كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..
في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..
من السؤال – 141 – إلى السؤال 150..
- كيف وقعت المشاجرة بالهجوم عليك وعلى أخيك سليمان وابن عمّك جميل أدّت إلى كسورٍ في الرَّأس وجرحٍ قاطعٍ في نهاية جفن العين اليسرى ورضوض في الجسم لسببٍ لا ناقة لك فيه ولا جمل؟
ما هذا اليوم يا ربّ العباد، ما هذا اليوم؟ لم يخطر على بالي أبداً أن أمرَّ بموقف كهذا، ولا بحالة كهذه الحالة الَّتيتشبه إلى حدٍّ بعيدما يحدث في الرِّوايات والقصص الخياليّة، خاصّة مع شخص مسالم مثلي؛ شخص يعشق المحبّة والبشر والحياة، عفوي بسيط طَموح، كلّ همّه متابعة دراساته العلميّة وقراءة الشِّعر والأدب والفكر والفلسفة، والتَّعمّق في الفكر الإنساني الخلّاق، كيف أسأل ذاتي هذا السُّؤال، ما هذه الجرأة المميتة الَّتي خطرت على بالي، وما هذا الحوار مع الذّات طالما بين الحين والآخر أرى دمعتك يا صبري تنضح مثل الأطفال، هل تبكي على نفسكَ، أم تبكي على هؤلاء الخارجين عن القانون والخارجين عن منطق الحياة؟ يا إلهي، كم هي قاسية الحياة، وكم هي متناقضة، وكم هي غريبة الأطوار؛ لما تخبِّئه لنا بين منعطفات عمرنا من مفاجآت تدهش القصيدة وتحطِّمُ الآمال وتزيح عن بهاء الصَّباح بهجةَ الإشراق، وتمحقُ وهج الحنين إلى اخضرار الكروم، وتعكّر صفو السَّنابل الّتي تنمو في حقول ديريك، وتخلخل أجنحة الحمام، وتجعلنا في دوّامةٍ من أمرنا!
كنّا أنا وأخي سليمان وجميل ابن عمِّي نسير وحدنا في شارع المشوار، هذا الشَّارع الَّذي أحببته حبّاً عميقاً أكثر من شارع الشّانزيليزيه، وشارع الحرّيّة في محردة، وشارع القوتلي في القامشلي، وشارع القصَّاع في دمشق، وشارع الحمراء في بيروت؛ هذا الشَّارع الَّذي من المفروض أن يحضنني حتّى النِّخاع؛ لأنّي كنتُ وما أزال أعشقه، لأنّه منبع ذكرياتي وآمالي وحياتي، وإذ به في غفلةٍ من الزّمن يرميني أرضاً كأنّني قتلتُ أباه وأمّه وأخته وكلّ سلالته، مع أنَّ كلّ مَنْ فيه هم أهلي وإخوتي وأولاد عمومتي وأصدقائي وخلَّاني وأهل بلدتي ومسقط رأسي، ما هذا المسقط الّذي أنجبني للحياة ويرديني أرضاً، ومع هذا أظلُّ أحبُّه وأحمله فوق أجنحتي أينما حللتُ ورحلتُ؟ ولماذا أحمل هذه الذِّكريات الموغلة في الأنين والبكاء وأحاور هذه الذَّات المهشّمة من رأسها حتّى أخمص روحها؟! هل للروح أخمصٌ؟! إنَّني أتطهّر بكاءً في هذه الثَّواني واللَّحظات، كأنِّي أتلقَّى في هذه اللَّحظة خبر وفاة أبي وأمِّي وإخوتي وأخواتي وكلّ أهلي دفعةً واحدة وأنا في أعماقِ غربتي، فلا أجد سوى البكاء ردّاً لهذا الخبر المميت، أليست وفاةً ما بعدها وفاة أن تكون سائراً في شارع عمرك وسط أهلك وأحبّائك، وإذ بالأحبّة الشّباب يهجمون عليك دون أيّة إشارة أو سابق إنذار، يهجمون غفلةً ويرمونك أرضاً على قارعة الطّريق أمام كنيسة تشمخ قبّتها في بهاء السَّماء، وسط مئات الأصدقاء والصّديقات والشَّارع في أوج فرحه؟! كم أنا سعيد أنَّنا قبل أن نخرج من المنزل، شاهدَتْ زوجة أخي سليمان مسدّسهُ مجدولاً في خاصرته، فقالت له شو هاد معك، راح تطلع مشوار في شارع الكنيسة بالمسدّس؟ أيوه بالمسدّس وفيه (12) طلقة! ومخزن إضافي، والله على جثّتي ماراح تطلع ومعك المسدّس، يا بنت الحلال الجماعة علقوا منذ فترة مع أولاد عمّي وأسمع طراطيش حكي أنّهم سيضربون صبري وهو الأخ الصَّغير المدلّل ولا يحب العنف ولا يستطيع أن يقاوم هؤلاء، اتركيني آخذ هذا الَّذي سيردُّهم على أعقابهم لو تعرّضوا لصبري أو لنا بطريقة غادرة، لن أترك شعرة من رأس أخي تسقط قبل أن أفرّغ هذا الرّصاص في جماجم كل من يهجم علينا. على حكيك راح تروح تحارب، أيوه راح أحارب، مين قالّك ما راح أحارب، أم أنَّ الحرب هي في جبهات القتال فقط؟ ممكن أن تكونَ في بيتنا وحيّنا وشارعنا. حاولت زوجة أخي المستحيل وهي تبكي وترتجف؛ كي تسحب منه المسدّس، وقالت له: يا بن الحلال، كلّ ضربة بوكس منك تهدُّ رجّالين، أصلاً أنت لا تحتاج لمسدّس؛ لأنّك مسدّس، أبوس إيدك أعطني المسدّس، وسحبت منه المسدّس، وقالت لنا: الله والعذراء معكم، هلّا روحوا لمشواركم! أشكر زوجة أخي؛ لأنّها سحبت مسدّس أخي بمخزنيه المملوءين بالرّصاص، وغالباً كان يسير خارج المنزل مسلّحاً، حتّى ولو لم يكُنْ هناك أيّة مشكلة؛ تحسُّباً لأيِّ طارئ، وخرجنا إلى شارع الحبِّ والمشاوير ونحن في أوج فرحنا، وكان أخي نعيم قد تسرّحَ حديثاً من الجيش، لكنّه لم يكُنْ معنا، وأمّا بقيّة أولاد عمّي فكانوا مجموعات أخرى، ولم نخطِّط نهائيّاً للمشاجرات والعراكات، وأخذنا الموضوع بروح رياضيّة، وقال سليمان: حتّى عشرة لو هجموا علينا خلال دقائق ستجدونهم أرضاً، لكن حسابات سليمان خابت نتائجها؛ لأنَّ طريقة المعركة لم تكُنْ كما يُخيّل إليه فجاؤوا غدراً، كنَّا نتمشّى في الشَّارع المملوء بمئات الشَّباب والبنات الحلوات، وصلنا مقابل بيت موسى شمو المطلّ على زاوية الكنيسة وأصبحنا في مفترق الشّارع المتقاطع مع الكنيسة، وإذ بمجموعة من الشّباب يستوقفوننا، وسلّموا علينا مرحباً، أهلاً وسهلاً، ردَّينا عليهم، فقال أحدهم: يا شباب نحن أصدقاء ومعارف، وبدأ بمقدِّمة ترحيبيّة أشبه ببادرة لملمة ما حصل منذ أيام مع ابن عمّي وديع وابن خالته، فرحَّبنا بمبادرتهم وقال أخي: ما في مشكلة نهائيّاً من طرفنا اطمئنّوا؛ بدليل شوفوا أولاد عمِّي وبقيّة الأهل مو معنا، وخرجنا كلّ مجموعة لحالها؛ لأنّ نيتّنا صافية، وما