مفهوم أدب النقد ولزومياته لإحاطة الحدث بالأحكام الإعتبارية
عصام الياسري
لفترة طويلة ارتبطت أسطورة لوريس Loris البالغة من العمر ستة عشر عاماً، والتي جسدت بامتياز اليأس بهروبها الجمالي من الحياة في معبد الجمال. وعبادة الجمال، لم يكن بأي حال من الأحوال غير مبال، إنما يتم النظر إليه من خلال موضوعات التفاعل الاجتماعي ـ والاجتماعي التاريخي للمجتمعات وطبائعها وعاداتها وتقاليدها العامة. قد يكون ذلك مثيراً، لكنه في الفضاء العام “آلية” تعبيرية، ليس لفلسفة الحياة الجمالية والشاعرية عند البشر فحسب، إنما الوعي الأدبي لمفهوم “النقد”، عكس الأعمال غير ذات الصلة التي ظلت مخفية عن الوعي لأنها لم تصبح عامة.
“المراجعات النقدية” إلى ما قبل عصر التنوير، كانت بشكل أساسي أفكار “سلبية أو إيجابية” بالنسبة لطرفي التجاذب، الكاتب والقاريء، وهي بالكاد تكون موضوع بحث أدبي. لكن هناك إجماع عام على أن “النقد” ونحن نتحدث هنا عن ما يتعلق بالثقافات الغربية في أواخر القرن الثامن عشر على وجه الخصوص، قد تجاوز الدور الثانوي الذي نُسب إلى ذلك النوع من التصور المنغلق. لذلك تضع الدراسات العصرية أهمية “النقد” بأشكاله المتنوعة، في المقدمة، وفي نفس الوقت تأخذ في الاعتبار حقيقة: أن “النقد” يشكل نمطاً جدلياً من الأنماط التي تتيح للمؤلف مراجعة صياغه أفكاره. مع التركيز على أهمية ما يجلب معه من تصور جديداً تماماً للواقع، مع الوضع الاجتماعي المتغير بشكل عام والوضع السياسي والتقليدي بشكل خاص.
مفهومنا نحن العرب، لأدب النقد، في أغلب الأحيان نصبح “جلادين”، ننحاز إلى صراعات اجتماعية ـ سياسية أو عقائدية، وفي العموم على أساس المجاملات وليس المهنية. الكتابات النقدية عندنا في أغلب الأحيان (ولا أعمم) لا تعتمد الموضوعية، حينما تتناول مبدعا أو كاتباً ما. ولا تتناول مؤلفات المؤلفين الشعرية أو الروائية أو الفكرية وحتى في شأن السينما والمسرح والفنون التشكيلية، من زاويا حرفية حيادية، يقوم بها، الكاتب أو الشاعر أو الفنان الناقد المتخصص، يعتمد في مراجعته النقدية على التيارات القيمية والجمالية والانطباعية والشاعرية، ولا يجد صعوبة في فهمها وإحاطتها بالأحكام التعبيرية واللغوية والفلسفية.. من خلال متابعتنا للثقافات الغربية، الأوروبية تحديداً، وبغض النظر عن مدى شيوع كتابة النقد في مواضيع مختلفة وبمساحات واسعة، ألا أن القاعدة العامة لا تقبل “نقداً” يتعرض لشخص المثقف، ولا يتواءم مع المفاهيم واللياقة الأدبية. لاعتبارات أخلاقية ترتبط بفلسفة الإنتماء لإرث ثقافي وحضاري يُعتز به ويَعتبر المثقف جزءاً من تلك الحضارة ومكمل لثقافتها، وبالتالي احترامه يجسد إحترام الموروث الوطني ـ الثقافي المترامي الأبعاد..أحيانا أقرأ المواضيع النقدية العربية “كتابات نقدية” في مجالات متنوعة، إنما بأشكال مختلفة عما نعرفه في “أدب النقد” لدى الثقافات الأخرى. إلى حد كبير هي حكايات تجريم، نتيجة انفعالات شخصية، لا تمتلك رؤية، ليس فقط الجمالي والشاعري، إنما حاضرنا من خلال عيون حقبة ماضية، تم التعرف عليه وتدوينه بفعل ذلك الحاضر نفسه. على الأقل ليلتزم “الناقد” بشروط وحدود وأفاق ما يكتبه ومدى تأثير ذلك على الحياة الثقافية في بلده.. أعتقد ينبغي على الناقد العربي أن يكتب كما هو متاح في الثقافات الغربية نقداً موضوعيا ينسجم مع عصر حاضره: لأن أي فن أو رواية أو قصيدة لا تريد أن تتعرض لنقد زائف ومقيد. ومن ناحية أخرى، نجد أن الكثير لا يستطيع (إلا ما قل) أن يقترب في سياق أكاديمي من أي مكان أو حدث أو ظاهرة أو إنشاء أدبي أو فني بشكل كافٍ.
