في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..
من السؤال – 151 – إلى السؤال 160..
في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..
من السؤال – 151 – إلى السؤال 160..
لأنَّ الفنّان يعقوب شاهين هو بالضَّبط الذّات التَّائهة الّتي أبحث عنها. أجَل! هذه الذَّات الّتي كانت وماتزال تحمل راية حضارة الحضارات؛ حضارة العلم والمعرفة، حضارة كلدو آشور السّريان، حضارة آرام الّتي كانت تسمو نحو أقصى أقاصي السّماء، حضارة مار أفرام السّرياني الّذي لحّن آلاف الألحان وكتبَ مئات الألوف من الأشعار وملايين الأبيات الشِّعريّة الموزونة قبل أن يفهمَ الغرب قبل الشَّرق الغارق في الحروب السَّقيمة العقيمة، ماذا يعني الشِّعر؟ حضارة القصيدة وحضارة الملاحم الكونيّة، أليستْ ملحمة جلجامش أمّ الملاحم، أين أنتِ أيّتها الحدائق المعلَّقة، يا حضارة بابل وسومر وأكّاد، يا حضارة آشور وحضارة الكلدان الَّذين أبدعوا علوم الفلك عندما كانت أميريكا قارّة مجهولة لم تُكتشف بعد؟ يا حضارة حمورابي التّشريع الأوّل، وحضارة أوّل من اكتشف الحنطة، حضارة الحرف الأوَّل وأبجديات الحياة، حضارة التَّرجمة الّتي قام بها السِّريان في أوج عصورهم الذَّهبيّة ونقلوا حضارة الشَّرق والغرب إلى العالم، حضارة أن ترفع لواء الحقّ والعدالة والسَّلام والمحبّة للبشر كلّ البشر، حضارة أن ترفع راية الإبداع عالياً، حضارة أن ترتّلَ المرأة مع الرّجل تحتَ قبّةِ الكنائس، وترنّم كأنّها صوت الملائكة على الأرض، حضارة فيروز رسولة السَّلام إلى أقصى أقاصي الكون، حضارة وديع الصَّافي وملحم بركات، حضارة جاهدة وهبة الّتي تنشد الأغاني كأنّها تناجي السّماء والحياة والفرح والطُّفولة والحبِّ والسَّلام وأشهى ما في بهاء الحياة، حضارة حبيب موسى ملك الأغنية السّريانيّة في العالم، الّذي أخرج الأغنية السّريانيّة من حيزّ التَّرتيلة في هياكل الكنائس إلى النّور وهو في الرَّابعة عشرة من عمره، عندما غنّى شامومر أوّل أغنية سريانيّة خارج أسوار الكنائس، ثمَّ بدأ يصدح بأغانيه الّتي ترفرف في جميع أصقاع العالم، حضارة المحبّة والسَّلام والعطاءات الخلَّاقة أينما كان هذا الشّعب السِّرياني الآرامي الآشوري الكلداني الحضاري التّليد، حضارة أوَّل من اكتشف أبجديات الحرف، حضارة الفنّان المبدع يعقوب شاهين؛ الّذي انبعث من تجلّيات إبداع السِّريان؛ فاخترق كلّ الصِّعاب، واعداً هياكل كنائس السّريان المقدّسة الّتي ترعرعَ تحتَ قبابها وهو يرتِّل تراتيلها الّتي تناجي السّماوات والأرض والحياة والمحبّة والسَّلام مع جوقةِ الشّمامسة والرّهبان والكهّان على مدى سنين عمره؛ كي يقدِّمَ أرقى ما لديه للعالم! كم أدهشني وهو يعزف على بزقه أجمل الألحان قبل أن يصبح معروفاً، حيث شاهدتُ مقطع فيديو قصيراً؛ وإذ بأحد الرّهبان ينشد بالسِّريانيّة، ويعقوب شاهين يعزف على البزقِ دندناته الرّائعة، أذهلني صوت الرَّاهب الّذي كان يرافقه في الإنشاد بطبقاته وتجلّياته الشَّاهقة، وذكّرني بالشّمَّاس المرحوم سعيد الأعمى، كنّا نكنّيه بالأعمى؛ لأنّه كان أعمى، لكنّ بصيرة صوته كانت تتوغّل إلى أشهى أقاصي السَّماء، أنشدَ الرَّاهب بطريقةٍ تجلِّياتيّة؛ جعلتني أشعر أنّه أجمل صوت على وجه الدُّنيا، جعلني أشعر أنّني ضئيل الحجم أمام ذاتي، هذه الذَّات الَّتي قرأتْ على مدى أكثر من نصف قرن اللُّغة العربيّة، وتجيد العربيّة أكثر ممّا يجيدُ (80) % من العرب في العالم، ولا أجيد السِّريانيّة أنا السِّرياني الآرامي الآشوري الكلداني المنبعث من أقدم حضارة على وجه الدُّنيا؟ شعرتُ أنَّ كلَّ إبداعي وكتاباتي وكتبي الّتي تربو عن ستِّين كتاباً لا تساوي أن أجيد السِّريانيّة لغة أجدادي وحضارتي وتاريخي وشعبي! لكن السُّؤال المطروح: لماذا لا أجيد السِّريانيّة، أنا عاشق اللُّغات؟ جوابي بسيط بساطة الماء الزُّلال، وممكن أن أصيغه بالاختزال التَّالي: أين هي جامعاتكم ومعاهدكم ومدارسكم السِّريانيّة أيّها العرب الكرام، ولا أعلم فيما إذا أنتم كرام أم لا؛ كي أدرس في محافلكم هذه اللُّغة المقدَّسة؛ لغة السَّيّد المسيح، لغة الحرف المقدّس، الُّلغة الّتي أوصى بتعليمها رسولكم المعظّم، لكنّكم لم تأخذوا بهذه التّوصية بعين الاعتبارّ؟! هل يعلم العرب الكرام -ولستُ متعصّباً ولا متشدِّداً وتاريخي على مدى سنوات عمري يشهد على ما أقول، وإلّا لما كتبتُ كل إبداعاتي بالعربيّة- هل يعلم العرب كلَّ العرب أنَّ اللُّغة العربيّة بجلالة عظمتها وقوّتها وعمقها وروعتها مستمدَّة وممتدّة ومقتبسة ومنبعثة من السِّريانية الآراميّة؟ ماذا يشهدُ القرآن الكريم عندما ينطقُ: “أبجد هوّز حطّي كلمن سعفص قرشت” إنّه ينطق حرفيّاً وبشكلٍ متسلسلٍ الأبجديّة السّريانيّة القحّة حرفاً حرفاً، وهي من أقل الحروف في العالم لصياغة لغة من أعرق اللُّغات، ثم تمَّ تنقيط بعض الحروف منها؛ كي يُصاغ حرفاً جديداً وهذا ما اتّبعه حرفيّاً نحّاة اللُّغة العربيّة كما هو واضح بالحروف التَّالية: الدَّال والذَّال، الصَّاد والضّاد، الطَّاء والظّاء الحاء والخاء وغيرها من الحروف، ولو أحصينا أسماء المدن والقرى السِّريانيّة؛ سنجد آلاف الأسماء السِّريانيّة في بلاد ما بين النَّهرين والشَّرق حتّى تاريخه، وقد قام الدُّكتور والبروفيسور السّرياني الآرامي كبرئيل صوما ببحثٍ أكاديمي رصين بدراسة موسّعة معتمداً على عشرات عشرات المراجع حول المدن والقرى والعواصم العربيّة والكرديّة والتّركية والفارسيّة؛ ووجد فيها أسماء العديد العديد من المدن والقرى بالمئات بل بالألوف بالآراميّة السِّريانيّة، ويتمُّ استخدام هذه الأسماء حتّى الآن، تخيّلوا أنَّ اسم الكويت كلمة سريانيّة آرامية قحّة، أربيل كلمة سريانيّة، دمشق كلمة سريانيّة، وقس عليها مئات مئات الأسماء، وأكثر ما أدهشني أنّه في سياق شرحه وتفنيده لمئات مئات الكلمات أنّها سريانيّة آراميّة، أكّد بدقَّة متناهية أنَّ مكّة وهي من أقدس مدن الإسلام والمسلمين في العالم هي كلمة سريانيّة آراميّة، ماذا بعد؛ كي يعترف العرب بأنَّ الحضارة الآراميّة السِّريانيّة الآشوريّة الكلدانيّة هي من أعرق الحضارات في الشَّرق وما يسّمى بالعالم العربي؟ وأقول ما يسمّى؛ لأنّنا لو أحصينا العرب الآن في العالم العربي؛ سنجد أنَّ أغلبهم من الكلدو آشور السِّريان، والصَّابئة المندائيين، والبربر الأمازيغ، والفينيقيين والفراعنة والتّركمان والشّركس والجاجان والكرد واليزيديين والأرمن والعديد من الأقوام الأخرى .. ناهيكم عن أنَّ أكثر العرب أنفسهم هم من هذه الأقوام، ودخلوا العرب واستُعربوا على مرّ التَّاريخ، سواء بحدِّ السَّيف أو من تلقاء أنفسهم، أو بحسب طغيان المدّ العربي على امتداد تاريخهم، والمفلق في الأمر أنَّ العربَ لم يقدّموا بعد أن استلموا زمام الأمور بحدِّ السيف، لم يقدّموا حضارةً تماثل لا أن تضاهي حضارة ما كانت سائدة آنذاك، بل بالعكس قضت ما استطاعت إلى ذلك سبيلا على الحضارات السَّائدة ابتداءً من الحضارة الفرعونيّة والأمازيغيّة والكلدو آشور السِّريانيّة الآراميّة والفينيقيّة والآريّة الكرديّة واليزيدية والصّابئة المندائيّة والأرمنيّة وغيرها من الحضارات الّتي قدّمت للبشرية أضعاف أضعاف ما قدَّمته العرب، ولا أقول ما قدّمته الحضارة العربية؛ لأنّني لا أجد أمامي حضارةً عربيّة بقدر ما أرى أمامي أمّةً تعشق الحروب هي الأمّة العربيّة، أمّةٌ تفجعُ ذاتَها بذاتِها، والأقبح من كلِّ هذا أنّها أوَّل أمّة على وجه الدُّنيا ضدّ ذاتها، وكل الأحداث التّاريخيّة والحاليّة المروِّعة تؤكِّد أنَّها تفني ذاتها بذاتها، وإلَّا ما هذه الصّراعات والحروب المريرة الأقبح من قبيحة ما بين السُّنّة والشِّيعة والّتي أدّت وتؤدّي إلى القتل والذّبح على الهويّة، والّتي تؤكِّد أنّها أمّة تقبع في آخر ذيل الحضارة؟! وأسأل ذاتكم الجريحة مثلما أسائل ذاتي الغائصة في الجراح: بربّكم بدينكم بمعبودكم، هل وجدتكم أكثر من هذا خروجاً عن أدنى أبجديات الحضارة، هل وجدتم في تاريخكم وتاريخ حضارات الكون أمةً ضدّ نفسها أكثر من الأمّة العربيّة؟ فكيف لو لم تدافع الأمّة العربيّة عن ذاتها وعن شعبها ومذاهبها ودينها، كيف ستدافع عن بقيّة الأديان والأقوام الّذين عاشوا في كنفها منذ آلاف السِّنين؟ وهم من أصل البلاد ومن عمّروا البلاد، فجاءت العروبة والعرب وأسَّست حضارةَ حربٍ ضدّ ذاتها؛ وهي بالتَّالي ضدّ كل مَن يعيش في كنفها وجيرانها، وقد خرج من بينهم مَنْ يرفعون شعاراتٍ يتحدَّون بها الكون، وهم؛ أي العرب والحضارة العربيّة لا تستطيع أن تتحدّى طفلاً غربيّاً وصينيّاً ويابانيّاً وروسيّاً وفرنسيَّاً وألمانيَّاً مسيحيّاً بوذياً يهوديّاً علمانيّاً ملحداً قيقانيّاً كان هذا الطّفل؛ لأنَّ الطّفل في هذه البلاد يفهم أصول الحضارة أكثر منهم؛ لأنّه يجلس هذا الطّفل مع طفلٍ عربي في عواصم وبلدان هذه الحضارات، ويبتسم للطفل العربي ويعانقه عناقاً عميقاً بكلِّ محبّةٍ واحترام؛ٍ كي يبنيا معاً حضارة بلادهم، وأمّا العرب فما يزالون يتشدَّقون بترّهات آخر زمن، ويتساءل بعضهم تحت قبّة برلماناتهم أسئلة سمجة لا تخطر على بال من عاش في القرون الحجريّة وما قبلها، حيث يتساءلون بكل فجاجة وبدون أيِّ خجلٍ أو حياء: هل قيادة المرأة للسيارة حلال أم حرام؟!!! هل تتوافقونني الرّأي أيُّها الأحبّة أنّها قد هَزُلتْ كثيراً؟ فعلاً لقد هَزُلَت أكثر من اللّازم! ولهذا كلّه ولمليار سببٍ وسبب أقول أيُّها الشَّرق أيُّها العرب في العالم العربي من محيطة إلى خليجه وفي كلِّ بقاع الدُّنيا، اهتمّوا بمواطنينكم من كلٍّ الأقوام والأديان والمذاهب والاثنيات؛ كي يرفعوا رؤوسكم عالياً بكلّ الحبِّ والفرح والإبداع كما رفعها الفنّان المبدع السِّرياني الآرامي يعقوب شاهين؛ الَّذي فاز بجدارةٍ ببطولةِ العرب آيدل، ولا تطمسوا العطاءات الخلَّاقة الموجودة بين ظهرانيكم، وتُرَكِّزوا بكلِّ حماقةٍ على هدر الدِّماءِ وقتلِ ذاتكم بذاتكم، وقد نسيتم أنَّ البشرَ كلَّ البشر ذاتٌ واحدة ومن طينٍ واحدٍ، انبعثتْ هذه الذَّات المتطايرة من شهقةِ ربِّ الأعالي إلى آلافِ وملايين ومليارات الذّوات، وتبعثروا وتبلبلوا بقدرةِ قادر إلى لغاتٍ وأقوامٍ وأممٍ لا تُحصى على وجه الدّنيا!