في أي شيء مبيّت من جانبنا، فقال: خلاص ما في شيء، فقلنا: خلاص، وكأنَّ كلمة خلاص كانت عندهم كلمة السّرِّ لبدء معركة حيث ما كنّا إطلاقاً مهيّأين نفسيّاً، وإذ بعد لفظ كلمة خلاص، بدأ الهجوم من الخلف والأمام والجوانب بالأحجار واللّكمات والرَّفسات، وفي الثَّواني الأولى ضربني أحدهم ببوكس والحجرة في يده في فروة الرّأس حتّى الآن آثارها بادية للعيان، ثمَّ تتالت اللّكمات، تشتَّتنا؛ لأنّنا كنّا ثلاثة وهم كانوا أكثر من عشرة، وكان لديهم شباب احتياط فيما إذا قاومنا، لم أستطِع المقاومة؛ لأنّني في الثّواني الأولى تعرّضت لضربة في الرَّأس؛ وبدأ الدّم يسيل، وبعد أقل من دقيقة تعرَّضتُلضربة حجر في قبضة يد أحدهم، وضربني الضّربة على خدّي من جهة العين اليمنى، شعرتُ أنَّ زلزالاً وقع على رأسي؛ وفقدتُ توازني، وصحْتُ سليمان اترك كل شيء والحقني فُقِئتْ عيني؛ لأنّني أغلقت عيني اليسرى وفتحت اليمنى فلم أرَ بها؛ لأنَّ الجفن كان مغلقاً من أثر الضَّربة الَّتي جاءت بجرحٍ قاطع من نهاية الجفن لعيني اليمنى وعلى مساحة من الخدِّ، فتورّم خدّي وعيني وأُغلقَ الجفن كلِّيّاً، عندما سمع أخي صوتي أستنجد به كان بمواجهة شابّين وجهاً لوجه وأكثر من واحد يضربونه من الخلف، فلكَمَهما وتوجّه نحوي وأنا ململم على الأرض بوضعيّة القرفصاء، ويدي على رأس أحميه من ضربات قادمة، وإذ به يرى مراهقاً يتقدَّم نحوي ومعه حجرة كبيرة في يده، وحسب أخي حسابه أنّ المراهق لو ضربني هذه الحجرة سأنتهي لا محالة، فقفز بسرعة جنونيّة نحو المراهق، وضربه لكمةً في صدره؛ فوقع أرضاً هو وحجرته، ثمَّ نهضَ وولّى هارباً، في هذه اللَّحظة عندما وجدوني في حالة خطرة وعيني مفقوءة ولّوا هاربين، وفي هذه اللّحظات وجدت ابن عمّي جميل بكامل قيافته وهندامه، أين كان لحظة التّصادم لستُ أدري؟! وكلّ المشاجرة لم تستغرق أكثر من دقيقتين، ولو لم يتم ضربي غدراً ومن الخلف؛ بكلِّ تأكيد كنت سأصدُّ من يتعرَّض لي؛ لأنّني صحيح كنت ضعيف البنية، ولا أصلح أن أخوضَ معارك عنف ومشاجرات، لكنِّي كنتُ وما أزال جريئاً جدَّاً للدفاع عن نفسي، وأستخدم أقدامي بطريقةٍ تجعل الخصم يرى أنّه أمام مواجِهٍ عنيفٍ رغمَ جسده الضَّعيف، وسمعت أخي سليمان يسبُّ زوجته قائلاً: الله لا يعطيكِ العافية مثل ما أخذتِ منِّي المسدّس، كان اليوم يومه، آخ لو كان معي مسدَّسي كنت سأصفِّيهم واحداً واحداً، وقفتُ على حيلي، وسندني أخي وجميل وتمكَّنت أن أسير، جراح خطيرة: رأسي ينزف، وعيني تنزف، ورضوض على الجسم، وضربة قوية في الصّدر، وتدرُّز في عظام الصّدر، ورضوض في الظّهر والخاصرة والقدمين، في الطَّريق نحو الطَّبيب لإجراء إسعافات أوليّة، وقفتُ وقلتُ لسليمان: أسندوني؛ أريد التَّأكُّد من عيني؛ لأنّني شعرتُ وأنا في تلك الحالة أنَّ عيني بخير، طاقة غريبة غمرتني، وشعرتُ براحة؛ لأنَّنا مشينا بجانب الكنيسة، فسندني، وفتحت جفنَي عيني المتورّمة، وحاولت فتح الجفنَين؛ لأنّ عيني كانت مغلقة، وتمكَّنت من فتحها، وفتحتُ الجرح أكثر؛ وإذ بي أرى بها، فقلت لأخي سليمان: عيني بخير يا أخي؛ فلا تقلق، لكنّها تؤلمني للغاية، وصلنا بعد دقائق للطبيب، تجمَّع مئات البشر في الشَّارع المطلِّ على عيادة الطَّبيب مقابل بيت صليبا الصولكر، وكانت العيادة في بيت لمبكي، فوق نادي البيمبون، صعدنا بضع درجات وأصبحنا عند الطّبيب، وحضر الشّرطة في نفس اللّحظة، سمعت صوت عمِّي وأنا في داخل العيادة، وإذ بالشّرطة تمنعه من الدُّخول، فقال للشرطي: أنا عم صبري؛ ويجب أن أدخل لأطمئنّ عليه، فقال له: بعد قليل سيخرج؛ وتستطيع مشاهدته والاطمئنان عليه، جلستُ على كرسي، وبدأ الطَّبيب يفحص عيني، وقال: الحمدلله يا أستاذ، عينك سليمة، مسح الدَّم وجاءت ممرضة تساعده في تنظيف خدّي من الدّم، طلبتُ منه أن أنظر في المرآة فمنعني، وقال: عينك بخير، إنّه جرح وورم لا أكثر، فقلت له: ماذا ستعمل الآن؟ فقال: سأقطّب الجروح، عندك جرح في رأسك، وجرح في نهاية الجفن، لظمَ خيطاً ووجدته يبدي أسفه على أنّه لا يتوفّر لديه إبر بنج، فقلت له: قطّب الجروح من دون بنج، فقال: هل تتحمّل؟ ولو دكتور أنت أمام رجل، نظر أخي سليمان إليّ، ثم بدا عليه وكأنّه سيغمى عليه، فأخرجوه خارج العيادة؛ لأنّه لا يتحمَّل مشاهدة جروحي، ولا يتحمّل خياطة جرح عيني من دون بنج، كان عمّي في بيجامته أمام مدخل العيادة، ومعه دبّورته الّتي ينحت فيها الحجر، وحوله مجموعة من الأهل والأصدقاء والجيران، والشّارع مملوء بالنّاس، حالما خرجتُ عانقني عمِّي وقال: آه لو كنتُ معكم سألقّنهم درساً كيف يوسف شلو ينحت الحجر، وقال بصوتٍ عالٍ: إذا هؤلاء الجبناء رجال فليتقدَّموا واحد مقابل مئة منهم! ثمَّ تقدّم وديع ابنه وأفرام وأخي سليمان وقال: لو هم رجال أصلاً ما ضربوا ضربة غدر ومن الخلف، لكنّنا سنتواجه! .. فيما كنّا نتوجّه نحو السَّراي، تساءلتُ ماذا كان سيحصل لو كان مسدَّس أخي سليمان معه ونحن نخوض معركة كهذه خلال دقيقيتن لا أكثر، أما كان سيقتل بحسب هجومهم المباغت دفاعاً عنّي وعن نفسه العديد من هؤلاء الشَّباب؟! سررت؛ُ لأنّه كان خالياً من السَّلاح؛ لأنّني كنتُ وسأبقى ضدَّ استخدام العنف، مجنّحاً نحوَ الحوار، والآن سأرى إلى أين سيقودنا حواري مع الذَّات؟!
- كيفيّة نقلكَ إلى السَّراي، لإجراء التَّحقيق معكَ، وحالما سمعتَ صوت خالك إسكندر عازار، طلبْتَ منه الإنجيل؛ كي تقبّله، فوضعَه على رأسك وجبينك، وقبّلتَ الإنجيل، فقبلكَ الآخرون ببكاءٍ عميق؟!
