى ذلك في طريقة بنائه للجملة والألفاظ التي يشكل منها جملته، ومقدرته على تنظيم أفكاره وتفقيرها ووضعها في منظومة بحثية فكرية، تقدم أولا؛ وتناقش لتصل بعد ذلك إلى نتائجها النابعة منها هي …
، وتشكل اللغة القلب النابض في أي عملية تواصلية، وقطب الزاوية في مجال المسرح ذلك “أن المسرح خطاب، وكل خطاب يفترض معرفة الآخر حتى يمكن أن نخاطبه بلغته ، وبلغاته ، ونحن نعرف أن اللغات المسرحية هي لغات مشهدية يكثر فيها المرئي والمسموع والملموس والمتذوق وكل الإحساسات المختلفة .
إن اللغة العربية بخلاف اللغات الحية الأخرى ، تعرف إشكالية ازدواجية بين اللغة الفصحى واللغة العامية ، لأن اللهجات المحلية وآدابها الشعبية تعيش عيشة سليمة مع آداب الفصحى في الأمم الأخرى، دون أن يدخل في صراع مع الحالات العادية . ونظير العامية في الفرنسيــة “ARCOT”، وفـي الأنجليــزية “SLANG”
ويرى محمد غنيمي هلال إلى أن العلامة ابن خلدون يرجع السبب في ذلك، إلى تقاعس اللغويين والنحاة عن “تقعيد” التطورات التي عرفتها اللغة العربية بالانتقال من البداوة إلى الحضارة. ويضيف أن الاختلاف لم يكن بين العامية والفصحى فقط بل بين العاميات العربية فيما بينه
. وبالفعل فإن عامية الأقطار العربية تتضارب وتتفاوت فيما بينها، ومنذ بداية هذا القرن، كانت مشكلة الازدواجية في اللغة تطرح في مجال المسرح، وكان الدارسون يكتبون باللغة الفصحى- في المسرح الجدي- لأن جلهم كانوا أدباء وشعراء، وكانوا يرون أن المسرح نوعا من الأنواع الأدبية، بل إنها اللغة التي سلكتها أول فرقة مسرحية عربية
إلا أنها لم تستمر، فمع بداية النصف الثاني من هذا القرن ، ظهرت زمرة من الدراميين العرب الذين يبدعون نصوصهم بالعامية، منتقلين من المسرح الأدبي إلى المسرح المسرحي في الوقت الذي كان فيه بقية الكتاب المهتمين بالفصحى قليلا، ونجد توفيق الحكيم يكتب بالفصحى والعامية معا، ودعا إلى ذلك كما هو الحال في-الصفقة-، وقد اضطر إلى الكتابة بصيغتين : الأولى للكتاب بالفصحى، والثانية للخشبة بالعامية، فكان يترجم المسرحية التي ستقدم على الخشبة بنفسه من الفصحى إلى العامية بدءا من الستينيات من القرن الماضي .
واللافت للانتباه أنه قبل ولادة المسرح، نجد الجاحظ قد تحدث عن الحوار المسرحي، فدعا الراوي إلى أن ينقل الكلام كما هو في الواقع على لسان الشخصية، ونبه إلى الخسارة التي ستصيب المسرح الواقعي إذا جعل الكتاب المسرحيين شخصياتهم الواقعية تتكلم على المسرح لغة غير اللغة التي تتكلم بها في واقعها
ومن المسلم به أن العامية هي محدودة، وتقتصر على جمهور بلد معين، فالمسرحيات التي تكتب بالعامية، وخصوصا عندما تكون مغرقة في الطابع المحلي الذي يشخص اللهجات الخاصة، فإنها تقصر على جمهور المشاهدين من أبناء هذه اللهجة على خلاف اللغة الفصحى، التي تكون موجهة إلى جميع القراء في أرجاء الوطن العربي، لأنها اللغة التي يستوعبها الجميع؛ ذلك “عندما نتحدث عن الأدب المسرحي العربي الذي يستطيع أن يخاطب الجماهير العربية في كل مكان، وأن يظل رصيدا أدبيا لكل الأجيال، فإنما تتجه أذهاننا مباشرة إلى الكتابة المسرحية التي التزمت العربية الفصحى”
فالازدواجية إذن، بين اللغة العامية واللغة الفصحى قضية تهم الوطن العربي، وقد نوقشت من طرف الباحثين لكن دون أن يخلصوا إلى نتيجة مرضية-فهناك من يرى أن لغة الحياة اليومية هي أنسب وأصلح للتعبير عن الواقع المعيش، في حين يرى البعض أن اللغة الفصحى هي التي ترتفع بالنص إلى مستوى الأدب، ومما لا شك فيه أن بلاغة الحوار المسرحي، كبلاغة السرد في الرواية، تختلف كلتاهما عن البلاغة الشعرية. ومعروف أن سعد الله ونوس لم يستخدم سوى الفصحى في أعماله كلها، وهي فصحى خالية من التزويق، والإثقال بما اعتاد بعض المسرحيين إثقال لغتهم به من فخامة، وكلمات طنانة، وتصاوير شعرية وغير ذلك