مرّت عليّ الدَّكتورة إيلي/اليزابيت وقالت: تبيّن لي أنَّ هناك ترتيبات من قبل رئيس المستشفى؛ الدُّكتور رياض وراثة بتخريجك من المستشفى قبل أن تحصل على التَّقرير الطُّبّي الثَّاني؛ كي يتمَّ تخفيف الحكم والضَّغط على الجناة فيما إذا سرتم بشكواكم بشكلٍ قانوني حتّى النّهاية؛ لأنّ الحكم الأقوى يتمّ من خلال منح المريض التَّقرير الطّبّي الثَّاني، وفي حال عدم حصول المريض على تقرير طبِّي ثانٍ؛ وكأنّه ما كان في حالة خطرة؛ وبالتَّالي يصبح التَّقرير الأوَّل مثل قلّته تقريباً، وكأنّ المشاجرة كانت مشاجرة عابرة، وممكن أن تخفَّف العقوبات على الجناة إلى درجة سجنهم بضعة أيام، وتنبيههم وعدم معاقبتهم نهائيَّاً في وظائفهم؛ وبالتَّالي يضعف موقفكم بالضَّغط على الطَّرف الآخر بعرض شروطكم الّتي تستحقِّونها؛ ولهذا أنا حزينة للغاية لما آلت إليه الأمور! وهل برأيكِ الشَّخصي وضعي يتطلّب أن أحصل على تقرير طبّي ثانٍ؟ بالطَّبع يتطلّب؛ لأنَّ عينك ما تزال متورّمة، وعندك الكثير من الأوجاع في جسمك، ورأسك ما يزال متألّماً من الضَّربة في فروة الرَّأس، ناهيك عن الرّضوض الَّتي تسبَّبت لك الكثير من الأوجاع حتّى الآن، ولديك تدرُّز في عظام الصّدر، وتحتاج إلى وقتٍ أطول للرعاية في المستشفى؛ كي تحصل ليس على التَّقرير الطِّبِّيفحسب؛ بل للرعاية، وحصولك على التَّقرير الطِّبي الثَّاني هو طبيعي بحكم وضعك الصّحي! إذاً أنتِ ترين أنّني أستحقُّ أن أستمرَّ في العلاج من جهة وأحصل على تقرير طبّي أيضاً، طبعاً تستحقُّ، إذاً سأظل آخذ علاجي في المستشفى كما ترين، لكنّي يا عزيزي لا أستطيع أن أقرِّر في استمراريّة بقائك ومتابعة علاجك في المستشفى، ولا أستطيع أن أزوِّدَكَ بتقرير طبّي ثانٍ أيضاً، أنتِ لا تستطيعين أن تقرِّري في استمراريّة بقائي في المستشفى، لكنّي أنا أستطيع أن أقرِّر في استمراريّة البقاء ومتابعة علاجي إلى أن أحصل على تقرير طبِّي ثانٍ، وربّما ثالث لو أحتاج إليه، ولكنّكَ يا عزيزي أستاذ صبري، أنتَ ليس لديك سلطة في إقرار هذا القرار، ومَن له السُّلطة والقرار في هذا الأمر؟ الدُّكتور رياض وراثة فقط مَنْ يقرّرِ هذا؟ حتَّى ولو كان قراره مجحفاً بحقِّي وقائماً على حيثيات باطلة! للأسف نعم حتّى ولو كان مجحفاً بحقِّك، إذاً طالما هو مجحف بحقِّي؛ قرّرتُ أن أطبِّق قراري؛ كي آخذ حقِّي بيدي من رياض وراثة ولم أطلق عليه لقب الدُّكتور؛ لأنّني أسقط عليه صفة ولقب الدُّكتور منذ الآن! ولكنّكَ يا أستاذ أنتَ غير قادر على مواجهة الدُّكتور رياض وراثة! مَنْ قال لكِ أنّني غير قادر على مواجهة رياض وراثة؟ لأنّك لا تملك أيّة سلطةً ودعماً تجبره وترغمه على تطبيق قرارك ورغبتك ووجهة نظرك، ويبدو يا عزيزي أنَّ الدُّكتور وراثة تلقّى توصيةً وربّما ضغطاً من جهاتٍ معيّنة بطريقة أو بأخرى من خلال ترتيبات من أهل الجناة؛ كي يقطعوا الطَّريق عليكم خاصّة عندما وجدوا أنَّ طريق المصالحة أدّتْ إلى نفقٍ مسدود، أعرف هذا يا عزيزتي الدُّكتورة، واضح وضوح الشَّمس، مع انّني كنتُ منذ يوم أمس أخّطِّط للبدء بفتح حوار مع الطَّرف الثّاني للمصالحة، لكن يبدو أنَّ خيوط الحوار في هذا السِّياق ابتعدتْ كثيراً عنِّي وأعادوني إلى نقطةِ المواجهة معهم رغماً عنّي عبر مواجهتي لرياض وراثة نفسه؛ لأنَّ رياضاً يعدُّ حالياً المنافس الأقوى في طريقي لتحقيق الحوار الأنسب لي في فتح باب الحوار مع الطّرف الآخر؛ لتحقيق وتنفيذ كل شروطي عليهم، وما دام رياض معهم؛ فهم في موقع أقوى؛ لهذا لابدَّ من خلخلة الطّرف الأقوى الَّذي عندهم ويتسلّحون به، كيف يا أستاذ ستخلخل الطّرف الأقوى، هل أنت قادر على مواجهة قرار مدير المستشفى؟! طبعاً قادر، لكنّني لا أراكَ قادراً يا صبري، ولفظت اسمي حافَّا من لقبي، فردّيت عليها ببسمة يا عزيزتي إيليزابيت، يبدو أنّك لا تعرفين من هو صبري يوسف؟! ماذا تقصد، هل تهدِّد رياض وراثة؟ لا، لا أهدّده، بل أتحدّاه، وهو أصغر من أن أهدِّدَه؟! تعرف يا صبري، ستجنِّنُني بهدوءِ أعصابك وحوارك المركّز وثقتك الكبيرة بنفسك، مع أنَّني يا عزيزي، لا أرى عندك أيّة نقاط قوّة تخوّلك أو تجعلك تتحدَّث بهذه اللُّغة لإيقاف قرار مدير المستشفى! أعيد مرّة أخرى قائلاً لكِ: إنَّكِ لا تفهمين صبري يوسف وما في جعبتي من رؤى وأفكار ومخطّطات، طيّب اشرح لي يا عزيزي، كيف ستوقفه عند حدّه وتتحدَّاه وتطوي قراره وتلوي ذراعه وهو مدير المستشفى الآمر النّاهي؟! رفعت سبابتي ووضعتها على رأسي الموغل في الأوجاع قائلاً: بهذه الجمجمة الّتي تحمل مخّاً وعقلاً راجحاً سأهزم وراثة، نعم بهذه الجمجمة الّتي حاول الجناة أن يهشِّمونها، لكن أخي وصلني قبل ثوانٍ؛ كي يلكمَ ذلك المراهق الأهوج ويرديه أرضاً، فولّى هارباً مثلَ أرنبٍ مذعور! أرجوك عزيزي صبري قل لي ماذا ستتصرّف؟! سأقول لكِ، ولكن قبل أن أقول لكِ، متى ينوي وراثة تخريجي من المستشفى؟ على الأرجح غداً؛ لأنّه يعمل على ترتيبات أوراقك، لكنّه لابدَّ أن يلتقيكَ ويشرف عليك ولو شكليَّاً كإجراء روتيني، ومهما كان وضعك وردودك، فإنّه قرّر أن يخرِّجكَ من المستشفى، ولن يتراجع عن قراره، وفيما كنَّا في أوجِ النّقاشِ، دخل عليناالدَّكتور رياض وراثة، نظرَ إليّ وقال: شو فيك، فقلتُ له: صدّق دكتور كما ترى جرح قاطع في جفن العين اليسرى، وماتزال عيني متورّمة وحمراء مثل الدم، ورأسي مكسور ومقطّب خمس قطبات بجرحٍ عميق، وعندي كما قرأتَ في تقرير الأطبَّاء تدرُّز في ثلاثةِ عظامٍ من عظامِ الصّدر، ورضوض في سائر أنحاء الجسم، وأشعر بين الفينة والأخرى بدوخة في رأسي، وأحتاج كما ترى إلى رعاية مستشفاكم إلى أن أشفى نهائيَّاً، لا لا يا أستاذ، ما تحتاج إلى رعاية أخرى؛ فها جرح رأسك قد التأم، ونظر إلى الجرح، وجرح عينك قد التأمَ أيضاً، عندك شوية أورام في خدَّك، وعينك حمراء صحيح، لكنّنا سنزوّدك ببعض الأدوية، وتستطيع أن تتخرَّج من عندنا اعتباراً من يوم الغد بعونِ الله، وما بدنا دلال، ما شاء الله، وضعك جيّد وتبدو مثل الوردة، لكنّي يا دكتور أعاني كما قلتُ لك من أوجاع في الرَّأس وفي عيني، وفقدتُ الكثير من الدم، وما يزال صدري يؤلمني؛ بسبب تدرُّز بعض عظامي، وتقول لي: أنتَ مثل الوردة؟ عفواً يا أستاذ لا تناقشني؛ هذا شغلي وأعرف شغلي جيّداً، ولكنِّي يا دكتور مريض وأعرف جيّداً أنّني مريض، هل تريد أن تبقى بضعة أيام أخرى؛ كي تحصل على تقرير طبِّي ثانٍ؟ كانت إيلزابيت حاضرة تسمع الحوار كله، فقلت له: مَن تحدّث عن موضوع التّقرير الطّبي الثّاني، أقول لك يا دكتور: أحتاج للعناية بضعة أيّام أخرى أسبوع عشرة أيام، تقول لي تريد الحصول على تقرير طبِّي ثانٍ، لا يهمّني الآن سوى معالجتي وطبابتي إلى أن أُشفى، لكنّكَ لو ظللتَ بضعة أيام أخرى؛ سنضطرُّ بحسب مدّة معالجتك وبقائك في المستشفى أن نزوِّدك بتقرير طبّي ثانٍ، فأوقع نفسه في الفخ، وقلتُ له: طيّب وما المشكلة عندك يا دكتور بصفتي مريضاً في مستشفاك أن تزوِّدني بتقرير طبّي ثانٍ لو ظلَلْتُ بضعة أيام أخرى، خاصّة أنّني أحتاج لهذه الرِّعاية في الأيام القادمة؟ لكنِّي لا أريد أن أزوِّدك بتقرير طبِّي ثانٍ؟ وبابتسامة سألته: ولماذا لا تريد يا دكتور؟ هذا شغلي وما بدّي أي نقاش في شغلي، ولكنّي أنا أريد أن أتعالج، وأريد أن أتزوّد بتقرير طبّي ثانٍ لو كانت ترتيبات وضعي الصّحِّي تخوِّلني بمنحي هذا التَّقرير، على أيّة حال أنا مَن يقرّر هذا، هل أنتَ متأكّد يا دكتور أنَّك تقرّر هذا حتّى ولو كنتُ محتاجاً له طبِّيّاً وعلاجيّاّ! نعم أنا أقرِّر هذا وانتهى النّقاش عندي، ولكنَّ النِّقاش عندي لم ينتهِ بعد يا دكتور، أنا مَن بدأ النّقاش ومَن ينهي النِّقاش، طيّب دكتور سنرى فيما إذا ستستطيع أن تخرِّجني من المستشفى غداً! .. تتحدّاني؟! ولفظ الكلمة بانفعال، وبكلِّ هدوء قلتُ له: يا دكتور منذ البداية وأنا أناقشك بكلِّ منطق ورحابة صدر، لكنّك على ما يبدو مصرّ على تخريجي؛ وهذا هو كل هدفكَ من زيارتي اليوم، مع أنّني لم التقِك منذ دخولي إلى المستشفى إلّا بالمصادفة، وإذ بك فجأةً تمرُّ عليِّ وتحقِّق معي تحقيقاً طويلاً، وتصرُّ في كلِّ ما جرى من حوارٍ بيننا على نقطة واحدة وهي تخريجي من المستشفى حتّى ولو كنتُ مريضاً وبحاجة للرعاية؛ ولهذا أقول لك للمرة الثَّانية وبكلِّ هدوء: سنرى فيما إذا تستطيع تخريجي غداً من المستشفى أم لا؟ أجابني بانفعالٍ أكبر: أراك تتحدّاني، معاذ الله أن أتحداك يا دكتور إنِّي أحذِّرك فقط! مَنْ أنتَ؛ كي تحذِّرني في شغلي؟ أنا صبري يوسف، أحذِّرك؛ لأنّك لا تشتغل شغلكَ كما يجب، وأحذِّرك للمرة الثّالثة أنّك لو خرّجتني من المستشفى سترى ما ترضاه عن نفسك، وسنتواجه غداً يا دكتور! ولفظتُ عبارتي الأخيرة بتحدٍّ واضحٍ كأنّني رئيس مشافي الحسكة والدُّكتور وراثة ليس أكثر من طبيب تحتَ تصرُّفي، فخرج وهو في قمّة غضبه!
شو عملت يا صبري مع الدُّكتور، تعرف لا يوجد الآن قوّة في العالم تستطيع أن تمنعَ الدُّكتور رياض عن تخريجك غداً، لكنّكِ كنتِ شاهدة عيان يا عزيزتي أنَّني اتبعت معه كلَّ الطُّرق والوسائل الحضاريّة والحواريّة؛ كي يعدل عن موقفه، لكنّه أصرَّ منذ البداية، وكما نعلم كلانا أنَّ هناك توصية تجعله راغباً أو مُكرهَاً أن يخرِّجني رغماً عنِّي وعن حاجتي إلى الرّعاية وإلى التَّقرير الطِّبّي، ويبدو واضحاً أنَّ معركته معي هي على التَّقرير الطَّبِّي؛ لهذا سنتواجه غداً، كيف ستواجهه وهو يقدِّم لك أوراق تخريجك؟ ابتسمتُ وقلت لها: يا عزيزتي إيلي بهذا المخّ الصَّغير في القفص العلوي سأواجه وراثة، وغداً سأذكِّرك بما في هذا الرّأسِ من رجاحةِ عقلٍ أواجه به هذا المسكين! يا إلهي، لم أجد في حياتي إنساناً واثقاً من نفسه ويمتلك رشاقة منطقٍ في الحوار مثلك، ومع أنَّ كلَّ المواقف ليست لصالحك، ولا يوجد عندكَ أيّة واسطة تضغط عليه، ومع هذا تشير بكلِّ ثقة إلى رأسك وعقلك، وكأنَّ في رأسك لجنة أطباء أعلى سلطةً من الدُّكتور وراثة وتقرِّر ما تشاء! ابتسمتُ بكلِّ ثقةٍ وقلتُ غداً وليس بعد الغد سأذكِّرك بأنّ هذه اللّجنة الطّبِّيِّة الّتي بحوزتي أقوى من أيّةِ لجنة طبيّة أخرى، طالما الأمر محسوم فلا بدَّ من إيجاد ما يُحْسِمُ ما لا يُحْسَم! والآن أريدكِ أن ترتاحي يا عزيزتي؛ لأنِّني أرهقتك معي، لكنّي فقد أريدك أن تخبِّريني غداً قبل ربع ساعة فقط من تخريجي من المستشفى؛ كي أعدَّ عدّةَ المواجهة الّتي لا تخطر على بال الجنِّ المزركشِ بكلِّ الألوان!
نظرَتْ إليّ بحنانٍ كبير يشوبه نوع من الشّفقة والحزن، وقرأتُ في عينيها قبل أن تغادرَ الغرفة ما يوحي أنّها أمامَ شابٍ يهذي، لكنَّ هذيانه كان متماسكاً وقويَّاً، والسُّؤال الأهم الّذي كان يراودها: ما هذا الَّذي يخبّئه صبري في هذا الرّأس الموجوع؛ كي يتكلّم بهذه الثّقة، وهل سينتصرُ على رياض وراثة في نهاية المطاف؟!
يلاحظ كل مَنْ قرأ جوابي السّابق أنّني كنتُ أتحدَّث معه ومع الدّكتورة إيليزابيت وأنا واثق من نفسي حتَّى النِّخاع، إلى درجة ممكن إيلي كانت تظن أنَّني أهذي خاصّة عندما لم تمسك أي خيط أو جواب أو إشارة ولا أي تلميح إلى أسباب هذه الثّقة العمياء الَّتي أعتمدُ عليها! إلَّا أنّني حقيقة الأمر خطَّطتُ مباشرةً فيما كانت تناقش معي قبل حضوره، وأستمررتُ في تصعيد الحوار معه إلى أقصى التّصعيد والتّحدِّي، خاصّة عندما وجدتُ أنّه مصرٌّ بشكلٍ حاسم أنَّ لا عودة عن قرار تخريجي من المستشفى؛ كي يفوِّتَ عليَّ فرصة حصولي على التّقرير الطّبّي الثّاني، فتبيّن لي إنَّه إمَّا مرتشٍ من الطّرف الآخر، أو مضغوط من جهة أمنيّة أو تربويّة؛ ولهذا وضعتُ في الاعتبار أنّه يستحيل أن يتراجع عبر حواري معه، وحلَّلتُ مباشرةً أنّه من المستحيل أن أكون قادراً منذ أن خبرّتني إيلي على إيجاد أي ضغط أو واسطة أقوى من الضُّغوط الَّتي وردته، سواء كانت رشوةً، أو ضغطاً، أو توصيةً من أطرافٍ ما، لا أستطيع الوصول إليها حتّى ولو كنتُ خارج المستشفى، فكيف وأنا قعيد المستشفى على فراش المرض، وأهلي غير قادرين على مواجهة حالات كهذه، لهذا قفز إلى ذهني منذ الدَّقيقة الأولى مخطَّطاً يحبط كلّ خطط وراثة والضُّغوطات الَّتي عليه والوساطات الضّاغطة والمضغوطة، لكنّي كنتُ في غاية الحذر؛ كي أهجمَ بشكلٍ مفاجئ وحاسم وبطريقةٍ لا يخرقها الماء!
كان الوقت عصراً عندما ودّعتني الدُّكتورة إيليزابيت، قرأتُ حزناً عميقاً في عينيها للنتائج الَّتي حصلت، كم كانت تريد أن تبقى معي وتساعدني، لكنّها ما كانت في موقعٍ يخوّلها قانونيّاً أن تفرض رأيها عليه، خاصّةً أنّها عرفت أنَّ هناك جهات دخلت على الخط لا يستطيع الدّكتور نفسه أن يقول لها: “لا”! ولهذا بدأتُ أحكِّم مخطَّطي، جلستُ بجانب منضدة صغيرة كنتُ أتناول عليها فطوري وطعامي، دائماً كان في حوزتي أوراق بيضاء وكتب وأقلام للكتابة، أغلقت باب الغرفة، كنتُ وحيداً في الغرفة ما كان هناك مَن يقاسمني الغرفة، بضعة كراسي للزوّار، شربت قليلاً من الماء، نظرتُ في المرآة فوجدتُ وكأنَّ صورة والدي تتراءى معي، ابتسمَ لي، كأنّه يمنحني المزيد من الثّقة، خفّ ورم عيني، لكنّها كانت ما تزال حمراء، لمستُ جرح رأسي، لم أشعر بألم شديد في رأسي، صدري كان يؤلمني عندما كنتُ أنام على الطّرف المتدرّز من عظام الصّدر، أمسكتُ قلمي وبدأت أضع مخطّط الهجوم الَّذي لا يخطر على بال مخلوق في الدُّنيا إلَّاي!