نقلوني سيراً على الأقدام ومئات الأهل والأصدقاء والمعارف ساروا خلفي نحو السَّراي، حملوني عبر درج السّراي الطَّويل، وحاولتُ أن أقف على قدمي لكنّي لم أستطِعْ، فقلتُ للذين يسندونني: إنِّي غير قادر على الوقوف، فجلستُ على الأرض، ولكنّي لم أتمكّن أن أحمل جسمي جلوساً؛ فأحببتُ أن أسترخي جسمي بكلِّ آلامه على ظهري، على بلاط مدخل السّراي، شعرت في تلكَ اللَّحظات أنّني سأفارق الحياة، آلام مبرحة في رأسي وكلّ أنحاء جسمي، ملايين الأفكار تخطر على بال المرء عندما يقترب نحو حافّات الموت أو الشُّعور بفراق الحياة، لا يكفي ألف سؤال وسؤال آخر للتعبير عمّا راودني في تلك اللّحظات، تعجز لغات الأرض قاطبةً عن ترجمة مشاعر إنسان طموح وسط بيئة فلّاحيّة بسيطة أن يجد نفسه في غمضة عين ودون أي مبرِّر في مدخل باب السّراي على البلاط ينازع الحياة، كم للعقل طاقة في استحضار الصُّور، ملايين الصُّور استحضرتها أو استُحْضِرَتْ من تلقاءِ نفسها، تراءت أمّي أمامي، وشعرت وكأنّي سمعت صوتها من أسفل الدّرج وهي تنظر نحوي، ورفعت يديها تدعو وتقول: الله يأخذ حقّي من هؤلاء الّذين ضربوا ابني على الغفلة كل هذا الضّرب، ابني الّذي يحبّه الجميع. هرجٌ كبير في أرجاء المكان، وأنا غارقٌ في منازعةِ وداعِ الأرضِ، متوجّهاً نحو أحضانِ السّماء، لا أعلم لماذا استسلمتُ للموتِ ربّما من الآلام، شعرتُ أن نزيفاً داخليّاً في الرّأس ربّما وقع لي أو ارتجاجاً في المخّ؛ لأنّني كنتُ في حالة مريعة، آلام وصور تتزاحم في ذهني، يا إلهي، تراءت صورٌ منذ طفولتي حتّى تلك اللّحظات المريرة، شعرتُ أنّني بعد لحظات سأسلم الرّوح لا محالة، فجأةً سمعت صوت ابن عمّي وديع وهو يقول: والله وبالله لو صبري يصيبه شيءلا سمح الله؛ سأمحي كل مَنْ رفع يده عليه من الوجود، ثمَّ شعرتُ وكأنِّي أسمع صوت خالي اسكندر عازار؛ لأنّني كنتُ في حالة شبه إغمائيَّة، فصحتُ: خالو اسكندر أبو رياض أنتَ هون؟ فسمع صوتي وقال: لحظة صبري عم يحكي، أيوه أنا عند رأسك، أمسكَ بيدي وقال: قُل لي ماذا تريد يا صبري؟ فقلت له: خالو أعرفك تحملُ في جيبك دائماً الإنجيل، فقال: صحيح، ماذا تريد؟ فقلت له ضع الإنجيل على رأسي؛ أريد أن أقبّله قبل أن أموت! فيما كان يخرج الإنجيل من جيبه سمعت موجة بكاء تتعالى من حولي، وضع أبو رياض الإنجيل فوق رأسي وقبّلته، وحالما قبّلته؛ شعرت وكأنَّ قشعريرة دافئة توغّلت في جسمي، ثمَّ أمسكتُ الإنجيل ووضعته على صدري المُدمى من الدِّماء الَّتي انسابت من رأسي وعيني، ثمَّ باسني أبو رياض، وباسني من بعده صهر لحدو عبدي الكبير، والأهل وبعض الأصدقاء؛ ظنّاً منهم أنّني سأودّع الحياة وصلّى خالي اسكندر على رأسي، وكأنّه كاهن يودّع إنساناً قبل أن يسلم الرُّوح، شعرتُ براحة عميقة فيما كنتُ أمسك الإنجيل فوق صدري، ثمّ أخذ أبو رياض الإنجيل منِّي ووضعه على رأسي، ورسم إشارة الصَّليب على جبيني بالإنجيل، وفجأة خفّ ألمي، وشعرتُ وكأنّ قوّة غامضة توغّلت في جسدي المسجَّى على الأرض، وفتحت عيني وقلت: أريد أمّي وأبي، شاهدتُ الجموع حولي، كان الشّرطة يريدون أن يكتبوا تقريرهم بما حصل ويأخذوا أقوالي، كانت أمّي منهارة ولم تتمكّن من الوقوف على قدميها، وأبي عندها يهدّئ من روعِها، باسني عمّي وأولاد عمِّي وإخوتي وأخواتي، سألني الشّرطي فيما إذا ممكن أن يأخذوا أقوالي، بكلِّ تأكيد تستطيعون، أخذ الشّرطة أقوالي وأقوال أخي سليمان وجميل وبعض الشُّهود، شعرتُ أنَّ آلامي تخفُّ شيئاً فشيئاً، ولم أجد تزاحماً في ذهني من الصُّور الّتي كانت تتراءى لي منذ قليل، كان زملائي حولي وقال أحدهم: هاد عمل بني آدمين يعملوا، شو كان عمل الأستاذ صبري؛ كي يضربوه كل هذا الضّرب ويورّموا عينه ويكسروا رأسه بطريقة همجيّة؟ مليح كان أخوه معه وإلّا كانوا قتلوه بأرضه، خسارة، خسارة، ضمير ميّت وكأنّهم هجموا على عدوّهم! هل هذا الَّذي يبوس الإنجيل وهو على وشك الفراق عدوّهم؟!
كم كنتُ أريدُ أن أعرفَ مَن قال هذا الكلام؛ لأنّني كنتُ وسطَ الزُّحام والضَّجيج لم أستطِع معرفة صاحب الصَّوت، اتصل الشِّرطة بالمستشفى الوطني في القامشلي وخبَّروهم أنَّ هناك حالة إسعاف للأستاذ صبري يوسف من المالكيّة/ ديريك ستأتيكم خلال ساعة من الآن؛ جهّزوا غرفة العناية المشدِّدة لاستقباله وإجراء الفحوصات والإسعافات اللّازمة بالسُّرعة القصوى!
- ماذا راودكَ في الطَّريق وأنتَ في حالةِ إسعافٍ فوريّة إلى المستشفى الوطني بالقامشلي؟
انطلقنا بسيارة تاكسي سيرفيس، واستلقيتُ على المقعد الخلفي، سارت السّيارة بسرعة فائقة، طلبتُ ممّن رافقني أن يخفّف السّائق من السّرعة؛ لأنّ الطَّريق كان يتخلَّله ححفرٌ صغيرة، وكانت ترجّ السيَّارة رجّاً أثناء عبورها فوقَ هذه الحُفَر الصَّغيرة والكبيرة، كانت تؤلمني خضَّات السّيَّارة، فلو تأخَّرنا ربع ساعة أفضل من هذه الخضّات اللَّعينة؛ نريد أن نصل بالسّلامة، لا أن نخرجَ من مشكلةٍ وندخل في غيرها، هدَّأ السَّائق من سرعته، وشعرتُ أنَّني مرتاح أكثر حالما خفَّفَ السَّرعة، قبل أن نصل مشارف تل زيارات شردتُ وتراءت أمامي مشاهد المشاجرة، وكلّ تبعاتها، فرَحْتُ في أعماقي أنّني أتنفَّسُ وعلى قيدِ الحياة؛ كي أكتبَ يوماً ما كل ما حصل، كم كنتُ متحمّساً آنذاك أن أجسّد هذه الأحداث ضمن عملٍ روائي في مستقبل الأيام، مع أنَّ تجربتي الأدبيّة في ذلك الحين كانت تجربة متواضعة في عالم الأدب والإبداع، لكنَّ رغبتي في كتابة ما حصل كانت أكبر من رغبةِ روائي كبير، وتذكّرتُ في تلك اللَّحظات، ما قاله سبينوزا: “إنَّ الرُّغبة هي الدَّافع وقع وعى ذاته”، وكأنّ الرُّغبة هي الأساس ومكمن الانطلاق في بعض الأحيان، خاصّة عندما تتعلِّق المسألة بقضايا إبداعيّة وفكريّة، أتساءل الآن: ماذا يا ترى كان يراودني من أهداف لتجسيد ما حدث، هل كنتُ أريد أن أقدِّم درساً مغزىً عبرةً لما حصل، أم أنّني كنت أهدف أن أغوصَ قليلاً في هذا الضِّياع الَّذي تاه فيه الكثير من شبّاننا وهم في أمسِّ الحاجةإلى مَن يساعدهم ويمسك بيدهم إلى برّ الأمان، هل ثمّة أمان في هذا أو ذاكَ الزَّمان؟ ثمَّ تراءى أمامي صديقي الَّذي طلبتُ منه أن يسلّم عليهم ويغلقوا هذا الموضوع، كيف سيكون موقف صديقي منّي، وكيف سيكون موقفه منهم وممّا جرى، وما هي النَّتائج الّتي تترتّب على مستقبل هؤلاء؟ عشرات الأسئلة راودتني، ثمَّ سطعتْ أمِّي أمامي بكلِّ حنانها وبراءتها وطيبة قلبها، تراءت لي وهي تدندنُ بكلِّ حزنٍ تناجيني، كم شعرتُ في تلكَ اللَّحظات أنّني بحاجة إلى احتضانها واطمئنانها على أنّني بألفِ خيرٍ؛ كي لا تحزن، أُمِّي بحرٌ من الحنان، وجهٌ مخضّبٌ بحقولِ القمح، أمّي وحقول القمح سيّان، كم من باقات السَّنابل لملمتها ونقلتها إلى أكوام الحنطة، أمِّي أجمل قصيدة عرفتها على مدى حياتي، هي مَنْ علّمتني أنَّ البسمةَ والمحبّةَ وهديلَ اليمام أجمل ما أحمله فوق أجنحةِ العمرِ إلى مدى العمرِ، هل أمِّي ألهمتني أن أركّزَ على صوت ابن خالها اسكندر عازار؛ كي يضعَ فوق رأسي وجبيني الكتاب المقدّس؟ أمّي رسالة فرحٍ فوقَ سماءِ ليلي وجرحي وكياني، أمِّي هي الّتي منحتني للحياة ككتابٍ معجونٍ من طينِ المحبّة، وأنقذتني مراراً من أنينِ الجراحِ، أراها في بصيرة روحي كأنّها إشراقة شمسٍ في صباحٍ باكر، سأعودُ إليك يا أمِّي؛ كي أضمَّكِ إلى قلبي وروحي؛ كي تفرحي فرحاً يجعلني أحلِّق عالياً كأسرابِ الزَّرازيرِ، ويتراءى لي أبي وهو ينظر إلى أمِّي، يسمع دندناتها الحنونة وهو يبكي مثل طفلٍ صغير، يهمسُ في سرّه، لا تبتعد عنِّي كثيراً يا صبري، سمّيتُكَ صبري؛ كي تكون صبريَّاً وصبوراً في الحياة، شعرْتُ وكأنّي أسمع صوتَ أخي سليمان وهو يعاتب زوجته، سامحكِ الله سامحكِ الله، آهٍ لو تركتِ غَضَنْفري معي، ولكن ماذا أقول لكِ؟ دمعَتْ عيناها وهي تنظرُ إلى زوجها، وحدَها المرأة تغوصُ في أعماقِ السَّلام، لا تحبُّ العنفَ ولا شراراتِ النّارِ، أراها مجنّحة نحوَ هديلِ الحمائم.