في مقالته بعنوان “الفن الوطني الديني الألماني الجديد” كتب غوته Goethe، الناقد للارتباك وحتى الخلط بين المجالات الدينية والجمالية، حول انسكاب الكاتب الألماني وأحد مؤسسي الرومانسيه في القرن الثامن عشر فاكنرودر Wackenroder على الرسومات الدينية والتأملات والقصص التي أثرت على تدفقات القلب لأخ الدير المحب للفن: » طالب المؤلف ببلاغة ملحة للعشق الدافئ لكبار السن، كما لو أنه الهدف الأعلى للفن، وأن قواعد المغازلة لدى كبار السن ليست لعبة فارغة، وأنهم لا يمتلكون باستمرار الصفات العاطفية، لذلك يُنظر إليهم على أنهم غير متفوقون على الأحدث ـ وبالتالي يتطلب حماساً ورعاً ومشاعر دينية، لا غنى عنها للقدرة الفنية ـ فيما ينظر النقد على أنه شر وتأثيره على الدين والدين عليه غير محدد تماماً. مع ذلك، كان على المعايير النقدية “التي تفترض مسبقاً على الأقل بعض الانتظام النسبي”، تقييم مثل هذه الأفكار بشفافية، بقدر ما هي مشروطة اجتماعياً وتاريخيا.. ما تسميه تافها، على سبيل المثال، يمكن أن يكون دقيقاً وعميقاً في سياق مختلف، أمام قصة مختلفة، أمام ثقافة مختلفة، حتى الأفراد، فقط، اعتماداً على متطلباتهم لهم غاياتهم المحددة «.
يقول ألفريد كير Alfred Kerr: (النقد هو الأهم في هذا العالم إذا كان أيضاً فناً. لسوء الحظ، الأمر ليس بهذه البساطة. من هنا فإن الناقد هو الخالق المضاد الذي يقف في أحيانٍ كثيرة في الطرف الآخر من الكون).. الكاتب عندما يخلو بنفسه للكتابة حول موضوع ما، يشعر بنشوة سمو باردة، أعظم من فرائد العصر. فقط الضجة اللغوية؟ تجعل من كتاباته أمرا ممكناً في مكان ضيق، لكن بفضل جلدة النقد كما يقول ألفريد: (لم يعد أي ناقد يعتبر نفسه ديوس سيكوندوسdeus secundus الإفلات من العقاب وسط مسرح مليء بالأحكام).. ألفريد كير، المصاب بجنون العظمة، ساوى بين النقد، لا: نقده، لكنه ذهب أبعد: (إلى أن النقد أفضل من الشعر). لديه أيضاً تشبيه ديني جميل: (الفنانون يتبعون خالق السماء والأرض كمبدعين أرضيين يتخيلون أولاً ما سيكون). ويصف الناقد الذي لا يقف في نهاية سلسلة الاستغلال، بل السلسلة الكونية للخلق نفسه بـ (المبدعين الذين يفسرون الوجود من خلال تعريفهم الفكرة وأشكال النص وأنواعه بابتسامة متسامحة تاريخياً) بالإشارة إلى أعمال المشاهير الأربعة جوته وشيلر وويلاند وهيردر.