لا أعلم كيف أستمدُّ قوّتي من ضعفي، خاصّة في الحوار، لم أجد نفسي منهزماً يوماً في الحوار خاصّة في قضايا كهذه تتعلّق بالحقوق والواجبات والقوانين، لا أريد أن أظلمَ أحداً، لكنِّي أدافع عن نفسي حتّى النّخاع بكلِّ الوسائل المتاحة عنّدي، فقد كان لدي وسيلة تخرق لجان أطباء محافظة الحسكة بكلِّ مدنها ونواحيها، ولم أصرّح لأحد عن مخطّطي حتّى تتمَّ لحظة الحسم، وبعد أن أضعه على المحكّ هذا الَّذي يطرح نفسه رجلاً على إنسان بسيط مثلي مظلوم من رأسي إلى أخمص قدمي، فجاء في طريقي؛ كي ألقّنه درساً لن ينساه طوال حياته، وسأبيّن له أنَّ الضّعفاء أو الَّذين يبدون ضعفاء ليسوا ضعفاء كما يظن، إن الضّعفاء الجبناء فقط همالضعفاء؛ لهذا وجدت في نفسي من القوّة ما تكفي لمواجهة الأقوياء الَّذين يستندون على قوى هشّة، ظالمة، رشوات بغيضة، ضغوطات سقيمة أودَتْ بالبلاد إلى مرامي الجحيم، وهكذا حوّلت ضعفي إلى قوة لا تُضاهى من خلال الجرأة وروح المغامرة الّتي تميّزتُ بها طوال عمري! كتبتُ رقم (1). كيفيّة وضع حدّ للدكتور وراثة لتغيير قراره رغماً عنه حتّى ولو وزير الصّحة أرغمه على تخريجي من المستشفى؟! ثم بدأت أضع اثنتي عشرة نقطة كل نقّطة تدعم موقفي وتضعف موقف وراثة إلى أن وجدتُه يولّي هارباً تاركاً المستشفى وما فيها، ويعدل عن رأيه رغماً عن أنفه! قرأتُ النّقاط كلها أكثر من مرّة، ثمَّ توجّهت إلى المرآة وإذ بي أرى وكأنّ وجه أمي تبتسم لي، عندها عرفتُ أن أبي أعطاني أملاً وقوة وتفاؤلاً وأمّي تمنحي ثقةً بالنّجاح المأمول، همستُ: طالما أبي وأمي معي؛ فممَّن سأخاف؟ من جبناء آخر زمن، يستغلون مواقعهم الكرتونيّة الهشّة على مدرّس أشرف منهم ومن كل من هم على شاكلتهم، طالما هم يخرقون القوانين بهذا الشّكل الأحمق والظّالم! بسيطة يا وراثة بسيطة، نتواجه غداً! أمسكت الورقة وذهبت إلى الحمام وأصبحتْ في ذمَّة العبور بعد أن مزقّتها؛ كي لا أترك أثراً خلفي! دقّيتُ المنبّه، بعد لحظات جاءت ممرضة وهي تبتسم لي، خير أستاذ، ممكن كأس شاي لو سمحتِ، تكرم أستاذ، عادت بعد قليل ومعها الشّاي، هذا كل تحضيراتي للمواجهة، عند المساء تناولت عشائي ثمَّ استسلمت للنوم ونمتُ نوماً عميقاً، وكأنّي في رحلة ترفيهيّة غداً، مع أنّني بصدد مواجهة شرسة مع أحد الجبناء! نهضتُ من نومي قرابة الثَّامنة صباحاً، غسلت وجهي، بعد قليل قدَّمت الممرّضة الفطور، أشعرتها أنّني على غير ما يرام من حيث حركتي وكيفية حواري وصوتي وملاح وجهي، بحدود العاشرة مرّت عليّ الدُّكتورة إيليزابيت وقالت لي: أوراق تخريجك جاهزة ما بين العاشرة والنصف والحادية عشرة، ستودِّعنا بحسب الأصول الَّتي ستتلقَّاها، قلتَ لي خبّريني قبل ربع ساعة، ها أنذا أخبّرك قبل أكثر من نصف ساعة، سنرى كيف ستواجه ملفّ تخريجك من هنا يا أستاذ، اِنسحبي الآن يا عزيزتي ومرّي عليّ بعد حوالي ساعتين لا أكثر، خرجت عزيزتي الغالية إيلي من غرفتي وكلّها حزن، وبعد عشرة دقائق تقريباً استلقيتُ على سريري، وبعد أن ركّزت مليّاً بمخّطَّطي الجهنّمي بدأتُ المواجهة منطلقاً من سريري مواجهةً تزلزل وراثة وتضعه في خانة اليكّ ووضعيّة المحبوسة! صرختُ صرخةَ ألمٍ وإذ بي في حالة هستيريّة، خلال ثوانٍ حضر ثلاث ممرّضات أتلوى بألمٍ شديدٍ أرفس، أصرخ بصوتٍ عالٍ، أشدّ على بطني ورأسي، أتكوَّر على ذاتي، ألمس قلبي بألمٍ، ملامح وجهي وفكّي توحي بشللٍ في فكّي، صوتي يصل إلى أعماق الشّارع، أينما يلمسوني ألطمهم وأرفس وأتقلَّب على فراشي بطريقة هستيريّة مريعة، خلال دقائق استنفر أطباء المستشفى برمّتهم، قال أحد الأطباء سبحان الله كان الأستاذ يتحسَّن وبكلِّ بخير، ماذا حصل معه كي ينهار كل هذا الانهيار العصبي، ثمَّ أطلقتُ صرخةً وبدأت أبكي بكاءً مرَّاً وطلبتُ أمّي، وبدأت أهذي لا أريد أن أموت هنا يا أمِّي قبل أن أراكِ، حضرت الدّكتورة إيلي ورأت حالة هستيريّة عجيبة، أريدُ أمي لا أريدُ أن أموت بعيداً عن أمِّي، أخرجوني من هنا أريدُ أمّي، وفتحتُ يدي وأنا أحكي مع أمّي: تعالي يا أمِّي؛ كي أحضنك، والآن لو فارقت الحياة لا يهمّني المهم رأيتك مرّة أخرى يا أمي قبل أن أموت، وبدأت أشهق وأتنفَّس كمَنْ سيفارق الحياة ويطلق الحشرجة الأخيرة، ثمَّ أرفس وأتلوّى، حار الأطباء في وضعي المفاجئ، ثمَّ طلبتْ إيلي تحويلي إلى غرفة الإنعاش، حاولوا أن يضربوا ليإبرة في الوريد، فمزّقت المطّاط، وعضَّيتُ مَن تقع يده في يدي، وضربت رفسات من يلمس قدمي أو أي مكان في جسمي، وبدأتُ أهلوس وأتمتم وأتحدّث مع الموتى، وأصرخ في وجه الملاك، وأقول: ابتعد عنِّي، لا تأخذ روحي الآن قبل أن ألتقي مع أبي، جنَّ جنون الأطباء لهلوساتي، حار أحد الأطباء وخرج من الغرفة، وعاد بعد فترة قصيرة إلى غرفتي، كنت حينها في غرفة العناية المشدّدة، ثمَّ سأل عنّي إحدى الممرضات، فقالت: الأستاذ في حالة انهيار عصبي شديد، إنّنا نخاف عليه، حرام كان ألطف مريض ينزل عندنا، ومهذّب، وراقٍ لأبعد الحدود! توجّه الطبيب إلى غرفة الإنعاش، التقى بإيلي هناك وهي أمام رأسي قلقة جدّاً وقالت له: أين كنتَ والمريض في حالة خطيرة؟ فقال لها: كنت عند مدير المستشفى، ما الَّذي أخذك عنده؟ أليس من واجبي كوني طبيباً أن أبلِّغه بما حصل؟ لربَّما عنده اقتراح معيَّن يساعدنا به، وماذا قال لك؟ فيما بعد سأخبِّرك، فقالت له: أريد أن تخبِّرني الآن، ذهبت لإدارة المستشفى فشاهدت الدُّكتور وراثة وأمامه إضبارة وقلت له: أنت هنا يا رئيس المستشفى وعندنا مريض في حالة هستيرية شديدة ممكن أن يموت في أيّة لحظة؛ نتيجة العوارض الَّتي حصلت معه فجأةً، سمعتُ بالأمر، ولماذا إذاً أنتَ هنا؟ تفضَّل وساعدنا يا دكتور أنت رئيس المستشفى، أنا عندي إجازة اعتباراً من هذه اللّحظة، أين إجازتك، تخيّلي أمسك ورقة وقلماً ووقّع على إجازته، فقلت له: يا دكتور ما خطر على بالك تروح إجازة إلّا بعد أن نواجه هذه الحالة الهستيرية الغريبة، تعال فقط دقيقة وشاهد المريض، سيجنُّ جنونك من حالته حتَّى منذ قليل كان بحالة لابأس بها وفطر فطوره بشكل طبيعي، تعال شاهده، فقط دقيقة واحدة، لم يرد عليّ وراثة، قلت له: ما هذه الإضبارة الّتي تمسكها في يدك وكأنّها سرّ من أسرار الدّنيا؟ سحب الدّكتور رياض الإضبارة من أمامي، فقلت له: لمن هذه الإضبارة؟ فقال: إنّها للأستاذ صبري يوسف، وماذا تعمل بها هنا؟ من المفروض أن تكون في غرفته مرفقة بسريره، أحمرّ وجه وراثة وقال: لقد خرّجته منذ قليل من المستشفى، فقلت له: كيف تخرّجه من المستشفى وهو منهار ويهذي وفي حالة هستيريّة غريبة؟ تعرف لو هذا القرار الّذي في يدك يقع في يد وزير الصّحّة؛ سيطردك من رئاسة المستشفى؛ وستنال عقوبة صارمة ممكن أن تزجّك في السّجن، وكيف ستقع في يد وزير الصّحّة؟ إنّها في يدي! فقلت له: أعطني قرار تخريجه، فقال: ليس لك أيّة علاقة بقرار تخريجه، ثمَّ شقّ الورقة وقال لي: تفضّل هذه أوراق المريض وعلاجه وبقاؤه مفتوح في المستشفى، أنا طالع وسأغلق مكتبي وتصرَّف كما قلت لك، تذكّر أنتَ وبقيّة الأطباء وبلّغ الجميع أنّني في إجازة، ولا أريد أن يتّصل بي أحد إلّا بعد أن يتخرّج هذا المريض من المستشفى، جلبتُ الأوراق ووضعتها في غرفة الأستاذ، كنتُ أسمعُ صوت الدُّكتور وهو يتحدّثُ إلى الدّكتورة كلمةً كلمةً، وتبيّن لي أنَّ المنازلة تمّت بنجاحٍ مذهل، مع أنّني لم أطبقّ إلَّا ثماني نقاط من الاثنتي عشرة، فكيف لو طبَّقت كلَّ النّقاط! وهكذا طبَّقت مخطّطي الّذي لا يخرقه الماء؛ فهربت الأرانب ولا أعلم كيف سيواجه الضُّغوطات الّتي قادته أن يقع في خانةِ الأرانب!