أصبحنا على مقربة من بابِ الحديد، مانك عطشان يا أستاذ؟ هزّيتُ رأسي رغم أنين ما أنا فيه، وهمستُ في سرِّي أنا متعطِّشٌ إلى حنين صديقة، إلى انبعاث حروفِ القصيدة، إلى أزاهيرِ الرَّبيع، إلى أصدقاءٍ من براءاتِ الطُّفولة. لو أنتَ عطشان يا أستاذ نأخذ استراحة دقائق ثمّ ننطلق، لستُ عطشانَ، تابع طريقك نحوَ بياضِ ملائكة الرَّحمة، سأشربُ هناك في المستشفى، ثمَّ انطلقَ وانطلقتُ معه في شرودي في متاهات أحلام اليقظة، تراءى أمامي أولاد عمِّي وعمِّي وأولاد خالة بيت عمي، والأهل يتناقشون بصوتٍ عالٍ، وسمعتُ عمِّي يقول لأولاده: كيف تتركونه وحده، فقال وديع: أصلاً نحن ما كنّا نعرف أنّهم في المشوار، راقبنا الشَّارع فلم نرَهم، لو رأيتهم؛ كنتُ سأنضمُّ إليهم بكلِّ تأكيد، لكن حظ الجبناء الّذين هجموا بالغدر والحيلة كان قويَّاً، كم كنتُ أتمنّى لو شاركتُ في هذه المنازلة، كنتُ سأريهم لَكماتي على أصولها! وصلنا قبور البيض، قريباً سنصل إلى القامشلي، تيبَّسَ الدَّم على قميصي وفانيلتي، وتمزّقت قميصي خلال العراكِ، شعرتُ بألمٍ في ظهري وعيني ورأسي وصدري، خدرتْ قدمي اليسرى، فطلبتُ من مرافقي أن يفرك ساقي المخدّرّة، ثمَّ شعرْتُ أنّني في حالةِ إعياءٍ، وطلبتُ أن يفتحَ السّائق بلّورَ النَّافذة قليلاً، دقائق ونكون في القامشلي، شاهدتُ أضواء المدينة من بعيد، حاولتُ أن أجلسَ وشعرتُ بألمٍ كلَّما كنتُ أحرّك جسمي. القامشلي ترحِّب بكم، قرأتُ آرمة كبيرة في مدخلِ القامشلي، حالما دخلنا المدينة أطلقَ السّائق زمّور الخطر موجّهاً أنظاره نحو المستشفى الوطني، كان باب المدخل الخارجي مفتوحاً، دخلت السِّيارة في باحة المستشفى، وإذ بعربة كسرير جاهزة لنقلي مباشرةً إلى قسم العناية المشدّدة، خلال لحظات وجدْتُ حولي فريقاً من الأطباءِ والممرِّضات وأنا مسترخٍ على السَّرير، وهكذا وصلتُ إلى مناغاةِ بوحِ القصيدة، وأنا في أوجِ شهقاتِ الأنين!
- من استقبلكَ في المستشفى، وكيفَ تمَّ إسعافك؟
استقبلني أصحاب الرّايات البيضاء، تمّ فحص رأسي؛ الجمجمة بخير، المخ في أرقى تجلّياته، مشكلة في الضّغط؛ نتيجة تفاقم الحُفَر على مدى الطَّريق، واحتراق ما تبقَّى من أعصاب المدرّسين بعد عامٍ كامل من العطاء يتفاجؤون بمرارات لا تخطر على بال، نقص في الدّم نتيجة النَّزيف، خياطة جرح العين والرَّأس في ديريك كإسعاف أولي كان ناجحاً، تدرّز في عظام القفص الصّدري، مشعور العظم في ثلاثة عظام لكن تجبّرها يتمُّ تلقائيَّاً مع الوقت، الرّضوض كانت كثيرة لكنّها ستخفُّ، القلب جيّد نتيجه عشقه العميق للحياة، لا يوجد مضاعفات للرأس، جرح العين كان خطيراً نظراً لتورّم الخد والعين، لكن الأطباء أكّدوا أنَّ هذا الورم سيخفُّ خلال أيام قليلة، آلام في الجسم نتيجة الرّضوض واللّكمات والأحجار، انفتاح ثغور الممرضات لكلِّ ما رأوه من مخطّطات شباب آخر زمن في مجابهة مربّي الأجيال، اندهاش الطَّبيب المشرف، عندما اطلع على تقرير الشّرطة، فتساءل باستغرابٍ كبير: أنتَ تشتغل موجّه يا أستاذ؟! أيوه دكتور، بحسب ما أرى من نتائج فحصك وقراءة تقرير الشّرطة وكأنّنا في العصر الحجري، ويبدو أنَّ هناك عودة للعصور الحجريّة، والغريب بالأمر لا أرى أي سبب يستوجب لكلِّ هذه الطَّنّة والرّنّة!
بالعكس دكتور هناك سبب وجيه جدّاً وقويّ جدّاً، ما هو هذا السَّبب الوجيه برأيك يا أستاذ؟! ولو يا دكتور، السَّبب واضح وضوح الشَّمس، طيّب ما هو هذا السَّبب الواضح وضوح الشَّمس؟! البطر يا دكتور، نعم البطر ما غيره يا دكتور، هل عندكَ سببٌ أقوى من البطر؟! ضحك الدّكتور وكلَّ الممرِّضات، ثمّ ردّتْ إحدى الممرِّضات أقوى تبرير وتحليل لمريض دخل المستشفى منذ زمنٍ بعيد! طيّب هل عندكِ تبرير أقوى من تبريري؟ أجابت: لا والله يا أستاذ ما عندي، وصدِّقني يا أستاذ، مقتنعة بكلامك وتحليلك تماماً رغم أنّه يحوي الكثير من الفكاهة، وما يدهشني كيف لإنسان في هذا العالم له القلب أن يتعارك معك وأنت مدرِّس محترم وخفيف الظّل إلى درجة أنّنا استقبلناك في العناية المشدّدة وما تزال جراحك ثخينة ونازفة ومع هذا تأخذ الحوار بفكاهة رائعة، كأنّك لا تعاني من شيء وفي رحلة فكاهيّة؟ طيّب ألَا يساعدني المرح والفرح والفكاهة على تضميد الجراح بسرعة؟ ضحك الطَّبيب بأعلى صوته، وهو يقول: إذاً سبب مرحك وفكاهيّاتك هو طبّي؟ طبعاً هو طبّي إن شاء الله مفكّرني جايي من المالكية إلى عندكم بكلِّ هذه الجراح والرّضوض من أجل أن أضحِّكَكم، أنا لا أؤمن بنظرية الفن للفن أو الضحك للضحك، بل أؤمن بأن يكون للضحك أثرٌ لالتئام الجراح في مثل وضعي، وتخفيف ورم عيني بسرعة الضّحك، وإلَّا ممكن أنّ أظل عندكم شهراً ولا يخفُّ هذا الورم؛ بسبب عدم قدرتكم على خلق أيّة حالات فرحيّة للمرضى، فقط تريدون كلّ شيء على الحاضر وتقهقهون بأعلى أصواتكم! ضحكوا ثانية ثمَّ قال الطَّبيب: المشكلة لو تقرير الشّرطة ليس بأيدينا، وكل هذه الجراح والرّضوض والدّم الّذي سال منك، كنتُ سأقول أنكَ تمثَّل علينا! لكنّكَ حقيقة الأمر أقوى من أي ممثل؛ لأنّك عبر الواقع تقدّم أجمل ممَّا يقدّمه الممثّل؛ لأنّ الممثّل بالنّتيجة يكذب علينا؛ لأنّه يمثِّل، بينما أنتَ يا أستاذ تعرض الواقع بنكهة فكاهيّة مسرحيّة، وكأنّها مشاهد مسرحيّة بديعة! شكراً.