استفاد عصر التنوير المعروف باسم “عصر المنطق” وهو حركة فكرية وفلسفية هيمنت على الأفكار في القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر، من الأنماط القديمة لعصر النهضة بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر، لمعالجة فكرة التنوير أدبياً. وكان في المقام الأول تركيز النداء الأدبي على تصميم توازن متناغم بين العقل والشعور، يكون نموذج للفترة الكلاسيكية الجديدة. لم يكن الأمر يتعلق بتصوير الواقع أو التنديد بالمظالم الاجتماعية بداية، بل أراد تقديم أنماط لتحديد الهوية التي يجب أن تثقف الناس ليكونوا أخلاقياً. أخذ لاحقا مجموعة متنوعة من النماذج النقدية للأوضاع التي تعاني منها المجتمعات، مع انتقاد كبير للنسبية الثقافية واستخدام استعارات ما بعد الحداثة لشرح جميع الظواهر الجيوسياسية الحديثة غير العادلة في الغرب، بما في ذلك قضايا العرق والطبقة والسلطة الأبوية وآثار الرأسمالية الراديكالية والقمع السياسي.. تناول الناقد الأدبي الأمريكي والمنظر السياسي الماركسي، فريدريك جيمسون Frederic Jamesonهذه الظاهرة بالقول: أن ما بعد الحداثة (أو ما بعد البنيوية) لا تريد أن ترتبط بنقد خطاب الرأسمالية والعولمة باعتباره “المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة” الذي يسهر على مصالحها.
يتشارك نقد ـ ما بعد الحداثة، على إختلاف تنوعه الفكري، في وجهة النظر القائلة بأنها تفتقر إلى التماسك وأنها معادية لمفهوم المطلق والحقيقة. على وجه الخصوص، يُعتقد أن “ما بعد الحداثة” يمكن أن تكون بلا معنى، وتشجع الظلامية، وتستخدم النسبية (في الثقافة، والأخلاق، والمعرفة) إلى الحد الذي تشل فيه معظم الأحكام.. غالباً ما يشير مفهوم ما بعد الحداثة إلى بعض الفروع، مثل فلسفة ما بعد الحداثة وعمارة ما بعد الحداثة وأدب ما بعد الحداثة. وأحياناً على ما بعد البنيوية، والنسبية الثقافية، و “النظرية” دون معالجة المخزون الكامل لمشاريع ما بعد الحداثة المختلفة. لذلك، فإن نقد ـ ما بعد الحداثة، ككل يكشف الغموض في تعريف ما هو عليه في الواقع.. لنقد ما من شأنه إنهاء هذا الجدل، يقول اللغوي والمفكر نعوم تشومسكي: بأن ما بعد الحداثة لا معنى لها لأنها لا تضيف أي شيء إلى المعرفة التحليلية أو التجريبية ـ أسأل لماذا لا يتفاعل مثقفو ما بعد الحداثة مثل الناس في المجالات الأخرى عندما يُسألون على محمل الجد ـ ما هي مباديء نظرياتهم، وما هي الأدلة التي تستند إليها، وما الذي يشرحونه والذي لم يكن واضحاً بالفعل، وما إلى ذلك؟، هذه متطلبات قيمة. إذا لم يتم الوفاء بالجواب عليها، في ظرف غير عادل، سألجأ إلى نصيحة هيوم Humes: بكم إلى ألسنة اللهب!. النقد في العموم، والأدبي بشكل خاص، من أهم هيئات الوساطة بين المؤلف والقارئ. يتشابك مع النظم الحديثة المتمايزة للتواصل الأدبي والاجتماعي، ويشكل جزء لا يتجزأ من ماهية الأدب، وكيف يمكن أن يكون أو على الأقل يجب أن يكون!. فما هو “أدب النقد” في الواقع؟ للجواب على السؤال، لابد من الإضاءة على أن نشأة مصطلح النقد الأدبي، والذي يستخدم كأمر طبيعي اليوم، بمثابة نهج لموضوع التحقيق. هذا المصطلح له أصله الاشتقاقي من الفعل اليوناني kr í no ، والذي ترجم فراق، منفصل، قرار أو حكم. في القرن السابع عشر، أخذ مصطلح “النقد” عن اللاتينية criticus (القاضي الناقد)، إلى اللغة الألمانية kritischer Beurteiler “مقيّم متشدد” فيما بعد Kritiker”ناقد”. عموماً يعني في الأساس شيئاً مختلفاً عن مفهوم النقد الأدبي في اللغة الإنجليزية أو النقد الأدبي بالفرنسية. على النقيض من الألمانية، مصطلح “النقد” في اللغة الإنجليزية يشمل مراجعة الأدبيات والنظريات في الدراسات الأدبية. في اللغة الفرنسية، Critique litteraire” النقد الأدبي” ويُصنف على أنه فرع من الدراسات الأدبية، بينما يدور في ألمانيا الجدل حول ما إذا كان يجب فصله عن الدراسات الأدبية على الإطلاق، وبالتالي، فإن الفهم الألماني للنقد الأدبي هو مفهوم صحفي أكثر منه أدبي، أو إلى حدٍ كبير يشبه التعريف الفرنسي critique mondaine”الناقد الاجتماعي”، الذي ظهر عالمياً في القرن السابع عشر كنموذج مضاد “للناقد المثقف” الذي يجسد النموذج الكلي، ناقداً مهذباً تتوجه نظرته نحو جمهور عريض من القراء.
