Sabri Yousef
١١ أكتوبر، الساعة ١١:٣٠ م ·
مَن يَحرقُ الحنطةَ، يحرقُ الحياةَ!
(ومن يحرق البساتين وأشجار الزَّيتون واخضرار الغابات يحرق الذّات والرّوح!)!
9
وحدَها القصيدةُ انتشلتني
من زمهريرِ الشِّتاءاتِ
أنقذتني من صفيرِ الرّيحِ
من نيرانِ الغدرِ المستفحلِ
على وجهِ الدُّنيا
منحتني طاقةَ حبٍّ لعناقِ الحياةِ
صالحتني معَ صفاءِ الرُّوحِ
وطهَّرتني من شرورِ هذا العالمِ
من اجتياحِ شراهاتِ الصَّولجانِ!
نقشْتُ معالمَ حرفي فوقَ شموخِ الجبالِ
فوقَ أسرارِ البحارِ
فوقَ صفاءِ الأمطارِ
أهدتني الكتابةُ إلى اخضرارِ الطَّبيعةِ
حرفاً معبَّقاً برحيقِ العشقِ
قادتني القصيدةُ بكلِّ حبورِ
إلى أشهى مرامي الأحلامِ
ورافقتني طويلاً على أنغامِ الابتهالِ
إلى رحابِ النّومِ العميقِ!
أنظرُ في مرآةِ ذاكرةٍ مفتوحةٍ
على رحابةِ العمرِ
فأرى والدي شامخاً
بشروالِهِ الدَّاكنِ
المعبَّقِ بالعشبِ البرِّي
يبتسمُ لي بفرحٍ غامرٍ بالشَّوقِ
يسألُني ألفَ سؤالٍ وسؤالٍ
عجباً أرى
هل علمَ والدي بألفياتِ تساؤلاتي معَ الذّاتِ
هل أنا ذاتٌ ممتدّة
عن ذاتِهِ الطّافحة بالعطاءِ
أم أنّني رحلةُ عشقٍ في أعماقِ الغاباتِ؟!
سنابلُ القمحِ لا تفارقُ خيالي
تنبتُ في حنايا الشِّعرِ
تسكبُ رحيقها فوقَ حبورِ الرّوحِ
احتراقُ سهولِ القمحِ
جرحٌ لا يبارحُ أنينَ الآهاتِ!
آهٍ .. تحترقُ سنواتُ العمرِ
فوقَ تيجانِ الطّموحِ
تتهاوى في أغوارِ مرامي البحوثِ
يسيرُ العمرُ بينَ ضفائرِ الموتِ
وأنيابٍ مسنونةٍ على انغراسِ القبحِ
تجتاحني غربةٌ مشبّعةٌ
بأوجاعِ بوحِ السُّؤالِ
غربتي من لونِ الاشتعالِ
من لونِ انبعاثِ شهوةِ الحرفِ
غربتي من مذاقِ مرارةِ الحنظلِ!
الإنسانُ رحلةٌ مفتوحةٌ
على أسرارِ الحياةِ
رحلةُ بحْثٍ عن أصفى تدفُّقاتِ الخيالِ
ترعبني مفاجآتٌ في عتمِ اللَّيلِ
ترمينا على قارعةِ البكاءِ
تسعفُنا القصيدةُ من بروقِ الرُّعبِ
تصاعدَتْ نيرانُ الحقولِ إلى أعالي الأغصانِ
كيفَ نمحقُ يا قلبي شرورَ الإنسانِ؟!
أنظرُ في أعماقِ رحلةِ العمرِ
أرى الوقتَ يعصرُني دونَ رحةٍ
يحاصرُني من كلِّ الجهاتِ
يفترسُ ليلي ونهاري
يرميني على قارعةِ أنينِ الآهاتِ
الوقتُ محرقةُ العبورِ
في محطَّاتِ الحياةِ
مساحةٌ محدودةٌ لشهيقِ الرّوحِ!
لا أرى بصيصَ أملٍ
ينتشلني من أنيني
من أوجاعِ الصِّراعاتِ
إلَّا انبعاثِ حرفي ..
يحرقونَ أجملَ خيراتِ الأرضِ
يحرقونَ البشرَ في عزِّ النّهارِ
ترنّحَتْ أشجارُ الغاباتِ
فرَّتِ الغزلانُ في أعماقِ الصّحارى
هرباً من لهيبِ الغاباتِ
البشرُ لغةُ انتقامٍ من وهجِ الجمر!
وحدَهُ قلمي صديقي وأنيسي
في غربةِ هذا الزّمان
يغنيني عن روابطِ دمٍ وأقوامٍ لا تُحصى
يُزيدني فرحاً وبوحاً في استيلادِ القصائدِ
لا أؤمنُ إلّا بمسارِ انبعاثِ الحرفِ
في دنيا غارقة بشراهاتِ التَّسلُّطِ
مَن يحرقُ الحنطة، يحرقُ وجهُ الدُّنيا!
الكتابةُ تنعشُ خيالي بكلِّ ابتهالٍ
تمنحُني ألقَ البقاءِ
تزرعُ في كينونتي اخضرارَ العطاءِ
تؤانسُني على مدى ليلي ونهاري
تخفِّفُ من أوجاعِ انكساراتي
تهَدْهِدُ إشراقةَ الحلمِ
تصدُّ غدرَ جشاعاتٍ في غايةِ القبحِ
تميطُ اللِّثامَ عن غبارٍ مُكلّسٍ
في دماءٍ ومخِّ عظامٍ
لأقربِ المقرِّبينَ أو لأبعدِ المبعّدينَ
تزيحُ عن كاهلي أوجاعَ الخياناتِ!