تفضّل أستاذ إلى غرفتك، الممرّضات سيجهِّزن لك إبرة سيروم للتغذية وتحتاج إلى دم؛ لتعويض دمك، وأي طلب تحتاجه نحن بالخدمة فقط دق علينا جرس التَّنبيه، وإن شاء الله تشفى وتتحسّن، وتعود لأهلك بخير وسلامة في أقرب وقت. بارك الله فيك دكتور!
غرفة نظيفة، زوَّدوني بحدود كيلو دم، وإبرة لتخفيف الآلام، وقدَّموا لي وجبة خفيفة، وبعد تناول الطَّعام طلبت فيما إذا يتوفّر عندهم في مكتبة المستشفى دواوين شعريّة، أو مجموعات قصصيّة، أو كتب أدبيّة كالرِّوايات أو المسرحيّات؟ أجابت الممرضة: عندنا مكتبة وبعض الكتب، لكن لا أظن عندنا كتباً أدبيّة من هذا النَّوع؛ لأنَّ أغلب كتبنا في المكتبة هي طبِّيّة. طيّب هل بالإمكان غداً تأمين بعض الكتب لي واستعارتها من مكتبة المركز الثّقافي؟ سنحاول ربّما نستطيع تأمين طلبك، لكن أستاذ أنت تحتاج إلى راحة، بكلِّ تأكيد أحتاج إلى راحة، هل تعلمين أنِّي أجدُ في قراءة الكتب راحتي الكبرى في الحياة؟! رائع يا أستاذ، صدّقني سأحاول تأمين طلبك غداً بأيَّةِ طريقة كانت، حتّى ولو استعرت الكتب باسمي لك، مادام وأنت هكذا تنظر إلى أهمّيّة قراءة الكتاب بما يحقّقه لك من راحةٍ وفائدة!
عندما استيقظتُ من نومي في اليوم الثَّاني، بعد أن أخذت قيلولتي بعد الغذاء، وجدتُ على طاولتي مجموعة كتب؛ ففرحتُ كثيراً، وشعرتُ أنّه ليس الضّحك فقط يخفِّف الأوجاع ويشفي الأورام والجراح، بل الكتب أيضاً، وهذا ما حقَّقته لي الممرضة الشَّابة، الّتي تسعى مع طاقم العمل الطّبي إلى رعايتي وتقديم كلّ ما يحقِّق راحتي، وما وجدته من رعاية وحفاوة يجعلني أقول: إنَّ الدُّنيا ما تزال بخير!
- ماذا دارَ في خلدِكَ وأنتَ تنتقلُ من أوجِ حالاتِ التَّأمُّلِ إلى غرفة الإنعاش لأتفهِ الأسباب؟!
دار في خلدي أن أقفَ بكلِّ صلابةٍ ورباطةِ جأشٍ أن أستكملَ تأمُّلاتي، بعد أن أجدَ هذا القفص العلوي الرَّأس المخ على ما يرام، ولا أنظر إلى الأسباب التَّافهة الَّتي قادت إلى ما قادت إليه، بقدر ما أنظر إلى ذاتي في أيِّ موقفٍ كنتُ ماذا ممكن أن أقدِّم للحياة للمجتمع لذاتي من فعل خير ومحبّة وسلام؟ لهذا وجدتُني بعد أن تمَّ الاطمئنان على صحّتي، أنّني كنتُ في أوجِ مرحي وكأنّني في رحلة ترفيهيّة، وكان فعلاً هناك ترفيه قوي، خاصّة أنَّ كلّ وسائل الرّاحة وجدتها حولي، وهكذا منذ اليوم الأوَّل استطعت أن أتغلّب على المصيبة أو الكارثة الّتي مررتبها، ولكنَّ السُّؤال المطروح: هل هؤلاء الّذين تصرّفوا بطريقةٍ همجيّة من دون أي سبب وجيه يستحق الذّكر -إلّا سبب البطر كما أشرات في جوابي السَّابق وبنوع من الطّرافة والفكاهة- هل هم مرتاحون مثلما أنا مرتاح والأطباء والممرِّضات يقدمْن لي أفضل رعاية وكأنِّي بيت أمي وأبي، أم ما يزالون فارين من ديريك إلى القرى؟ لهذا فإنّي أرى أنّني كنتُ وما أزال منتصراً في تصارعاتي في الحياة مع أيّة جهة أو طرف كان؛ لأنّني أنظر دائماً منذ ذلك الحين وقبل ذلك الحين إلى الجانب الخيّر في أيّة قضيّة تتعلَّق بي أو بغيري، وأكون طرفاً فيها بصيغة أو بأخرى؛ لهذا دار في خلدي وأنا أنتقل من أوج تأمُّلاتي قبل أيام من وقوع التَّشابكات إلى غرفة الإنعاش، أن أخطِّط بكلِّ هدوء وروية بعد الاطمئنان على صحتي وما آلت إليه الأمور لإيجاد حل يناسب كلَّ الأطراف المتعلِّقة بالأُسرتَين، وبدأت أمسك الخيوط المتصارعة هناك في ديريك، وأضع مخطَّطاتي في الحلول للوصول إلى حلٍّ نهائي يرضي كلَّ الأطراف من دون أن نهرق نقطة دم من الطَّرفين، كما بدأت من اليوم الأولفي الحصول على بعض الكتب؛ كي أتابع تأمُّلاتي وقراءاتي في الشّعر والقصص والرِّوايات، بحيث أحافظ على لياقتي في التَّأمُّل الخلَّاق؛ وكي أحافظ على صفاء ذهني رغم تفاقم الأوجاع والرّضوض والجراح؛ لأنَّ هذه الأوجاع والجراح والرّضوض يتمُّ شفاؤها عبر المشافي والأطباء والأدوية والرّعاية، وأمّا جراح العقم الفكري والتَّخشُّب الذّهني والعنجهيّات السَّقيمة فتقودُ المرء دائماً إلى نتائح وخيمة، وتضرُّ بذات الإنسان ومَن يُحيط به؛ وهكذا أرى من الضُّروري أن يتحلّى المرء بالصَّبر، ويتحلّى بالحمكة، ويرفع شعار السَّلام والوئام مع الآخر كائناً من كان، فكيفَ والحالة هذه إذا كان جيرانه وابن بلده ومن معارفه وخلَّانه؟!
عندما جاءت الممرّضة، وجدتني مسترخياً على سريري، أقرأ أحد الدّواوين الشِّعريّة، وفي حالة هدوء وتأمُّل، فابتسمتْ لي، وشعرتُ أنّني في قمّة سعادتي ولياقتي، وشعرتُ بحزنٍ على هؤلاء الشُّبان ومصيرهم الّذي آلوا إليه، وفكّرتُ أن أهدّئ الأوضاع من جانب أهلي؛ كي لا يتفاقم الأمر من جانبهم، خاصّة لو حلَّلوا أنّني في حالة خطرة، سيردُّون هم أيضاً بعنف كبير، وهذا ما لا أريده وما لا تُحمَد عقباه لو حصل؛ ولهذا جلُّ تفكيري انصبَّ على ضبط الأوضاع، والاشتغال على إحقاق حقِّي وإعادة اعتباري، مع أنَّنيأجدُ نفسي في قمّة اعتباري؛ لأنَّ هذه التُّرّهات لا تؤثّر على اعتباري نهائيّاً، سواء في المجتمع أو تجاه ذاتي، ومع هذا لابدّ أن يدفع هؤلاء الجناة ثمن غلطتهم وعنجهيّاتهم وهمجيّاتهم؛ كي يشعروا بغلطتهم الكبيرة، ويتّخذوا منها درساً وعبرةً لهم بأنَّ التّعدّي على كرامة وحقوق النَّاس ليس رحلة في الهواء الطّلق، وهكذا سارت الأمور بهدوء تام. أهلاً بكِ وأشكركِ على هذا الدّيوان والكتب الّتي استعرتِها لي من المكتبة. هل أنتَ مرتاح اليوم؟ بوجودكم مرتاح، هل تحتاج شيئاً أو لديك طلب ما؟ أريد الاتِّصال مع المالكيّة/ ديريك؛ كي أُطَمْئِنَ أهلي عليّ، بكلِّ تأكيد ممكن، بعد حوالي ساعة أمّنت لي مكالمة هاتفيّة مع بريد ديريك، واتَّصلت مع خالي اسكندر عازار، وخبّرته أنّني بخير، وضرورة تبليغ الأهل أنَّ نتائج الفحوصات تشير إلى أنّ عيني بخير وسليمة، وأستطيع أن أقرأ بين الحين والآخر، ورأسي بخير، والجرح يتحسّن ولا مخاوف من ارتجاج في المخّ ولا أيّة مضاعفات على المخ، عندي أوجاع في الجسم وتدرُّز في بعض عظام الصّدر لكن سأتحسّن، فأنا بخير والحمدلله جاءت سليمة، وأشكرك على ما قمت به من أجلي يا خالي الغالي. الحمدلله طمأنتني وحالما أنتهي من الدَّوام سأزور الأهل وأطمِئنهم! عدتُ والممرضة تحاول أن تسندني، فنظرتُ إليها وقلت: أستطيع أن أسيرَ وحدي، لكن لا مانع أن تسنديني قليلاً، فضحكتْ وقالت: آه يا شقي، خلّيك بقراءة الشِّعر، فقلت لها: هل تعلمين أنَّ نسبة كبيرة من استلهام الشِّعر مستوحاة من المرأة؟ فقالت: عن جد؟ ابتسمتُ وقلتُ: عن جد، ألا تقرَئِين الشّعر؟ قالت: عندما كنت طالبة، وأمّا الآن فمشاغلي تعيقني عن القراءة، كان سريري بانتظاري، كتبتُ بعض الملاحظات، وتناولت حبّة لتخفيف الأوجاع، ثمَّ نمتُ نوماً عميقاً!