يتناول وينديلين دينجلر Wendelin Dengler المراجعات النقدية بشكلها الأكاديمي في الخطاب الإعلامي بالقول: “النقد الأدبي، هو مجموع المواجهة مع النصوص التي تمارس في وسائل الإعلام، حول الآراء والكتب الأدبية والدراسات الفلسفية والفكرية والفنية، وكيفية مشاركة معظم النقاد حول فكرة أساسية أكثر أهمية. ومن جانب آخر يعتبر النقد، وسيلة رعوية للجمهور الثقافي والحياة الثقافية، ومن أهم هيئات الوساطة بين الأدب والقراء من جهة، والمؤلفين والناشرين من جهة أخرى”. إذن، النظام الأدبي، يشمل مؤسسات الإنتاج والتوزيع، وهي جزء من مؤسسة التواصل حول الأدب، الذي يشمل التربية التوعوية التي تتفاعل مع الأفراد والمجموعات، تؤثر عليهم وتتأثر بدورهم بها.. في القرن السابع عشر، على سبيل المثال، ساهم النقد الأدبي في حقيقة أن المزيد والمزيد من الطبقات قد تطورت وبالتالي أصبحت قادرة على نقل ما هو ضروري بشكل تعليمي والمشاركة في النظام الأدبي في الحياة الثقافية نفسها.. ببيانه “النقد ليس غاية في حد ذاته، ولكنه يؤدي مهمة يسهل تعريفها ـ أساسيات مشتركة” يقول ويرنر إيرو Werner Irro: (يجب أن يتحدث النقد إلى القراء، على الرغم من أن هذا المطلب الاختزالي لا ينجح في تحديد النطاق الكامل لوظائف النقد الأدبي، إلا أنه يشحذ وجهة نظر ما تعتبر الحد الأدنى من الإجماع على وظائف النقد).. ويقول توماس آنز Thomas Anz (منذ ظهور “المراجعات النقدية” في زمن حركة التنوير الأوروبية في القرن السابع عشر، لاتزال هناك وظائف عديدة تواجه “أدب النقد” ومواصفاته، ولكن، يجب على النقاد تقديم معلومات حول محتوى الكتاب وحول أي شيء آخر قد يكون مثيراً للاهتمام – على سبيل المثال، الإشارات الموضوعية إلى الحاضر، والزخارف التاريخية، والنصوص المتداخلة. وفي وقت تزايد حاجة القراء للمعرفة المكتسبة، فعلى “الناقد” أن يؤدي وظيفة التوجيه المعرفي ـ الإعلامي بقدر ما يمنح المهتمين بالأدب، نظرة عامة، يبقيها محدثة، وبالتالي يعزز التحسينات في إنتاج الكتب القيمة في المستقبل. من ناحية أخرى، سيستفيد القراء من حيث فهمهم للمعايير المطبقة عند تقييم العمل، ومقارنتها بمعاييرهم الشخصية).