فكيف ينظر ونوس إلى هذه الازدواجية؟
لقد أشار المبدع المسرحي سعد الله ونوس إلى نفسه قائلا : “منتصف الستينات بدأت بيني وبين اللغة علاقة إشكالية، ما كان بوسعي أن أتبينها بوضوح في تلك الفترة. كنت أستشعرها، أو عبر ومضات خاطفة، لكن حين تقوض بناؤها الرملي صباح الخامس من حزيران، أخذت تلك العلاقة الإشكالية تنجلي وتبرز تحت ضوء شرس وكثيف”
ويشير ونوس إلى ذلك بقوله في آخر ما كتب : قلت لك إني لا أحب الفخامة، وإني أحاول أن أروي الحكاية بأبسط الكلمات وأقلها غموضا”
يرى سعد الله ونوس أن المسرح فن شرطي، عرف إشكالية الازدواجية بين العامية والفصحى مع ظهور الطبقات والطبقات الشعبية الجديدة كمستهلك للمسرح، وكمتفرج أساسي في المسرح، وظهرت مع ظهور الاتجاهات الواقعية الجديدة، لأن المسرح مؤسسة اجتماعية تستمد مادتها الخام من الواقع. لكن هذا في نظره لا يعني أبدا أن الحديث بالعامية أو الفصحى هو الذي يضفي على الشخصية سمة واقعية، كذلك فإن الكلام بالفصحى لا يمكن أن يكون حائلا أمام أن يكون النموذج واقعيا. وبما أن المسرح فن له مميزاته، فإنه أيضا لغته المسرحية، أي اللغة الحية الديناميكية القادرة على تطوير الحوار والمواقف.
وعليه، فإن الأمر يتعلق ببناء المتن المسرحي، في الوقت الذي تكون القضية التي يعالجها النص ترتبط ارتباطا وثيقا بواقع المتفرج، وتمد جذورها في واقعه المعيش، إذ المتلقي ينسى قضية اللغة ولا يعيرها أي اهتمام، ونجد ونوس يقول : “لي تجربة شخصية في هذا المضمار حين قدمت مسرحية (الفيل يا ملك الزمان)، سألت عددا من المتفرجين أثناء خروجهم عقب العرض عن لغة المسرحية، وتبين لي أن معظم الذين سألتهم لم ينتبهوا فيما إذا كانت المسرحية مكتوبة بالعامية أو الفصحى، وبالتالي لم تكن الفصحى في المسرحية مشكلة من مشاكل التواصل، تكرر معي الأمر نفسه في “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، إن لم تكن هناك أية مشاكل في التلقي بين المتفرجين وبين المسرحية التي كانت كلها مكتوبة بالفصحى
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن بعض المسرحيات التي اعتمدت العامية، كانت مجرد تزييف لواقع الشخصيات، في حين اعتمدت أخرى الفصحى فلقيت إقبالا كبيرا، واستجابة فعالة من طرف المتلقي، ومرد هذه الازدواجية من منظور سعد الله ونوس إلى انتشار الأمية، حيث يقول : “لا ننسى أن هذه المشكلة كانت حادة جدا في نهاية القرن التاسع عشر ، وبداية القرن العشرين، بسبب تفشي الأمية وقلة عدد المتعلمين، وأسهمت الصحافة إسهاما كبيرا في تطويع اللغة، والمشكلة الآن بشكل أو بآخر في الثمانينيات أقل حدة مما كانت عليه سابقا”
، ولحل مشكل الفصحى والعامية أخذ يلوح في الأفق بازدياد حركة التواصل المسرحي بين أقطار الوطن العربي، وتبادل الأعمال الفنية المختلفة عبر السينما والإذاعة والتلفاز، ومن خلال المشاركة في المهرجانات والتجمعات المسرحية المختلفة
تقوم اللغة عند سعد الله ونوس على غياب العناصر التقليدية للمسرح، حيث لا يخضع الصراع للترتيب كما هو متداول (بداية-عقدة-حل)، وهكذا تشكل اللغة الونوسية حجر الزاوية في تقديم العرض المسرحي وتوفير المتعة، متوسلة في ذلك بالخصائص الاحتفالية الأخرى التي يوفرها الكاتب. وهكذا نلاحظ في المرحلة الأولى من الكتابة التي سبقت هزيمة حزيران 1967 أنه وظف لغة تجريدية، لأن مضمون مسرحيات تلك المرحلة كـ” مأساة بيع الدبس الفقير” و “الرسول المجهول في مأتم أو نتيجونا”، و”جثة على الرصيف” و”عندما يلعب الرجال” وهكذا دواليك، فمحتوى المسرحيات يجسد المعاناة والظلم الذي يتعرض له الكائن البشري في إهمال عنصري الزمان والمكان دون إغفال توظيف العامية، وذلك لمعالجة القضية وتقريبها إلى المتلقي، ونجد ونوس يلجأ إلى الرموز كما هو الحال في مسرحية “الجراد”، إذ ينفرد أحد الشخصيات بحديث طويل كما فعل “أنسي” في تناوله عرض المتن المسرحي برمته، وهذا يحيلنا على كلام الكاتب نفسه. كما يسعى ونوس إلى تصوير الشخصيات النمطية تصويرا لغويا، إذ يكتفي بذكر ملامحها دون الإفادة منها، بمعنى أن هذه الشخصيات ثانوية وأدوارها ذات بعد واحد، يرده الكاتب ونوس، إنه يرسم باللغة ملامح جادة أو جامدة، مسرورة أو كئيبة، غنية أو فقيرة، طموحة أو منكسرة… دون أن تمارس الشخصية هذا الدور الذي يضفيه عليها. وتظل الملامح التي يقدمها سعد الله مجرد لغة مثبوتة في مسرحياته القصيرة. ومن أجل تحقيق طفرة نوعية للبحث عن لغة جديدة، تطلب من الكاتب وقتا طويلا لتقديم عروض ارتجالية فعالة، بحيث لا يمكن أن تقول اللغة كل شيء، وأن تسد كل ثغرة، بل لابد من أن يقوم المتلقي بملئها، وذلك من خلال فهمه لوظيفة اللغة في المسرح الارتجالي. كما يعتمد ونوس على لغة الشعر التي تسمح بالمساحة التي يتشبث بها المتلقي، حيث يكتشف لغته هو وفهمه هو أيضا، ولا يستعمل اللغة بمعناها الشاعري، ولكن بمعناها الايجابي الذي يشير ولا يصرح، يعرض ولا يعلق، يلفت ولا يوضح، يقدم ولا يسرد لغة درامية كتب في شأنها زمرة من الدراميين، كما أن ونوس يقف موقفا متأزما من اللغة التقليدية ويحاول جاهدا أن يجد بديلا عنها لأنها لا تسعفه. وهذا البديل تمثل في مسرحية” حفلة سمر من أجل خمس حزيران “التي أعلن عنها في هذه المسرحية على لسان شخصياته، ولقد عانا في خلق هذه اللغة الجديدة التي تسعى إلى القضاء على المتعقدات التي توارثها المجتمع، ناهيك عن فضح كل القضايا العالقة. دون نسيان اللغة الجماعية التراثية التي تتنوع بتنوع المسرحيات مابين اللغة التراثية الشعبية في مسرحية “الملك هو الملك” فنحن “خارج المسرحية (لكن هل نحن خارجها فعلا؟) نمارس فرجتنا لكنا بداخل المسرحية الأشمل خارج القاعة والنص، والتي يريد لها المؤلف النسف والتطهير وليس ثمة سبيل ثالث”
فمسرحية “الملك هو الملك” نشم فيها رائحة الليالي “ألف ليلة وليلة” إلى لغة التراث التاريخي كما في “سهرة مع أبي خليل القباني” التي يقرأ ونوس فيها “التراث المسرحي قراءة فنية مسرحية. وهي محاولة لها أهميتها وقيمتها وحداثتها في مسيرة الحركة المسرحية العربية. فحين يبتدع المسرحي أو القصصي أو الروائي أو الشاعر تشكيلا جديدا فنيا في مجاله ينتقل بالفن من حال سائدة إلى حال غريبة ولكنها تشد الأنظار، وتستحق الوقوف عندها”
وحين تندمج اللغة بالتراث، وتستحضره في صورها ومفرداتها وتشكل به رؤيتها فإنها تقوم بدورين، فإلى جانب دور اللغة في عملية التواصل وتبليغ الرسالة الأدبية، يقدم التراث بعدا ثانيا عميقا وهو البعد الدرامي القائم على استدعاء صور قديمة تكتسب جدتها خلال السياق الكلي للعمل الفني… كما نجد ونوس يستعمل اللغة الارتجالية، تلك اللغة التي تناسب نوعية المسرح الارتجالي. ويصر ونوس على استخدام اللغة العربية الفصيحة، وهذا يتفق مع فكرته السياسية والاجتماعية؛ إذ يرى أن مشكلة اللغة في المسرح قد نشأت مع ظهور الطبقات الشعبية الجديدة كمستهلك للمسرح… ومع ظهور الواقعية الجديدة. إلا أنه يعتقد أن الواقعية في المسرح ليست انعكاسا آليا للحياة العامة، فالمسرح يعتمد على الواقع في استفاء نماذجه، إلا أنه يضع تلك النماذج ضمن مواقف وآفاق شرطية، إذ يقول : “فكما أن الكلام بالعامية لا يكفي لكي يضفي على الشخصية سمة واقعية، كذلك فإن الكلام بالفصحى لا يمكن أن يكون حائلا أمام أن يكون النموذج واقعيا”
ولعل إيمان سعد الله ونوس بالمسرح ودوره في امحاء الفرق بين الفصحى والعامية، جعله لا يشذ في كتاباته المسرحية عن الفصحى، والتزامه الفصحى يعكس وعيه بأهمية استخدامها، ودورها في تكوين الإنسان والمجتمع والثقافة بشكل عام، ويعكس في الوقت نفسه موقفه الفكري والسياسي.وتبعا لذلك، يجب على المسرح أن يقوم بمهمة توعية وتنوير المتفرج حيال الواقع المعيش.