الإنسانُ مجبولٌ بشهوةِ الاستحوازِ
بغبارِ الغدرِ والاحتيالِ
يستميلُ يشغفٍ نحوَ واحاتِ الشُّرورِ
كيانٌ مجنَّحٌ نحوَ طينِ الخياناتِ
تجمعُهُ شراهةٌ ولا كلَّ الشَّراهاتِ
معَ أشرسِ الكائناتِ
يحرقُ خيراتِ الدُّنيا دونَ وجلٍ
كأنَّهُ مستولدٌ من أنيابِ الذِّئاب
أينَ تبخَّرَتْ خيراتُهُ
وكيف تبدَّدَتْ مرامي أحلامِهِ
وطموحِهِ نحوَ قيمِ الخيرِ؟!
أراهُ يزدادُ انجرافاً نحوَ أجيجِ النِّيرانِ
اِزدادَ غوصاً في ممارساتِ القبْحِ
تشرَّبَ شراهةً مقيتةً
في لغةِ الغدرِ والخيانةِ
يحرقُ سهولَ القمحِ ولا يبالي
كأنّه في رحلةٍ ترفيهيةٍ في الهواء الطّلقِ
مَن يحرقُ الحنطة، يحرقُ كينونةَ الإنسانِ!
مَنْ يستطيع انقاذ هذا الزّمان
من لهيبِ الشُّرورِ
من جنونِ الحروبِ
وآفاتِ الاشتعالِ في خيراتِ البلادِ؟!
وحدَها الكتابةُ تشمخُ عالياً
تجرفُ أحزاني نحوَ بحارِ النّسيانِ
تُهدِّئُ من انكساراتِ الرُّوحِ
وتغدقُ عليناً أملاً طافحاً
بأسمى انبعاثاتِ التَّجلِّي!
استوحي حرفي من أشهى حبورِ العمرِ
أسقيه من نِعَمِ زخّاتِ الأمطارِ
أهدهدهُ بنورِ الشّموعِ
كي تورقَ مآقي الأزهارِ
كيفَ يحرقُ الإنسانُ مؤونةَ البشرِ
لا يهمُّه موتَ الأطفالِ ولا جوعَ الكبارِ
من يحرقُ الحنطةَ
لا يختلفُ عمَّن يسمِّمُ نقاءَ الهواءِ!
يقهقهُ المرءُ وهوَ يحرقُ خدودَ السّنابلِ
في سهولِ الشّمالِ
كأنّهُ في رحلةِ مرحٍ
في بهاءِ الطَّبيعةِ
لا يكترثُ لمآسي الأضرارِ
ولا يفكِّرُ إلَّا بلغةِ الغدرِ
يقطعُ لقمةَ العيشِ عن أفواهِ البشرِ
كأنّه من نسلِ الوحوشِ!
ما فائدة هكذا بشر على وجهِ الأرضِ
ما فائدة إنسان يرشرشُ وجنةَ أخيهِ بالنّارِ
رافعاً نخبَ الاحتراقِ
ماحقاً بكلِّ رعونةٍ خيراتَ الأرضِ
ومخلخلاً أجنحةَ الطُّيورِ ولا يبالي
هكذا إنسان من فصيلةِ الضّباعِ
وآكلي لحومِ البشَرِ
ماتَ عندهُ وازعُ الضَّميرِ
مَن يحرقُ الحنطةَ، يحرقُ خدودَ الدُّنيا!
آهٍ .. وَجَعٌ يتوغَّلُ في سماءِ حلقي
ما هذا الأنين المبرعم
في وهادِ الأحلامِ؟
سقطَ الإنسانُ في فِخاخِ القبحِ
هجرَ أرقى ما في سموِّ البشرِ
حطَّ الرّحالَ عندَ غبارِ السُّمومِ
فاتحاً صدرَهُ للشرورِ
كأنّهُ في سباقٍ معَ حرقِ العقولِ!
ازدادَ الإنسانُ توحُّشاً ..
انحداراً نحوَ القاعِ
يزرعُ الفسادَ فوقَ قبابِ الكونِ
فاتحاً شدقيهِ بشراسةٍ
ملتهماً هِباتِ الأرضِ
يحرقُ دونَ وجلٍ اخضرارَ الحياةِ
شراهةٌ مميتةٌ ومعشَّشةٌ
في قلبِ الإنسانِ
لا يشبعُ من نِعَمِ الدُّنيا
ولا من شموخِ أبراجِ البنيانِ!
أريدُ أن أغفو بين أحضانِ الرَّبيعِ
فوقَ الأعشابِ النَّديّة
هناكَ في براري الشّمالِ السُّوري
حيثُ أحلامُ الطّفولةِ والشّبابِ
تبرعمَتْ كاخضرارِ السّنابلِ
في ربوعِ ديريك
أحنُّ إلى قداساتِ المكانِ
إلى بركةِ خيراتِ الأرضِ
حيث عناقيدُ العنبِ تتدلَّى
فوقَ ثغورِ الأطفالِ!
لعبنا هناك على مدى ذكريات
عقودٍ من الزّمان
لعبنا في كلِّ الفصولِ أبهى الألعابِ
ركبنا فوقَ النّوارجِ
وعبرْنا أعماقَ البراري
نسجنا في خيالِنا قصصَ الحبِّ
لم ننسَ تلألؤاتِ النّجومِ في كبدِ السّماءِ
من يحرقُ الحنطةَ، يبدِّدُ ضياءَ العمرِ!
…. ….. … ……………. ………….!
صبري يوسف