يبدو أنَّ الأستاذ الآن بحالة أفضل بكثير، ضغطه نوعاً ما مقبول، تخطيط القلب جيد، لكنّه يحتاج لعناية شديدة وممرِّضة دائماً بجانبه؛ تحسُّباً لأي طارئ. نستطيع أن ننقله إلى غرفته، دكتورة ايليزابيت، حكى الأستاذ، دكتورة إيلي، الأستاذ يطلبك، كانت الدّكتورة عند الباب تريد أن تطلب ممرِّضة، جاءت على الفور أيوه أستاذ حكيت معي؟ أيوه حكيت معك، فتحت عيني وقلت: أين أنا؟ فقالت: أنت هون بالمستشفى في غرفة العناية المشددة، شو صار معي؟ ما صار شيء، لا تفكّر عزيزي صبري بأيّ شيء، أرجوك! كأس ماء لو سمحتِ، قدَّمت لي كأس ماء وشربته على ثلاث مراحل ثمّ قالت: صحتين وهنا، على قلبك، ثمّ أخذوني إلى غرفتي معزَّزاً مكرّماً، وأنا في حالة ولا أحلى، بينما وراثة كان في حالة يرثى لها؛ لما كان يخامره من شكوك وقلق فيما إذا سأشتكي به وأضعه في خانةِ إليكّ بالمليان؟!
هذا سؤال وجيه وفي فضاءِ إجاباته الكثير من المفاجآت والفرح والفكاهة والاندهاش، جاءتني الدُّكتورة إيلي من تلقاء نفسها؛ كي تطمئنَّ عليّ، وقد مرّ فعلاً قرابة ساعتين منذ أن بلّغتني بقرار تخريجي، حيث كلّ المنازلة الشّرسة عبر حالة الانهيار العصبيّة الهوليووديّة، استغرقت قرابة نصف ساعة بما فيها مراحل العلاج والتَّهدئة ولقاء الدُّكتور الّذي أشرف عليّ مع بقيّة الأطباء، ولقائه مع الدّكتور وراثة وعودته إلى غرفتي، ثمَّ العناية المشدّدة وشرحه للدكتورة ما حصل معه، كلّ هذا حصل خلال نصف ساعة أو أكثر بقليل، وبعد إعادتي إلى غرفتي، بدأت آخذ مجدي وأمطّي رجليّ على كامل راحتي ومزاجي بعد أن ولّى وراثة هارباً كلّياً من المستشفى، ومن يدري؟ ربّما كان هؤلاء الّذين طلبوا منه تخريجي ينتظرون منه خبر تخريجي من المستشفى ويتّصلون به عبر مكتبه، لكنّه كان مغلقاً ولا أحد يردّ على هواتف المتِّصلين!
أهلاً دكتورة ايليزابيت، استقبلتُ الدّكتورة ببشاشة وفرح، وكان وجهها مشرقاً ينضحُ فرحاً وهي تراني مرتاحاً وهادئ الأعصاب، الحمد لله على سلامتك يا عزيزي صبري، الله يسلّمك يا دكتورة، حقيقة قلقنا جميعنا عليك بما فيهم الممرّضات والأطباء، هل كلّ الأطباء قلقوا عليّ؟ أيوه كلّ الأطباء. بما فيهم الدُّكتور رياض وراثة قلقَ عليّ! هو أكثر من قلق عليكَ وقلقَ على نفسه أيضاً، معقول يا دكتورة، دكتور وراثة يقلق علي، ألم تسمعيه البارحة كيف وضع رأسه في رأسي مصرّاً على تخريجي من المستشفى بأيّة طريقة كانت، وكلّما كنتُ أشرح له ضرورة بقائي بضعة أيّام أخرى، كان يزداد إصراراً؟ بلى يا أستاذ، سمعتُ كلّ ما قاله وقلتَه، ولكن البارحة راح مع البارحة؛ لأنّه اليوم كان فعلاً في أوج قلقه عليك وعلى نفسه في الوقت نفسه، أن يكون يا عزيزتي قلقاً على نفسه هذا أفهمه جيّداً، ولكن أن يكون قلقاً عليّ فهذا ما لا أفهمه نهائيّاً، كيف لا تريده أن يقلقَ عليك وأنت في مستشفاه؟ أَمَا كنتُ البارحة مريضاً في مستشفاه؟ لكن الأوضاع تغيّرت اليوم؟ تخيّل أنَّ الدُّكتور وراثة عندما وجد وضعك منهاراً وتفاقم بشكل مخيف ولا أريد التّحدّث عمّا حصل معك؛ لأنني قلقتُ جدَّاً عليك، تخيّل بعدما حصل ما حصل معك، مزّق قرار تخريجك من المستشفى بعد أن شاهدتُ القرار بعيني وخبّرتك بنفسي، وقطع إجازة لنفسه وغادر المستشفى، وقال لمعاونه: يستطيع الأستاذ صبري يوسف البقاء في المستشفى وتزويده بما يشاء وبتقرير طبِّي ثانٍ إلى أن يقرّر هو بنفسه مغادرة المستشفى وتجدوا أنَّ تخريجه لا خطر فيه على صحّته! كم السّاعة يا عزيزتي الآن؟ هي بحدود الثّانية، لماذا تسألني عن الوقت؟ لأنَّني قلتُ لكِ يا سيّدتي الجميلة بعد أن أخبرتِني عن موعد تخريجي، أن تعودي وتلتقي بي وتتحدّثي معي بحدود الثَّانية، وها قد جئت منذ قليل والآن هي الثّانية وجئتِ في الوقت المحدّد؛ كي أخبِّرك بما وعدتك به! بماذا وعدتني؟ وعدتكِ كيف سأهزم وراثة ومن يسنده ويبقى معه ويضغط عليه في المنازلة الّتي سأواجهه بها! ماذا تقصد يا أستاذ؟ أقصد يا عزيزتي أنَّ المنازلة تمَّت بنجاحِ منقطع النّظير، ووضعته فعلاً في خانة اليكّ! اشرح شو قصدك أكثر، ألم أقل لكِ: سأجعله يندم على قراره وحذّرته ثلاث مرّات ولم يعدل عن رأيه، لكنّي جعلته يهرب مثلَ أرنبٍ مذعور!
ماذا تريد أن تقول؟ أريد أن أقول يا جميلتي الدُّكتورة: إنَّني ما كنتُ أهلوس البارحة عندما كنتُ أتحدّاه وأحذِّره، وما كنتُ أهلوس نهائيّاً عندما أصبتُ بحالةِ انهيارٍ عصبي هوليوودي، كنتُ أعي كلَّ كلمةٍ أقولها، وكلّ عضّةٍ عضضتُ الممرّضات والأطباء، وكلّ رفسةٍ رفستها إلّا أنتِ كنتُ حذراً أن لا أعضّك ولا أؤذيك؛ لأنّكِ غالية ولن أنسى الحزن المرتسم على وجهك وأنت تشهقين بحزنٍ عميق وهو يهدِّدني بتخريجي، فأحببتُ أن أضعه عند حدَّه، وأبيّن له أنّ الضُّعفاء ليسوا ضعفاء كما يظن هو وغيره فهم أقوى الأقوياء عندما يمتلكون جرأةً وعقلاً مثل هذا العقل، وأشرتُ إلي رأسي كما قلت لك البارحة: أن لجنة أطبّائي هي هنا وأشرتُ إلى رأسي، فكنتِ تظنِّين أنَّني أهذي أو أقول كلاماً ناجماً عن مريضٍ يائسٍ من حياته! فهل صدَّقت الآن أنّني ما كنت أهذي، وأن هذا العقل قادرعلى أن يَهزم ما لايُهزم عندما يصوِّبُ أهدافه بحكمةٍ ودقَّةٍ، ولا يمنع أن يكون ذات بعد هوليوودي إذا اقتضى الأمر في بعض الأحيان؟! يا إلهي، يا صبري كم أنت رائع، والله أنت عبقري، يا إله، كم أنت جميل وكم لك رجاحة في العقل يا إلهي كم أحبُّك! دمعت عيناها، ثمَّ عانقتني وقالت: ألف مبارك انتصارك عليه، والله، أشعر الآن بفرح لا يوصف لكلِّ هذه النَّتائج، لا أصدِّق نفسي إطلاقاً، صدّقني كنتُ أظن أنّكَ فعلاً تقول كلاماً، وما كنتُ أظن نهائيَّاً أنّك قادر على أن تتحدَّى مدير المستشفى؛ لأنَّ كل ما كان يتعلّق بطريقة تحدِّيك له، كان يبدو لي مجرّد كلام وحكي! ولكن هذا الحكي كان قويّاً ومركّزاً وحارقاً وخارقاً بدليل أنّه قطع إجازة، بالمناسبة هل قطع إجازة مرضيّة أم إجازة من إجازاته السَّنويّة؟ ضحكت الدُّكتورة وقالت، يا الله أشقد أنا فرحانة؛ لأنَّك حقَّقتَ كل ما كنتَ تقوله بطريقةٍ أشبه ما تكون بالأفلام والمسلسلات، هل تعلمي ياعزيزتي أنّني كاتب وشاعر أكتب شعراً وقصصاً قصيرة، لكنّي في البدايات، يا عزيزي صبري إنَّ ما قمت به أفضل من قصّة القصص، ولكن فقط وفقط أنت من يعرف أبعاد هذه المنازلة وإلّا لو انكشف مخطَّطي؛ سأكون في موقفٍ لا أُحسَدُ عليه، فلو كلّ ممرّضة تعرّضت لعضّةٍ أو عضّتين من عضّاتي أو رفسةٍ كافٍ أن تقيم دعوى علي وتزجّني في السّجن لا محال! ضحكتْ من أعماقها، من أين تجيب هذا الكلام؟ عندك رغم كل ما أنت فيه خفّة دم غير معقولة، من أيّ طينٍ جُبلتَ؟ من ديريك، هل تستهينين بطين ديريك؟ والله لا أستهين طالما عندي عيّنه منه! تعرف يا صبري لو عرف الأطباء والممرِّضات تفاصيل ما حصل معك ومع الدُّكتور وراثة؛ صدّقني أستطيع القول أغلبهم سيقفون مع موقفك لولا خوفهم من نتائج موقفهم، لكن كمنطق كلّ ما قمت به كان معك الحقّ، وهكذا يا عزيزتي لم أقُم بهذا العمل وهذا الرّد إلَّا بعد أن سألتك مراراً: ألا أستحقُّ أن أظلَّ في المستشفى بضعة أيّام أخرى وأحصل على تقرير طبي ثانٍ؟ فقلت: بلى تستحقُّ، وها أنذا آخذ استحقاقي، لكنّي قطعتُ قليلاً وربّما كثيراً قصبات دكتور وراثة، لكنّه هو جاب هذا الدَّاقوق على رأسه! ضحكت إيلي وهي تقول: من أين تجيب هذه الأمثال والعبارات الطَّريفة؟ هذا الواقع يا عزيزتي، أليس هو من وضع نفسه في هذه الخانة؟! كان لقاءً جميلاً ومفرحاً مع الدُّكتورة إيلي، وحافظتْ على سرّيّة المريض، ألستُ مريضها أيضاً؟ لكن الأخبار وصلَت إلى ديريك بشكلٍ غريب فانقلبت الأوضاع من جديد رأساً على عقب، فماذا سمع الأهل والأقارب هناك وماذا حصلَ من مستجدَّات؛ٍ كي تنقلب الأوضاع رأساً على قلب وأنا في أوجِ انتصاري؟!