- كيف انقلب شارع المشوار رأسأ على عقب، وخيَّم حزنٌ عميق فوقَ ربوع ديريك؟!
وصلتني المعلومات تباعاً، من خلال الأهل الَّذين كانوا يزورونني في المستشفى، خيّمَ حزنٌ عميق فوق ربوع ديريك، حتَّى أنَّ أهل الشُّبَّان آلمهم ما آلت إليه الأمور من مستجدَّات وخيمة، وقالوا لأولادهم وشبابهم: تضربوا أنتم وعنجهيّاتكم وتصرُّفاتكم الغريبة العجيبة، يخرب بيت سماكم شو هل الضَّرب الّذي ضربتم الأستاذ صبري؟ بكلّ صراحة سمعة هذا الأستاذ في كلِّ ديريك مثل العسل، ما فهمنا ليش هيك جنَّ جنونكم وهجمتم على شاب لم يؤذِ نملةً، ولو كنتم قد تشاجرتم مع شاب شرس وَزرز وصاحب مشاكل؛ قلنا: أمرنا لله، مو تهجموا كل هذا الهجوم على إنسان كل صفاته أفضل منكم، ومن خيرة شباب ديريك باعتراف الأكراد قبل السِّريان، ولم نسأل شخصاً عنه إلَّا وقال كلمة رائعة بحقّه، ونشعر أنّنا أصبحنا في موقع محرج جدّاً من أهله ومعارفه وأصحابه ومن ذواتنا، ولا يوجد أي مخرج وأي مبرَّر لتصليح الموقف مع أهل الأستاذ صبري وبيت عمّه وأقربائه إلّا الاعتذار إليهم، والمصالحة معهم؛ لإعادة اعتباره أولاً، وتحقيق كلّ طلباتهم دون أي قيد أو شرط، وإلّا خلّيكم هناك في القرى والبراري بين الأبقار والأغنام، ولكن إيّاكم أن تعلقوا مع الأغنام والأبقار فلها أصحابها!!! وهذا حقّكم ومستحقّكم لم يصلكم، وكلّ من يبقى ضدّ هذا الطَّرح ليتفضَّل ويقاوم الخير بالشَّر لنرى نتائج أفعالكم إلى أين ستقودنا؟!
وقف أهل الشَّباب العشيرة الكبيرة موقفاً حازماً وحاسماً ضدَّ سلوك وتصرُّف الشَّباب، وهذا ما خفَّف من الضَّغط الّذي كان ناجماً ومتصاعداً من جانب أهلي، وكانوا فعلاً يستقبلون غضب أولاد عمِّي وإخوتي برحابة صدر قائلين: ولا يهمُّكم؛ أخوكم هو أخونا، وأي ضرر عليه هو ضرر علينا كلّنا، ونحن تحت تصرُّفكم بما تشاؤون وتطلبون، نعتذر منكم الآن وغداً والله يجعل فيه الخير ويرجّع أخوكم وابن عمّكم بالسَّلامة يارب! لكنَّ أهلي كانوا في قمّة غضبهم، خاصّة أخي سليمان وأولاد عمِّي وأولاد خالتهم من آل متّو، أقلقتني هذه التَّوّتُّرات، لكنِّي كنتُ على صلة مباشرة مع الأهل؛ لتخفيف الوضع، والعمل على كافّة الجبهات بشكلٍ متوازن، وعدم تصعيد الموقف، والوقوف عند نقطة التّصعيد فقط، بل الوقوف عند الحلول السّلميّة وفي الوقت نفسه متابعة الضّغط والمطالبة بحقّي؛ كي تتمَّ معالجة الأمور بشكل مناسب لكلِّ الأطراف، ولا يبقى أي طرف مظلوماً، جاءني ابن العم صليبا وجميل وأخي نعيم أكثر من مرّة لزيارتي، وتناقشنا في الكثير من المواضيع، كان نعيم منحازاً جدّاً إلى المصالحة؛ لأنّ هناك طرفاًمهمَّاً في المشاجرة من جانبهم صديقه المقرّبوطرفاً آخر أكثر أهمّية هو صهرهم، حتّى أنَّني قلت لأخي: كيف خطر على بال صديقك أن يقوم بفعلته وكان رأس الحربة في المواجهة، وهو مَنْ فاتحنا قبل المواجهة بلغة نحن أصدقاء وأهل وغرّر بنا، ثمّ انقضُّوا علينا غفلةً من كلِّ الجهات، كيف لم يفكّر بموقفه منكَ، كيف سيواجهك وهو يتعرّض لي؟! نظر إليّ وقال: دواؤه عندي، سأبهدله على أيّة حال عندما ينتهي كلُّ شيء على خير. عموماً أنا لستُ ضدّهم حتّى الآن، لكن حقوقي وبشكلٍ قانوني سآخذها كاملةً، ولكن أريدها عبر الحكمة والتّصالح والهدوء، بعيداً عن أي ضجيج، ووافقني صليبا وجميل أيضاً، وركّزنا على مبدأ المصالحة؛ لأنَّ الصّلح سيّد الأحكام!
- مَنْ هي الدَّكتورة إيلي/ إيليزابيت، الّتي تعاطفت معكَ تعاطفاً كبيراً إلى درجة طفوح الدَّمعة؟!
