د.عائشة الخضر لونا عامرالاتحاد العربي للثقافة
محمد سعيد
٢٧ سبتمبر 2020م · أجمل ما قرأت اليوم العندليب “عبدالحليم حافظ” كان من عادته خصوصاً فى آخر كام سنة من حياته وكنوع من التنفيس عن نفسه من ضغط البروفات ووجع التعب اللي بسبب مرضه؛ ينزل يتمشى ويلف شوية بالعربية.. ماكانش بيهتم باللي بيكون لابسه.. بيجامة ماشي.. جلابية مايضرش.. شبشب وإيه يعني!.. ولا حتي بوقت نزوله.. ينزل فى وش الفجر فل.. فى عز القيالة والشمس مش مشكلة.. الهدف في النهاية واحد أنا هاخد العربية وهنزل آخد لفة ولا لفتين وأرجع تاني.. فى مرة نزل وهو لابس جلابية وطاقية وشبشب وركب العربية وخرج.. ماتعرفش بقي من سوء حظه ولا حُسن حظ غيره؛ شافه صول مرور اسمه “عباس” ووقفه وسأله عن الرخصة.. طبعاً بالنسبة لـ “حليم” ده موقف غريب لأن غير إن ده مش توقيت يكون فيه حد يتسأل عن الرخصة فهو برضه العندليب اللي المفروض يكون وشه معروف للناس..“حليم” سأل الصول: (إنت مش عارفني!).. الصول “عباس” رد: (لأ).. “حليم” قال: (أنا عبدالحليم حافظ! مش واخد بالك من الشبه ولا حتي من صوتي!).. “عباس” قال: (وهو حليم هينزل من بيته بجلابية!، طيب غنيلي عشان أتأكد إن إنت هو!).. فى مشهد عبثي جداً بدأ “حليم” يغني فى الشارع أغنية (يا سيدي أمرك يا سيدي) وطبعاً الناس بدأت تتلم وطبعاً برضه مع كل حرف بيخرج منه كان “عباس” بيتأكد إن هو ده العندليب وبيتأكد برضه إنه هيتنفخ لأنه وقفه فى الشارع وسأله عن رخصته ومعروف إن “حليم” علاقاته قوية بناس مهمة فى الدولة وقتها يعني مجرد مكالمة واحدة هتخلّي عِبس يطير مع النسمة!..“عباس” قعد ربع ساعة يستحلف “حليم” إنه مايأذيهوش ومايشتكيش لحد إنه وقفه.. “حليم” اللي كان متغاظ فعلاً من “عباس” بسبب سخافة الموقف عدي الموقف عادي ووعده إن محصلش حاجة خلاص!..بالمناسبة قبل الموقف ده ماكنش “عباس” من هواة سماع أغاني “حليم” ولا هو أول مطربينه المفضلين أساساً.. بعدها بكام يوم؛ مر “حليم” من نفس المكان بس خلاص بقي كان حفظ “عباس” وهو كمان كان عرف شكل عربيته.. وقف وسلم عليه.. إتكرر الموضوع بشكل دوري بعد كده لفترة طويلة..“حليم” يتخنق من البروفات.. ينزل بلبس البيت.. يركب العربية.. يعدي على الميدان اللى واقف فيه “عباس”.. يقف.. يسلموا على بعض بـ ود ويدردشوا شوية.. يكمل مشي.. مع الوقت اتكونت علاقة لطيفة بين الاتنين بسبب العادة دي.. فى يوم وأثناء الدردشة دي “عباس” قال لـ “حليم”: (مش عارف أقول لك إيه بس أنا عايز منك طلب، من العشم والله)..رد “حليم”: (طبعاً يا “عباس” إحنا إخوات).. قال “عباس”: (فرح بنتي قرب، وكان نفسي تشرفنا نتباهي بيك قدام أهلنا وحبايبنا).. “حليم” قال: (ألف مبروك يا عباس، خلاص كبرت وعجزت أهو، هآجي، إمتي الميعاد وفين المكان؟)..بمنتهي الحرج قال “عباس”: (الأسبوع الجاي، وموضوع المكان ده مشكلة).. “حليم” سأل: ( ليه هتعملوه فين؟).. “عباس” رد: (فوق سطوح بيتنا فى الحارة اللى ساكن فيها، بص أنا عارف إنه هيكون صعب فلو مش هتقدر والله ما فيه أزمة خالص كفاية الفرحة اللي شايفها فى عينك)..“حليم” قال: ( مالكش دعوة إحنا إخوات أنا قولتلك).. ولغاية اللحظة دي كان “عباس” فاكر إن “حليم” بيجبر بخاطره بالكلام وإن الموضوع مش أكتر من مجرد مجاملة رقيقة من مطرب أصلاً أستاذ فى فن المشاعر فأكيد مش هيجرحه فكان مستعد إن “حليم” مش جاي لدرجة إنه مقالش لحد من أسرته..فى نفس يوم الفرح بيتأنتك “حليم” وبيلبس بدلة جديدة وبيعدي على محل من أكبر محلات المجوهرات فى الوقت ده وبيشتري طقم دهب كامل وبيطلع على حارة “عباس”!..