عندما أصبتُ بانهيارٍ عصبي كما أعلن عنه المستشفى الوطني بالقامشلي، ولم يكُنْ أحدٌ يدري حتّى تاريخ كتابة هذا الحوار مع الذّات، إلّا أنا والدُّكتورة إيلي أنَّ هذا الانهيار العصبي الَّذي حلَّ بي هو عملٌ هوليوودي، وما كان أحد من الأهل في ديريك يعلم بمستجدّات وضعي ومحاولة تخريجي من المستشفى عبر قرار حاسم من مدير المستشفى؛ لهذا اضّطررت أن أواجه تصعيد المواقف وحدي وبطريقتي الخاصّة، خاصّة أن أهلي ما كانوا قادرين إطلاقاً أن يقطعوا الطّريق عن قرار مدير المستشفى؛ لأنّه كان من الواضح أنَّ هناك جهات دخلت على الخط وحسمت الموقف مع الدّكتور وراثة بتخريجي من المستشفى لا محال، لهذا ما وجدت أمامي سوى هذا المخرج الهوليوودي، بحيث أُحْبِطُ كلّ المخطَّطات والضُّغوطات الّتي جاءته، وهكذا تصاعدت الأحداث، وما وجدت أجدى من طريقتي الهوليووديّة؛ كي أزيح الجميع من طريقي وهذا ما حصل، ولهذا أغلب الظّن أنَّ انتشار الخبر تمَّ من قبل الدّكتور رياض نفسه، وعبر مَنْ طلب منه هذا الطّلب؛ كي يبرّر لهم على ما يبدو أنّه غير قادر على تخريجي؛ لأنّني مررتُ في حالة طارئة ومفاجئة، ووصلتُ إلى حالة انهيار عصبي حاد، وممكن أن تؤدّي بي إلى اقتراب أجلي؛ لأنّه شاهد نتائج انهياري العصبي لا تحتمل حتّى بقاءه في المستشفى؛ كي يخفِّفَ المسؤوليّة عن نفسه فقطع، إجازة وتوارى عن الأنظار، وهكذا بطريقة أو بأخرى انتشر خبر انهياري الصّحّي، وتخلّله خبر وفاتي، فجنّ جنون الأهل، وانتشر الخبر على مستوى ديريك، فاستنفر الأهل بطريقةٍ لا يمكن ضبط الوضع نهائيَّاً، في الوقت الَّذي كنتُ أحتفل مع الدُّكتورة إيلي بنتائج نجاحي!
شعرتُ أنّني في موقفٍ قاسٍ، وأنَّ كلَّ الأحداث انقلبت ضدّي، وقلقتُ جدّاً على أمّي وأبي العجوزَين، وبدأتُ أهيِّئُ نفسي لترتيبات تهدئة الأوضاع، حيث استنفر آل دلالة، العم موسى دلالة وصبرو دلالة وسليمان دلالة، وركبوا بيكآباتهم بسلاحهم، ونزلوا من قرية الحكميّة مع عمومتنا من آل تومي وشحّو والطّوبجي وبيت عمّي وإخوتي وآل متُّو، وجنَّ جنون الأهل في ديريك وكان من الممكن وقوع كارثة الكوارث في حال حدوث أي اشتباك، لكن أهالي الطَّرف الآخر ظلّوا حكماء وقابعين في بيوتهم ينتظرون خبراً يسرّهم؛ ويخرجهم من الورطة الَّتي وقعوا فيها، وقد انتشرَ الخبر حتّى في ريف ديريك، وشعرْتُ أن ضبط الوضع يستحيل إلّا بلقاء وفد من الأهل يلتقيني شخصيَّاً؛ كي يراني وجهاً لوجه، ويتأكّد من سلامة وضعي، وإلّا فمن المستحيل تهدئة الأوضاع، وكلّ هذه النّتائج انعكست كلّياً على الطّرف الآخر كما كانت لصالح أخي سليمان في الجزئيّة المتعلّقة بعدم موافقته على مقترحات نقيب المعلِّمين الأستاذ نعيم زيتون فيما يخصّ المصالحة المقترحة من قبله آنذاك، ثم قال لابن حميه الأستاذ يوسف حنّا تفضّل حضرتك وحضرة الأستاذ نعيم لمتماني؛ لأنّني لم أوافق على طلباتكم وشروطكم في المصالحة وها قد انتشر خبر وفاة أخي! فأجابه الأستاذ يوسف: صدّق كان معك حق؛ لأنَّ حساباتك كانت دقيقة، ونرجو أن يكون الخبر كاذباً، ثمَّ توافد الكثير من الأهل والأقارب إلى بيت أهلي، وأقاموا تقريباً التّعازي، لكنّهم ما كانوا متأكّدين بشكلٍ نهائي من دقّة الخبر، وكانوا يتّصلون بالمستشفى، لكنّ الخطوط كانت مشغولة، وكلّ هذه الأخبار ومنعكساتها حصلت خلال وقتٍ قصير؛ ولهذا تشوّش الأهل ولم يتمكَّنوا من التّصرُّف من هول الصّدمة، حاولتُ أكثر من مرّة أن أطلب ديريك عن طريق المستشفى لكنَّ خط ديريك كان مشغولاً! شعرتُ بصدمة قويّة، ورحتُ أفكِّر بطريقةٍ سريعة لتكذيب خبر انتشار هذه الإشاعة حول وفاتي بطريقةٍ حاسمة، تفادياً لأيَّة منعكسات كارثيّة ممكن أن تحصل في العائلة ضمن تفاقمات الوضع الّذي وصل إلى حافّات الانفجار!
فيما كنتُ أفكّر بطريقةٍ سريعة لتكذيب خبر انتشار وفاتي، دخلت عليّ ممرّضة بسرعة وهي تقول: لديك اتصال من العم حنّا اصطيفو من ديريك، شكراً، توجّهت مباشرة إلى الهاتف، مردّداً: آلو آلو، فقال لي وهو في أوج قلقه: مرحباً مين معي؟ فقلت له: أهلاً عمّو حنّا معك صبري، فقال لي: صبري أنت ما متِتْ؟ كيف لو متتْ كنت راح أقدر أحكي معك؟ طمّني ما متِتْ؟ ياعمّو شو قصّتك كمان عم تعيد علي ما متِتْ، كيف راح أكون ميت وأنا عم أحكي معك؟ يا بني، صدّقني اصطدمنا كتير وتشوَّشنا كتير؛ لأنّنا سمعنا بديريك خبر وفاتك، أنت الأستاذ صبري عم تحكي معي؟ أيوه أيوه عمّو حنّا أنا الأستاذ صبري، صوتك مو واضح علي، وصوتك كمان عمّو حنا مو واضح عليّ، مين معك ممكن أحكي معه؟ معي ابني نعيم وأصلاً اليوم هو يوم إكليله لكنّنا سمعنا خبر وفاتك فقلنا: سنتّصل مع المستشفى لو كان الخبر لا سمح الله صحيحاً؛ كي نلغي الإكليل، عمّو أنا بخير واعملوا الإكليل وألف مبارك مقدّماً، وأعطني”نعيماً” من فضلك، تفضّل معك نعيم العريس! مرحباً يا بن العم، أهلاً أستاذ صبري، كيف صحتك؟ بخير والحمد لله، يا أخي سمعنا خبراً سيئاً عن وضعك بصراحة انتشر خبر في ديريك منذ ساعة تقريباً عن وفاتك؛ فجنَّ جنوننا، وكل ديريك عم تغلي غلياً، واليوم هو إكليلي، فجئنا منذ أن سمعنا الخبر؛ كي نتّصل مع المستشفى ونتأكّد من دقّة الخبر، لكنَّ الخطوط كانت مشغولة، لا تقلق يا بن عمّي أنا بخير، يبدو أنّ الخبر وصلكم متضخّماً جدّاً، فقد مررت بظروف صعبة قليلاً، ومرّت الأمور على خير، يعني إذا عملنا الإكليل مو مشكلة؟ بالعكس من دواعي سروري تعملوا الإكليل، صدقّني لو كنتُ حاضراً في ديريك وأنا في وضعي؛ سأرقص في رأس الدّبكة، ضحك نعيم وقال: نشكر الله أنّك بخير، إن شاء الله نراك في ديريك، وتنتهي هذه المشكلة على خير. مَن هناك موجود، صدّق عشرات الأهل جاؤوا للاطمئنان عليك، وأغلب أولاد عمّك وأهلك هنا في البريد وأمام البريد، طيّب خالي اسكندر موجود؟ أيوه موجود، أصلاً هو من أمّن لنا الخط، جيّد أعطني خالي اسكندر، وبلّغ تحياتي لكلِّ الأهل وطمِئنهم جميعاً أنّني بألف خير، مرحباً أستاذ صبري طمّني عليك، كيف صحتك؟ صحّتي بخير يا خال، وأطلب منك أن تخبّر الأهل أنّني بخير، وزيادةً في التَّأكيد ممكن أن يأتي وفد من الأهل إلى القامشلي؛ للتأكّد من أنَّ صحّتي بخير، وسلّم على كلِّ الأهل وطمئنهم أنّ صحتي تتحسّن، لكنّي تعرّضت لحالة انهيار عصبي، والحمد لله انتهت الأمور على خير، وتستطيع التّحدُّث مع ممرّضة من المستشفى وهي بجانبي الآن؛ كي تؤكِّد لك أنَّ صحّتي عال العال. مرحباً أختي، أنا اسكندر عازار؛ خال الأستاذ صبري، كيف صحّته ووضعه الآن؟ الحمد لله بخير ومرّت الأزمة بالسّلامة، وهو قيد المعالجة عندنا، ونرعاه بكلِّ ما نستطيع من رعاية، وهو في حالة تحسّن، واطمئنّوا وطمئِن كلّ أهله أنّه يتحسّن نحو الأفضل، وإن شاء الله سيعود إليكم قريباً وهو في كامل صحته وعافيته. بارك الله فيكِ! وفيكَ! أعطني صبري لو سمحتِ، مرّة أخرى يا أستاذ ألف الحمد لله على سلامتك، اذهب يا خال إلى الأهل وطمئنهم أنّني بصحّة جيدة، وربّما قريباً أعود إلى ديريك بكامل عافيتي، وألتقيكم جميعاً إن شاء الله، سأخبّرهم، وهناك الكثير من الأهل أمام البريد ينتظرون هذا الخبر المفرح، سأزفّه إليهم، وإن شاء الله نراك قريباً في ديريك بكامل صحّتك وعافيتك، تسلم يا خال، سلّم على كلّ الأهل! معَ السّلامة يا أستاذنا الغالي، الله معك يا خالي العزيز، سلامي لكم جميعاً!