يا إلهي، كم هذه الإنسانة رائعة وإنسانيّة وعظيمة! كانت تعمل في قسم التّحليل، كيف فاتني أن أشير إليها منذ البداية، تعاطفتْ معي تعاطفاً كبيراً، خاصّة عندما عرفت الموضوع من كلِّ جوانبه، كانت تناقشني في كلِّ صغيرة وكبيرة، وتسمع منطقي وتحليلي، وتستغرب كيف حصل ما حصل مع إنسان مثلي حسَّاس ومثقَّف وهادئ ولطيف، وإنسان يحبُّ السَّلام ولا يحبُّ العنف ولا التّحدِّيات العضليّة، ومنحاز إلى لغةِ الحوار والعقل؟ وقد زاد من تعلّقها وتعاطفها أنّها كانت تخصُّ آل الحياكي، وكان بيننا مصاهرة أو قريباً ستتمُّ ترتيبات المصاهرة؛ لأنّ حماة أخي كانت من آل الحياكي، فقلت لها: يا عزيزتي الدُّكتورة، كلّنا في ديريك والقامشلي وبقية مدننا أهل بصيغة ما؛ لأنَّ الأسر والمصاهرات تكبر وتكبر ونصبح أقرباء من خلال الأهل المصاهرين لأسرٍ أخرى ومن خلال علاقاتنا مع بعضنا بعضاً، كانت تحبُّ منطقي وهدوئي وتحليلي وشغفي وجنوحي نحو المصالحة وتهدئة الأوضاع، ولكنَّها ركّزت على ضرورة استحصال حقِّي القانوني وحقّي الاعتباري، واعتذار الجهة المتعدِّية بطريقة تليق بي وبأسرتي؛ كي يأخذ كل واحد حقّه كاملاً، كما كانت توصي الممرِّضات بي، مع أنَّ الممرّضات كنَّ يعتنينَ بي، وكذلك الأطباء، شعرت أنّني بين أهلي حقَّاً، وكم كنت أرتاح لوقوف الدّكتورة إيلي بجانبي! حيث كانت تطلُّ عليّ كلّما تجد لها وقتاً، وتتابع وضعي ومستجدّات تحسّن صحتي، وكانت تفرح عندما تخفُّ أورام عيني وخدّي، حقيقةً كنتُ أحبُّها حبَّاً عميقاً كأنّها أمِّي وأبي وأختي وأخي .. ! شيء عجيب كان حضورها يريّحني خاصّة أنّني كنتُ بعيداً عن أهلي، فكانت في موقع أحد أفراد أهلي معي في المستشفى، ولفتَ انتباهي أنّها قريبة من طبيعتي؛ لأنّني سهل المعشر وطيّب القلب، وازدادت تقرُّبَاً واهتماماً بي؛ لأنّها هي نفسها تحبُّ مساعدة مَنْ هم في وضعي؛ لأنَّ إنسانيَّتها وأخلاقها الرَّاقية إضافة إلى كونها طبيبة وتعمل مع ملائكة الرّحمة، كل ذلك جعلها تكون إنسانة نادرة في العطاء والمحبّة والرّعاية، فكانت نعمة متهاطلة علي من فوق؛ كي تضمِّد جراحي وأحزاني، مع أنّني كنت مرتاحاً في المستشفى، ولكنّها زادت من راحتي؛ ممّا جعلني أقول للمرّة الثَّانية: أنَّ الدُّنيا بخير، ولابدَّ أن نجد في مسارات حياتنا الأحبّة الرَّائعين والخيِّرين، يفعلون فعل الخير والمحبّة، ويزرعون الوئام والفرح في قلوب الطِّيِّبين من دون أي مقابل، منطلقين من مقولة: “اعمل الواجب؛ لأنّه واجب، ولأنّه يمنحك فرحاً وسعادةً كما يمنحُ الواجبُ الآخرين فرحاً وسعادةً” فكم تصبح الحياة جميلة ورائعة عندما نسهم في مساعدة بعضنا بعضاً، وتوفير كل سبل الرَّاحة والهناء أينما كنّا؛ كي نشعر بأهمّيّة وجودنا وعطائنا بكلِّ ما لدينا من إمكانيَّاتٍ راقية؛ لاستكمال دورة الحياة من بابها الإنساني الخلّاق.
- مَنْ كان يزورُك في المستشفى، وكيف كنتَ تستقبلهم؟
أغلب زُوَّاري كانوا يزوروني عبر جموحاتِ الخيال، فقد زارتني أمِّي مراراً، لم تفارقها البسمة أبداً، كانت تزرعُ في قلبي وروحي أملاً عميقاً بأنَّ الحياةَ هي كلمة طيّبة نقولها ونعملها ونمارسها في حياتنا أينما كنَّا، كما زارني والدي بفكاهيَّاته وقفشاته الرّائعة، وكأنّه آتٍ من الفدّانِ وحراثةِ الأرضِ، أو من حصاد العدس والحنطة منذ دقائق، تفوحُ منه رائحةَ العشبِ البرّي والسَّنابلِ واخضرارِ الكروم، بدا لي والدي كأنّه بسمة مبرعمة من أريجِ الطَّبيعة، كان معطاءً كغصنٍ بهيٍّ من أغصانِ الطَّبيعة!
زارني إخوتي وأخواتي، كما زارني أولاد عمّي وسائر أهلي؛ منهم عبر مخيالي، ومنهم عبرَ بهاءِ العناقِ. إنَّ أكبرَ نعمةٍ على وجهِ الدُّنيا ممنوحة للبشر هي هذه الزّيارات العناقيّة المتاحة لنا عبر رحاب الخيال؛ والخيال كقيمة حياتيّة أهم من أي فكر على وجه الدُّنيا؛ لأنّه يخلق دائماً عبر تجلّيات الإبداع رؤىً جديدة، كما زارني وفدٌ رسمي من نقابة المعلِّمين، وكان الوفد مستاءً جدّاً من الطَّريقة الوحشيّة الّتي قام بها هؤلاء الشَّبّان، وتابعوا جهودهم برفع الشّكوى عبر نقابة المعلِّمين؛ للاقتصاص من هؤلاء بشكل قانوني في حال لو لم ينتهِ حلّ الأمور بشكل عشائري، مع أنّني كنتُ أميل نحو الحلول العشائريّة؛ لأنّها أكثر صفاءً للنيّات من الحلول القانونيّة الَّتي غالباً ما يشوبُها نوعٌ من الإضمارات الضِّمنيّة من خلال الحساسيّات والغبن أحياناً، وعدم صفاء النِّيّات، ممَّا لو تمَّت المصالحات على أيدي الكبار وأصحاب الحكمة ودعاة الخير؛ كي نعانق بعضنا بكلِّ نيّة سليمة، ونقلب خلف ظهورنا كلّ ما يشوبه البغض والحقد والعنف، ونبدأ صفحة جديدة، ونصبح أصدقاء كسابقِ عهدنا؛ لهذا تمَّ تركيز أهل الشَّباب على حلِّ تفاقمات ما حصل عبر نقابة المعلّمين، وسرّني أن تتمَّ المصالحة بهذه الطَّريقة؛ كي يبقى للمدرِّس مكانته، وتدافع النَّقابة بإدارتها الرَّشيدة عن حقوق معلّميها ومدرِّسيها، وزارني بعض الأصدقاء والأهل من القامشلي، أمثال: بيت خالي مسعود عازار، وكانت الممرّضات في زيارات دائمة للاطمئنان علي، ولم تغفل الدُّكتورة إيلي عينها عنّي، كانت تزورني وتطمئنُّ علي كلّما وجدَت وقتاً لها، ولن أنسى ما حييت حنانها العميق وتعاطفها، حتّى أنّها صرّحت لي أكثر من مرّة قائلةً: لو حصل -لا سمح الله- مضاعفات معيّنة معك وتحتاج إلى معالجة في حلب أو دمشق؛ فأناسأتبنّى مصاريف علاجك كاملةً كأنّك أحد أفراد أسرتي، أبهجتني إنسانيّتها الرّاقية، ثمَّ وضعتْ يدها على صدري وقالت: لا تقلق عزيزي أستاذ صبري، أنا معك حتّى تشفى تماماً، أمسكتُ يدها ووضعتُها على جبيني، ثمَّ نظرتُ إليها وأنا أقبّل يدها بكلِّ احترام، فطفحَت عيناها دموعَ حنانٍ، كانت تعني لي حنان الدُّنيا، وكانت بلسماً لجراحي، ثمَّ باست جبيني وكأنَّ أمّي وأبي وكلّ عزيز عليّ يعانقني؛ عندها شعرتُ أنَّ دعاء أمِّي وأهلي أرسل إليَّ هذه الطّبيبة الحنونة الَّتي تحملُ في قلبها كلّ معاني المحبّة والإنسانيّة، ما يكفي لبلْسَمة جراحي ورسم البسمة على وجهي، وزرع الأمل في قلبي، كأنّها قصيدة محبوكة في مرامي قلبي ومروجِ روحي، ستبقى ابتسامتها الوضَّاءة معرَّشةً في مخيالِ ذاكرتي إلى أمدٍ طويل!
- ما هي التَّطوُّرات الَّتي تفاقمت في ديريك من جرّاء المماحكات الّتي تصاعدت بين الطَّرفين؟!