مكان كان صعب العربية تدخله من مسافة كبيرة بسبب ضيق الشوارع فإضطر يركن العربية بره خالص ويكمل مشي.. طبعاً ممكن تتخيل ببساطة الزفة اللي مشيت مع “حليم” من أول المنطقة وصولاً لبيت “عباس” فى الحارة..وقف تحت البيت اللي عرفه بسهولة بسب الهيصة اللى جاية من فوق السطوح.. بص “حليم” لفوق عشان يعد الأدوار اللى هيطلعها على رجله لإن مفيش أسانسير!.. واحد إتنين تلاتة أربعة والسطوح فى الخامس!.. يا حلاوة!..“حليم” فى الفترة دي وبسبب كلام الدكاترة كان ممنوع من طلوع أدوار السلم على رجليه.. بس خلاص أنا جيت ومش هقف دلوقتي يعني!.. يا مسهل.. يطلع “حليم” للسطوح ويبقي ظهوره مفاجأة مذهلة خلّت الكل يسكت خالص ويفضلوا قاعدين في لحظة صمت من هول المفاجأة كإنهم إتحولوا تماثيل!..صمت تام يكسره “حليم” نفسه لما يروح لفرقة الموسيقي البلدي المكونة من 3 أنفار بس واللي كانت موجودة بتعزف ويسألهم: ( حافظين حاجة ليا يا أساتذة؟).. أفراد الفرقة اللى يتعدوا على صوابع الإيد الواحدة كانوا مذهولين هما كمان اللي هو: (إيه ده إحنا أساتذة!).. ده بيتكلم معانا كإننا من أفراد الفرقة الماسية بتاعته اللى بتعزف وراه فى حفلاته!.. إيه التقدير والقيمة دي!.. واحد منهم بيتجرأ وبيقول له: (أيوا يا عندليب حافظين أول مرة تحب يا قلبي).. يرد “حليم”: (عظيم يالا نبدأ بيها).. ويبتدي يغني وأغنية تجيب أغنية والليلة تطول ويبقي الفرح من أحلي الليالي اللي إتعملت..يخلص “حليم” غناء ويروح يقعد جنب “عباس” اللي ماكنش مصدق نفسه فيميل على “حليم” ويقول له: (بصراحة ماكنتش مصدق إنك هتيجي)..يرد “حليم”: (إنت أخويا وده فرح بنت أخويا ماكنش ينفع ماجيش).. ويفضلوا يتكلموا ويدردشوا ويضحكوا سوا لدرجة إن أى حد يشوف المنظر من بعيد هيقول إن “عباس” ده واحد من بقية أهل “حليم”!..أي حد كان ييجي يسلم علي “حليم” وهو قاعد كان “حليم” بطريقته اللطيفة ودمه الخفيف يشاور على “عباس” ويقول لهم: (طبعاً إنتم عارفيني، بس أكيد ماتعرفوش “عباس”، ده بقي أخويا).. موقف عظيم وحلو وفضل فى قلب وعقل كل اللى حضروه وبالذات “عباس”..تمر الأيام وييجي تاريخ 30 مارس سنة 1977 ويتوفي “حليم” فى لندن والخبر يتعرف فى مصر ويتذاع فى الراديو والتليفزيون والبلد تتقلب من الحزن.. فى نفس اليوم يشاء ربنا إن “عباس” لسبب أو لآخر مايكونش عرف الخبر ويكون داخل على الحارة اللي ساكن فيها..يشوفه شاب من شباب الحارة وهو بيعيط.. يسأله “عباس”: (مالك ياض فيه إيه!).. الشاب يقول: (إنت معرفتش يا عم “عباس”! صاحبك “عبدالحليم حافظ” مات)..يتصدم “عباس” ويهب فى الشاب وشِبه يضربه ويقول له بشخط: (إخرس قطع لسانك ماتفولش على الراجل دي سفرية عشان يطمن علي نفسه وراجع على طول)..يقولها “عباس” ويطلع جري على بيته ويشغل الراديو وهي لحظات ويتأكد بنفسه من الخبر وينهار نفسياً وعصبياً كإن “حليم” فعلاً واحد من عيلته!.. أبعاد الموضوع وتأثيره على “عباس” تكبر ويتغيب عن شغله ويفضل حابس نفسه فى أوضته مش راضي يخرج ولا يقابل حد!..يتفصل من الشغل.. يروح يقعد جنب قبر “حليم” يسقي الورد اللي حواليه!.. يروحوا أهله يترجوه إنه يمشي ويشوف حاله بقي وحرام اللى بيعمله فى نفسه وفيهم ده..يرد: (أسيبه إزاي، وهو ماسابنيش!، ده أخويا!، هو كان بيقول كده إننا إخوات، أنا قاعد ومش هسيبه مفيش أخ بيسيب أخوه يا ناس).. 3 سنين متواصلة يفضل “عباس” على الحال ده جنب قبر “حليم” يسقي الورد ويقراله قرآن!.. يتوفي بعدها هو كمان، ويتدفن فى المقبرة المواجهة لقبر “حليم”، ولحد النهاردة اللي بيروح هناك بيزور قبر الاتنين ويقرالهم الفاتحة مع بعض.. عادي وإيه المشكلة.. ما هما إخوات!.