زارني أخي نعيم وصليبا ابن عمّي، كانا قلقَين جدَّاً عليَّ، وجهان شاحبان، بدا الحزن واضحاً عليهما، اطمأنَّا عليَّ وبسمة فرح ممزوجة بدهشة وشرود وتساؤل رُسِمَتْ على وجهيهما، كان صليبا ينظر إليّ وهو يقول: لا أصدّق إنّي أراك؛ لأنَّ صدمة الخبر أفقدت صوابنا جميعاً، وقد جاء الخبر في وقتٍ كنّا نترقَّب أخبارك؛ فكان مثل ضربة الصَّاعقة علينا، أشعر وكأنّ هذه اللّحظات معك هي حلم، وأمّا نعيم فقد كان في حالة كئيبة للغاية، بدا على وجهه علامات حزن الأسرة كلّها، سألته عن صحّة أمِّي وأبي، ابتسم وبصوت خافت قال: إنَّهما بخير، لكنّهما قلقان جدَّاً عليك، ولا يصدّقان أحدّاً إلّا إذا شاهداك بين أحضانهما، حتّى الآن لم نخبِّر أمّي ولا أبي عن الخبر كما سمعناه؛ لأنّنا ما كنّا متأكّدين من صحّة الخبر، لهذا قلنا لن نخبِّر بابا وماما إلّا بعد أن نأخذ الخبر من المستشفى، خاصّة أمِّي قلبها رقيق وحنونة ومتعلّقة بك تعلُّقاً شديداً، ودائماً تقول لنا أشلون صار صبريي، والياء الثّاني عائدة على صيغة التّملك والتَّحبُّب عند أمِّي، وسليمان وأولاد عمّو كيف أخبارهم؟ سليمان جنَّ جنونه عندما تلقَّى الخبر، فتّش البيت شبراً شبراً يبحث عن مسدَّسه خبأناه عنه في بيت أختي نعيمة؛ كي لا يعثر عليه ويرتكب جريمة في حالة غضب، خيَّم حزن عميق فوق سماء ديريك، كم كانجيراننا الأكراد حزانى عليك عندما سمعوا، وقلنا لهم: لا تخبّروا أمِّي وأبي؛ فهما لا يعرفان شيئاً عن هذا الخبر، لهذه الدَّرجة الوضع متأزّم؟ كيف لا تريده متأزّماً وخبر وفاتك انتشر في ديريك وقراها؟ تخيَّل بيت عمّنا آل دلالة والطّوبجي وشحّو وتومي والأهل في ديريك في حالة استنفار تام، أفريم ابن عمّو طوال اليوم على موتوره يبحث عن الجناة ويدخل في بيوتهم ويسأل عنهم، عمّوا وأولاد عمّو وديع وشكري وجميل وعبّود وكريم متّو وجميع آل متُّو في حالة حزن شديد! أخي نعيم، بالحقيقة أريد أن أغلق هذا الأمر خلال الأيام القريبة القادمة، ولا أريد أن أسمع ردود فعل الأهل وتحدِّياتهم، ولا أريد استخدام العنف في حلِّ هذه المشكلة؛ لأنَّ العنف لا يحلُّ المشكلة، بالعكس يعقدّها أكثر، كيف ستغلقه وتحلّ المشكلة؟ أريد أولاً تهدئة الوضع؛ خاصّة من جانب الأهل والأقرباء وأبناء عمومتنا، أريد أن أوجد قنوات للحوار مع الطّرف الثّاني، وإدخال وجهاء على الخطّ للتحاور؛ كي نضع النّقاط على الحروف، ولكن أريد أن يكون هذا الحوار عبري مباشرةً، وليس عبر أي شخص آخر من العائلة، لكنّي سأستشير العائلة في طريقة سير الحوار والحل، ولا أتصرَّف إلّا بما يناسبنا جميعاً، لكن أريد أن أمسك كلّ الخيوط؛ كي نصل إلى حلِّ نهائي ومصالحة أمام وجهاء الطَّرفين، بحيث يكون الجميع راضين، وكلّ هذا ممكن أن أحقّقه خلال الأيام القليلة القادمة؛ لأنّني لا أريد أن تظلَّ أمِّي قلقة عليّ ولا أبي؛ كي نرتاح جميعاً من كلِّ الأطراف، ولا بأس أن يدخل الأخ سليمان وعمّي وأولاد عمِّي في الرّأي، وأهم شيء أنّني بخير والحمدلله، وما تبقّى من تفاصيل الحل والمصالحة ستتمُّ معالجتها بهدوء بعيداً عن أي عنف. نظر إليّ صليبا وقال: بعد كلِّ ما حصل، ما تزال تبحث وتركّز على خيوط المصالحة، حقيقة أنت رائع وعقلك كبير جدّاً، ولو يا صليبا، الصّلح كما يقال سيّد الأحكام! بارك الله فيك يا بن عمّي، تسلم يا صليبا، نظر نعيم إلي وقال: ألستَ جائعاً؟ يعني. فقال: سنذهب أنا وصليبا ونشتري طعاماً، ماذا تشتهي؟ أستطيع أن آكل أي طعام، اشتروا ما تشاؤون، نوُّعوا الطَّعام! ودَّعاني، انتهزت الفرصة وأخذت قسطاً من الرّاحة واسترخيت فوق سريري. قفزت صورة أمِّي أمامي وتناهى إلى أسماعي صوت والدي، غمراني راحةً، ثمَّ استسلمتُ للنومِ آخذ غفوةً في عزِّ الظَّهيرة!
بعد حوالي ساعة عاد أخي نعيم وصليبا ومعهما صحن كباب وشرائح وثلاث أسياخ من القصبة، وصحن حمّص وسلطة وربطة خبز، وفيما دخلا إلى غرفتي، وإذ بخالي مسعود عازار يدخل الغرفة، نهضتُ من غفوتي والعشيرة قائمة ركباً؛ لأنّ خالي مسعوداًوحده عشيرة العشائر، نظرَ إلي وسلّم علي وقال: شو هل الخبر الَّذي سمعناه من ديريك؟ ماذا سمعت؟ كل ديريك سمعت أنّك توفَّيت! نظر صليبا إليه قائلاً: ولهذا جئنا؛ كي نأخذ الجنازة، فضحك خالي وقال: شو هاد؟ فقلتُ له: صدّقني يا خال الله جابك في الوقت المحدّد، أحسن شيء نأكل لقمة رحمة على روحي وأنا طيّب! فضحك الجميع وبدأنا نأكل بشهيّة مفتوحة وقال خالي: صدّقوا أنا متغدّي بس راح أشاركم قليلاً، دخلتْ علينا الدّكتورة إيلي، ما شاء الله الزّوار اليوم قائمون ركباً ورائحة الشِّوي بتشهّي، تفضّلي يا عزيزتي الدّكتورة تفضّلي الصّدر لك، ضحكت وقالت: صحتين على قلوبكم! ودّعتنا وقالت: سأعود بعد قليل؛ كي نعزمكم على شاي بعد الغذاء، رائع يا دكتورة نحن بالانتظار!
نظر إليّ صليبا وقال: كنّا قلقين حتّى بعد أن طمأنتنا عن طريق ابن عمّنا نعيم اصطيفو، وخالو اسكندر، وهناك الكثير من الأهل لا يصدّقون حتّى الآن، ولو لم يأتوا إلى هنا ويروك بأمِّ عيونهم وجهاً لوجه فلنيصدقوا أنّك على مايرام، كانت صدمة خبر الوفاة قاسية علينا، حتّى أنَّ عمّو حنّا قال لنا: من كتر ما دختُ قلت لصبري مرّتَين وأنا أحكي معه: صبري ما متِتْ؟ ثمّ قال لي: ياعمّو شو قصّتك كمان عم تعيد عليّ ما متِتْ؟ كيف راح أكون ميت وأنا عم أحكي معك؟ مع هذا قلتُ له: أنت الأستاذ صبري عم تحكي معي؟ فقال لي: أيوه أيوه عمّو حنّا أنا الأستاذ صبري، بعدين حكى معه ابني نعيم وتأكّد من صوته وقال له: اعملوا الإكليل ولو كنت في ديريك؛ سأرقص في رأس الدّبكة، فضحكنا وقلنا: يارب متى سنراه في ديريك وهو يرقص في رأس الدّبكات في أفراحنا، حقيقةً صبري يرقص أحلى رقص في الحفلات!
نعم، زارني العزيز الغالي أفرام/ سنحريب أكثر من مرّة، وجهٌ بشوش، دائماً البسمةُ مرتسمةٌ على وجههِ، لكنّه أحياناً كانَ يسرحُ ومسحةُ حزنٍ كانت توشّحُ محيّاه، ويزمّ شفتيه قائلاً: لا أصدّقُ أنَّ ما حصلَ حصل! ثمَّ قالَ: ما فهمتُ أبداً لماذا تطوَّرتُ الأمورُ إلى درجةِ المواجهة بهذه الطّريقة الوحشيّة؟ يا صديقي، يا عزيزي، هذا السُّؤال متأخّر جدّاً، ولو تريد أن تسأله من المفروض أن توجّهَه لمَن قامَ بهذا الفعل الوحشي وليس لي، وأنا على فراش المستشفى، هزَّ رأسه وقالَ: المهم طلعت السَّلامة، حقيقةً الخبر الَّذي انتشرَ في ديريك هزّنا جميعاً، حتّى أهل الشّباب انزعجوا جدّاً وقالوا: يا رب يكون الخبر كاذباً، والحمدلله الخبرُ كانَ كاذباً، وعدَّت الأزمة على خير، الحمد لله يا عزيزي أفرام، الحمدلله أنا بخير ولا أشكُّ أبداً بما تقولُه حولَ مشاعر أهلِ الشَّباب وحتى بمشاعر الشَّباب أنفسهم الَّذين تشابكوا معنا؛ لأنّهم من أقرب المعارف، فلا تفكّر نهائيَّاً أنّني أحقدُ عليهم، أو أكنُّ لهم الكراهيّة، بل أفكِّر من كلِّ قلبي أن ألملمَ هذا الأمر، وأجد له حلَّاً مناسباً للجميع، ويليق بإعادةِ اعتباري واعتبار الأسرة ويعطي لكلّ الأطراف حقوقهم، ونغلق الموضوع، ونتابع حياتنا؛ لأنّ الحياةَ لا تستحقُّ كل هذه الصِّراعات وكلّها فاضية لا فائدة منها سوى الخسائر من كلِّ الأطراف! حقيقةً رأيك متطابق مع رأي والدي، بالمناسبة كيفَ والدك ووالدتك وشموني، كنّتنا الغالية؟! بخير والجميع قلقون عليك، ويدعون لك بالسَّلامة، وبأشدِّ الشَّوقِ للقياك، إن شاء الله ألتقيهم جميعاً بأقرب وقت ونحلُّ هذا الموضوع، ونحوّل كنّتنا في أقرب فرصة و”نهجّها هجّاً” في الرّقص! ضحكَ أفرام وقال: أعجبتني عبارة “نهجّها هجّاً”! أي نرقص من أعماق قلوبنا! فيما كنّا نتحدّث أنا وأفرام، لا أعلم لماذا ذهبتُ إلى خزانتي وأخرجتُ قميصي الخمريّة المورّدة وهي ممزّقة وملطّخة بالدم، وفانيلتي البيضاء، كلّها دم من جرّاء الجرح القاطع في رأسي ووجهي، نظرّ أفرام إلى قميصي وفانيلتي وأنا أفتحهما له بيدي، ودمي الجاف فوق قميصي مثل خارطة مفتوحة الجناحين على بحار من الحزن، وإذ به يبكي ويقول: هذه القميص كانت عليك لحظة الاشتباك، أيوه هذه القميص، ماذا ممكن أن يكون موقف القاضي عندما يرى هذه القميص والفانيلة لموجّه في إعداديّة من إعداديات ديريك يتعرّض لهجوم بهذه الطَّريقة الوحشيّة؟ صدِّقني أي إنسان ينظر لقميصك بكلِّ هذا الدم سيقشعرُّ بدنه، أرجوك أستاذ صبري ضع قميصك وفانيلتك في الخزانة، وحاول أن تنسى هذا الأمر، وفكّر فقط بصحّتك وبطريقةٍ مناسبة للمصالحة كما قلتَ لي منذ قليل. ولا يهمّك يا أخي أفرام، إن شاء الله المصالحة ستتمُّ، خاصَّة لو كان الأطراف الأخرى إيجابيين معنا؛ كي نغلق المشكلة ونفتح صفحة جديدة على جميعنا، أرجو هذا من كلِّ قلبي يا أستاذ صبري. قدّمتْ الممرضة لنا كأسين من الشَّاي، شربنا شاينا، ثمَّ ودّعني أفرام، وحمَّلته خالص التَّحيات والسّلام لكلِّ الأهل، لوالده وأمّه وأخيه ولشموني، وقلتُ له: إن شاء الله تروني قريباً في ديريك ونحن نتعانقُ معَ الشَّبابِ ونتصالحُ بما فيه خير الجميع، فردَّ عليّ أفرام: إن شاء الله يارب، والله يبارك في بطنِ الأم التّي أنجبتكَ، ودّعني أفرام فتراءَت ديريك أمامي كباقةِ وردٍ والحمائمُ تحلِّقُ فوقَ بيتنا وأمِّي وأبي ينظران إليها!