5- خلاصـــات :
إن مسرح سعد الله ونوس كشف عن فنية وديناميكية التراث والطقوس الشعبية، وأثرى بذلك أشكالا ووسائل تعبيرية، تمنح المسرح العربي والمسرح الشرقي عموما خصوصيته بغية الوصول إلى العرض الشعبي وتأصيله، ومن خلال هذا البحث أضحى طريق المسرح العربي أكثر وضوحا، وامتلك امتداده التجريبي المؤثر في المسرح الإنساني العالمي بشكل عام، وأضحت هذه المهمة أكثر تجليا في مسرحياته الأخيرة التي كتبها، وكان الموت قريبا وشاخصا أمامه كمسرحية “بلاد أضيق من الحب” و”منمنمات تاريخية” و”طقوس الإشارات والتحولات” و”الأيام المخمورة”.
وهكذا ومما تقدم نستطيع أن نحدد خلاصة ما أراده ونوس بالمسرح التسييسي بعدة نقاط مهمة :
- إن سعد الله ونوس قد أدرك أن الكتابة المسرحية هي مشروع لا يكتمل إلا بالعرض تماما، كحتمية العلاقة بين الكتابة التنظيرية والممارسة العملية.
- إنه يريد فعلا مسرحا سياسيا يقوم ولو جزئيا بعملية تفريغ يومية، وفي الآن نفسه، يعمل ويحفز متفرجيه على التغيير.
- إن ونوس يريد مسرحا جماهيريا يتوجه إلى الطبقات الكادحة من الشعب، بعد دراسة أوضاعها وظروفها المعيشية.
- إنه يريد مسرحا جماعيا تشترك فيه مجموعة من الأفراد، توفرت فيهم صفات من التجانس والوضوح في الرؤيا والحماس، والقدرة على البحث والتنقيب. 5.إنه يريد أن تنطلق تلك الجماعة لتكسر طوق العمل التقليدي، وتحاول عن طريق التجريب المستمر بناء مسرح يحقق رسالته في المجتمع، بعد أن تعي صراعها الاجتماعي وقدرها السياسي.
- لقد حدد الوسائل الفعلية التي تحقق تفاعلا أكيدا مع الجمهور.
7. رفض القوالب الجاهزة حيال المسرح.
- محاولة تسيـيس الخطاب المسرحي وتكريسه في الممارسة المسرحية العربية.
- على المتفرج أن يتغير هو نفسه.
- أكد على خروج المسرح العربي من تيهه. وهكذا نجد مسرح سعد الله ونوس لا يشكل استثناء وليس بدعة ولا صرعة ولا ظاهرة، بقدر ما هو بعض إفرازات المجتمع العربي، في مرحلة معينة تزاحم فيها المسرحيون العرب متهافتين على أشكال المسرح الأوروبي فتجاوزهم هو، مادا جسوره الجديدة إلى التراث العربي، والسيرة الشعبية ساعيا-كما اجمع النقاد- إلى هدم جدار الغربة بين المسرح العربي وجمهوره إن كان فيما أعطى من تأليف واقتباس أم إعداد.
وعموما، فإن سعد الله ونوس قد أخلص لتنظيراته، وأظهر مهارة كبيرة في أخذه عن الغرب، ومزجه ببعض المضامين التراثية العربية التي تزكي الحس العربي، مما يعكس صدى أعماله في الوطن العربي، واختراقها الحدود الضيقة نحو أقطار عربية أخرى.
هذه إذن، تجربة فذة ومتميزة لسعد الله ونوس إبداعا وتنظيرا .