ما كان يراودني في ذلكَ الحينِ نهائيَّاً، ولكن راودني لاحقاً وأنا في أعماقِ عبوري في وهجِ الحرفِ وتجلِّياتِ بوحِ الرُّوحِ، بعدَ أن سبرتُ ماهية الحياة، وغصتُ عميقاً في جوهرِ العمرِ الَّذي يعيشه الإنسان، تخيّلتُ نفسي مراراً ميتاً، ويخطرُ يوميَّاً، أسبوعيَّاً، شهريَّاً سنويَّاً على بالي الموت، لِمَ لا؟ إنّه صديقي الأعمق في الحياةِ، أحاورُهُ عن مغزى الحياةِ، عن كيفيةِ سبرِ أغوارِ القصيدة، عن أسرارِ نجيماتِ السَّماءِ وعن نضارةِ خدودِ الحبيبة، وعن صفاءِ الماءِ الزُّلال! يبتسمُ لي كأنّهُ بأشدِّ الشَّوقِ لمعانقةِ هلالاتِ بوحِ حرفي، كأنّه خميرةُ الأرضِ، يهدهدُ أريجَ القرنفلِ وتمايلاتِ شموخِ السّنابلِ. أجل مراراً تخيَّلت نفسي ميتاً، وكلّما كنتُ أراني ميتاً، في الحلم، في الخيال، في أوجِ شهقةِ الحرفِ؛ ازددْتُ شفافيةً وحناناً وشموخاً فوقَ أجنحةِ المحبّة أكثر، وجامحاً بأقصى ما لدي من دفءِ المحبّة نحوَ أصفى رفرفاتِ بوحِ الرُّوحِ، وأراني سعيداً ومجنّحاً نحوَ أشهى دندناتِ الأغاني، أرقصُ طرباً من أعماقِ بهجةِ الرّوحِ وانتعاشِ مهجةِ القلبِ؛ لأنَّ الموتَ لا يقلقني نهائيَّاً، بل يمنحُني طاقاتٍ رهيفة لتكثيفِ رؤاي وتجسيدها فوقَ اخضرارِ الحياةِ، قبلَ أن نودِّعَ الحياةَ، وكلَّما عبرتُ في أعماقِ فلسفتي للموت؛ِ وجدتُ أنَّ الموتَ هو صديقُ الإنسانِ منذُ أن جاءَ الإنسانُ على وجهِ الدُّنيا؛ ولهذا توغَّلتُ عميقاً في مرامي الموتِ وروعته وجماله وعدالته وعمقه وتأثيره على منحي تجلِّياتٍ مدهشة في العطاءِ، إنّه أشهى ما في سموِّ الخيالِ؛ لأنّه يفتحُ أمامي آفاقاً مفتوحة على ضياءِ الكون، هو سيّد العدالاتِ، وهو الحكمُ الفصلُ في إقرار مساراتِ العمرِ، يحملُ فوقَ أجنحته ميزاناً مجنّحاً نحو أعالي السّماءِ، سيبقى ميزانه شامخاً كقاضي القضاةِ إلى مدى الحياةِ، تمرُّ بكلِّ طاعةٍ تحتَ أجنحتِهِ كلّ الكائناتِ، وقد وجدتهُ مراراً عبر هذه المرامي والمعاني الفسيحة يطهّرني من قشوريات الحياةِ، ويمنحني غبطةً وألقاً وإبداعاً شاهقاً من خلالِ عبوري في أبجدياتِ جمال الكونِ لمناغاةِ الكلمة من أعماقِ حبورهِا تارةً وعناقِ اللَّون بأبهى رهافاتِ شذاه طوراً، مجسّداً رحيقَ الحياةِ عبر حبري وأرقى ما في بهاءِ لوني فوقَ أريجِ الحياةِ؛ لأنَّ كل ما في الحياةِ هو باقٍ في الحياةِ ومعرَّشاً في جوهرِ الحياة، ونحن البشر لسنا أكثر من شهقةٍ عميقةٍ من شهقاتِ الحياةِ؛ لهذا أراني أبحثُ عن خصوبةِ القصيدةِ ووهجِ النَّصِ وعن جوهرِ الحياةِ؛ كي أمهرَ بصمتي بكلِّ ما لديَّ من تجلِّياتِ شموخِ البشرِ، شموخِ الإنسانِ، شموخِ الذّاتِ نحوَ آفاقِ السَّلامِ والمحبّةِ والفرحِ فوقَ أزاهيرِ الحياةِ؛ لأنَّ العمرَ الّذي نعيشه ليس أكثرَ من رحلةٍ عابرةٍ فوقَ جفونِ الحياةِ، فلا يملكُ المرءُ من الحياةِ سوى عمره القصير الَّذي يعيشه، ومهما عشنا وعاشَ المرءُ فهو مقمّطٌ في هُلالاتِ عمرٍ قصيرٍ؛ لأنَّ عمرَنا مهما طالَ فهو مؤقّتٌ فوقِ طينِ الحياةِ، والسُّنونُ الّتي نعيشُها ليستْ أكثرَ من ثوانٍ معدوداتٍ في شهقاتِ عمرِ هذا الزّمان؛ لهذا أراني غائصاً في بهجةِ انبعاثِ القصائد بشغفٍ عميقٍ، وكأنَّ الموتَ يحرّضني ليلَ نهار على كتابةِ أشهى تجلّيات حرفي عبرَ احتباكِ حنينِ القصائد قبلَ فواتِ الأوان، فأبحثُ بكلِّ حبورٍ وابتهالٍ عن مناجاةِ وهجِ الرُّوحِ وهي تعانقُ زرقةَ السَّماءِ، وتُحْبكُ هلالاتِ سموِّ الرُّوحِ لتبقى هذه الرُّؤى الخلَّاقة طقوسَ حبٍّ شامخٍ فوقَ مزاميرِ الحياةِ!
إنَّ أكثر شيء كان يقلقني هو قلق أمّي وأبي وأهلي علي؛ ولهذا شعرت بنوع من الأسى والأنين العميق لما أنا فيه، من جهتي وعلى صعيدي الشَّخصي أخذتُ كلَّ النّتائج من أوَّلها إلى آخرها بروحٍ رياضيّة عالية وبصبرٍ كبير، لكنَّ الأهل لا يفكِّرون بطريقتي، والأكثر قلقاً كان خوفي من انجرار الطَّرفين إلى اشتباكٍ جديد لا تحمد عقباه، من خلال المستجدّات والمشاحنات الّتي ممكن أن تقع بينهما؛ لأنَّ الاصطدام والاشتباك ممكن أن يقع في أيّةِ لحظة؛ لهذا بدأتُ أضعُ مخطَّطات جديدة لتفادي أي اشتباك ممكن أن يحصل، وطلبتُ من كلِّ الَّذين يزورونني من الأهل والمعارف والأطراف الحياديّة ضرورة ضبط الوضع المتوتِّر بين الطّرفين، وعدم إطلاق أيّة تصريحات استفزازيّة من الطّرفين، ومحاولة تهدئة الوضع ما أمكن؛ لأنَّ ما حصل قد حصل، وعلينا أن نفكِّرَ جميعاً بما يقودنا إلى الخروج من هذه المشكلة المتشابكة بشكلٍ حضاري، بعيداً عن أيَّةِ أضرارٍ لأيِّ طرفٍ من الأطراف، وحلّ المشكلة بشكلٍ مناسب للجميع، بحيث يأخذ كلّ واحد حقَّه دون أي تظلّم، وبدأتُ أشتغل بكلِّ هدوء ودقّة على هذا المسار، وحقَّقتُ نجاحاً أوليَّاً من خلالِ ضبطِ الوضعِ الّذي تفاقمَ هناكَ بعدَ أن سمعوا الخبر المفجع عنِّي، وقد قام أخي نعيم وصليبا على نقلِ مستجدّات وضعي، وطمأنّوا الأهل والأقارب والأطراف كلّها بأنِّي بخير، وهذا ما حقَّق هدوءاً نسبيّاً واستعداداً من الجميع لإغلاق المشكلة من جذورها؛ فقد تعب كلّ الأطراف من نتائجِ ما حصلَ، والجميع ينتظرون الحلول والمصالحة في أيّة فرصة قادمة!
وقد وردتني معلومات وترتيبات من ديريك أنَّ العم بهنان سارة أبو سمعان بصدد مقترح جديد سيقترحه عليّ شخصيّاً؛ كي نضع النّقاط على الحروف من خلالي كطرف مباشر وأساسي في حلِّ المشكلة، خاصّةً أن أخي نعيم خطيب ابنته شموني قال له: إن أخي “صبرياً”يريد أن يعالج ويغلق الموضوع بنفسه وبالتَّنسيق مع الأهل، وخلق قنوات للتواصل مع الأطراف الأخرى؛ كي يمسكَ كلّ الخيوط الَّتي تقودنا إلى مصالحة نهائيّة دون أن يفرِطَ خيطاً من هنا أو هناك، وانطلق أبو سمعان من هذه الفكرة والاقتراح، وبدأ يخطِّط لها من خلال الأستاذ جرجس بهنان؛ كي يكون الوسيط بين الطَّرفين؛ بصفته مدير الإعداديّة الَّتي كنت أشتغل فيها على مدى الفصلين الدِّراسيين، وهكذا بدأتُ أجهّز نفسي للقاء مع أبي سمعان بأقرب وقت يزورنيفيه؛ كي نناقش الموضوع بكلِّ هدوء ورويّة لعلّنا نحقِّقُ النّتائج المأمولة، وشعرتُ أنَّ آفاق المصالحة تلوحُ في الأفق؛ طالما الأستاذ جورج وأبو سمعان دخلا على الخطّ بكلِّ قوّة ونيّة طيّبة!
مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.