نظراً لأنّني كنتُ غائباً عن مسرح الأحداث ومحاولات الحوارات الجاريّة في ديريك ما بين أسرتي ومَنْ يمثِّلها في الحوار مع أهل الشّبّان الّذين اشتبكوا معنا في واقعةٍ مريرة، تصاعدت تبعاتها إلى متاهاتٍ لا تُحمد عقباها، فقد تصاعدت الأوضاع؛ نتيجة عدم مرونة أخي سليمان في إيجاد خيوط لمفاوضات الحوار؛ حيث كان متصلِّباً في رأيه، ولا يترك أملاً يقودُ الطَّرفين إلى الحوار الفعَّال؛ خاصّةأنَّه كان مشتركاً في الاشتباك من جهة، وغير مطمئن على صحّتي من جهةٍ أخرى، لهذا كان يعلِّق الحوار وما يقود إلى المصالحة، مركّزاً على أنّه من الممكن أن يضعوا النِّقاط على الحروف بعد خروجي من المستشفى ويراني وجهاً لوجه، علماً أنّني اتّصلت عدّة مرَّات مع ديريك، وبلّغت الأهل وتحديداً أخي سليمان عبر أخي نعيم وابن عمِّي صليبا وجميل، مركّزاً على ضرورة أن نترك باب الحوار والصّلح مفتوحاً، لا أن نغلقه في وجه الطَّرف الآخر؛ كي لا يضّطرّوا هم أيضاً إلى متابعة الحل بطرقهم الخاصّة، وهذا ما حصل فعلاً عندما وجدوا أخي سليمان عبر قنوات الحوارات الجارية متصلِّباً في رأيه فلجؤوا إلى وسائل أخرى؛ كي يخفِّفوا المسؤوليّة عن أبنائهم فيما إذا تمَّ الاستمرار بمتابعة الشَّكوى أصولاً عبر المحاكم وعن طريق مديرية التَّربية معاً، حيث كانوا هم أيضاً ينحازون إلى المصالحة العشائريّة مثلما كنتُ أخطِّط أيضاً؛ ونظراً لأنّهم ما كانوا قادرين على الحوار معي بشكل مباشر؛ لأنّني كنتُ في المستشفى من جهة؛ ولأنَّني كنتُ قد أقمتُ دعوى قضائيّة ضدَّ الشّباب، فكيف سيقابلوني وأنا في المستشفى دون الاتِّفاق على تفاصيل الحلّ النِّهائي؟ لهذا اعتمدوا على الحوار مع مَن يمثِّلني) ويمثِّل الأسرة فما كان أمامهم سوى أخي سليمان، مع أنَّ طروحاتهم كانت تصبُّ في تطلُّعاتي في الكثير من الوجوه، وعندما وجدوا الطّريق مسدوداً أمامهم عبر الحوار المباشر مع أخي سليمان؛ لم يجدوا أجدى من أن يتركوا الحلَّ النّهائي بيد نقيب المعلِّمين الأستاذ نعيم زيتون؛ كي يتحاور هو بنفسه ممثّلاً عنهم مع أخي سليمان بالشُّروط الَّتي يراها مناسبة، لعلَّ وعسى يتمَّ إغلاق الملف، والعودة إلى طاولة مفاوضات المصالحة عبر أعلى هيئة تعليميّة تمثِّلني في المحافظة؛ تفادياً من متابعة الدَّعوة القانونيّة وتبعاتها المتعدّدة، والَّتي لا تعود لصالح أي طرف من الأطراف، خاصَّة لو تعرّضَ الشبّاب لعقوبات كالسّجن، والعقوبات الوظيفيّة، وغيرها من النّتائج الَّتي من المؤكّد ستوتّر الأمور أكثر، وممكن أن تعيدنا إلى المربّع الأوّل، ومن غير المستبعد أن ينتج عنها مواجهات جديدة أكثر عنفاً من ذي قبل! وهكذا تفادياً لأية مستجدَّات عنفيّة، بدأت المحاولات من قبل الأستاذ نعيم زيتون نقيب المعلِّمين آنذاك مع أخي سليمان، وكنتُ على علاقة جيّدة معه، ولا يمكن أن أكسرَ له كلمةً فيما إذا حاورني في هذه القضيّة وفي أيّة قضيّة أخرى تخصّني؛ لأنّه كان نقيباً بديعاً راقياً متفتِّحاً سلساً شهماً شعبيّاً، حريصاً أن يقدِّمَ خدمة كهذه لشعبه، وكنت أعدُّه بمثابة الأخ لي ولكلِّ أبناء ديريك؛ لأنّه من أبناء بلدتنا، وهكذا بدأ الأستاذ نعيم يعدُّ ترتيبات اللِّقاء مع أخي سليمان بالتَّنسيق مع الأستاذ يوسف حنّا؛ لأنّه شقيق زوجة أخي سليمان من جهة، وهو صديقي وصديق مقرّب من الأستاذ نعيم زيتون أيضاً!
قبلَ أن أستسلم للنوم، وبعد أن قرأتُ بعض قصائد بوشكين، همستُ في سرّي: هل من الممكن أن يتمكَّنَ الأستاذ نعيم زيتون من إقناع أخي سليمان في إيجاد حلٍّ لكلِّ ما حصل حتّى ولو عبر إدخالي على الخطِّ؛ لإغلاق هذا الملف الَّذي بدأ فعلاً يغيظني جدّاً؛ لأنّي أريدُ أن أقرأ قصائد نيرودا صافي الذِّهن؟!
- هل تمكَّن نقيب المعلّمين الأستاذ نعيم زيتونمن أن يقنع أخيكَ سليمان في حلَّ المشاكل القائمة؟
هذا سؤال وجيه للغاية، ومندهشٌ لأبعد الحدود كيف لم يتمكّن الطَّرفان أن يصلا إلى حلٍّ ولو جزئي، ووصلا إلى طريقٍ مسدود، مع أنّني كنتُ قادراً على حلِّ هذه القضيّة المستعصية مع نقيب المعلّمين خلال دقائق معدودة؛ لأنَّ كلّ الخيوط الَّتي تقود للحل كانت متوفّرة من الطّرف الآخر، ولا أعلم لماذا لم يتمكّن الأستاذ نعيم من إقناع أخي، صحيح أنَّ أخي متصلِّب جدّاً في رأيه، لكنّه شخص بسيط وطيّب القلب ومرن للغاية عندما يكون مقتنعاً في حلٍّ معيّن، ولكن يبدو أنَّ الطّرفين ما كانا يشتغلان عمّا يقرِّبهما إلى بعضهما بعضاً، ويخيّل إليّ أنَّ طريقة الحوار ولغة الحوار ما كانت واضحة لدى الطَّرفين، وبرأيي كان من الأجدى أن يتمَّ لقاء كهذا مع كلِّ من: الأستاذ نعيم زيتون؛ نقيب المعلّمين، وأخي سليمان يوسف، والأستاذ يوسف حنّا، وحضرتي؛ صبري يوسف، وكان من الممكن أن يتمَّ هذا اللِّقاء عندي في المستشفى؛ حيث كانت متاحةً زيارتي بكلِّ رحابة صدر، وخلال دقائق كنتُ سأضع النِّقاط على الحروف؛ لأنَّ خيوط الحلّ برمَّتها كانت واضحة ولا تقود من جهتي إلى أيِّ خلاف، خاصّة أنَّ الطَّرف الآخر الَّذي فوَّض الأستاذ نعيم هو على أُهبة الاستعداد للمصالحة وحسم الأمر بأيِّ شرط معقول ومقبول نعرضه عليهم، بحيث يناسبنا ويناسبهم، دون أن يظلم أيّ طرف الطَّرف الآخر! وهكذا فوَّت هؤلاء الثَّلاثة فرصة ثمينة كانت بأيديهم ولم يتداركوها، ولو علمتُ أنَّ الأستاذ نعيم زيتون سيلتقي بأخي بهذا الخصوص، بحضور الأستاذ يوسف حنّا، لكنتُ سأعرض عليهم أن يكون اللِّقاء عندي؛ لأنّ عقدة الحلّ النِّهائي هي عندي، خاصّة أنّني المحور رقم واحد في إعطاء كلمة نهائيّة في الحلّ، حتّى ولو وقف أخي سليمان ضدّ وجهة نظري؛ لأنَّ الدَّعوة ضدّ الشَّباب كانت من جهتي، وكنتُ أنا المتضرّر وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة قانونيّاً وعشائريّاً؛ لأنّ القانون أو الحل العشائري أيضاً ينسحب على القانون المدني؛ لأنّه أثناء المصالحة يتمُّ إسقاط حق المدّعي بكتاب خطّي؛ كي يتمَّ تقديمه إلى المحكمة لإخلاء سبيل المدَّعى عليهم، وهكذا فإنَّ كلمتي الأخيرة في هذا الأمر هي المرجّحة والحاسمة وهكذا بعد كلّ ما حصل في اللِّقاء الأخير، دخلنا في متاهةٍ جديدة، وإذ فجأةً بممرّضة عصر يوم صيفي ربيعيّ تقول لي: إنَّ زائراً ينتظرُ موافقتكَ بالدُّخول، حيث كنتُ لا أستقبل الزُّوّار إلَّا بعد معرفتهم؛ تحسُّباً لأيّة مشكلة ممكن أن تقع؛ لأنَّ الأوضاع كانت متوتِّرة رغم أنَّني من جانبي ما كنتُ أصعّد المواقف نهائيّاً، بل كنتُ مع إغلاق الموضوع عبر المصالحة بحيث يأخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه. من هو الزَّائر؟ الأستاذ يوسف حنا، أدخليه؛ إنّه صديق مدلّل!
دخل الأستاذ يوسف حنّا وسلّم عليّ واطمأنَّ علي، ووجدني في كامل لياقتي، وكانت عيني قد خفّ ورمها، لكنّها كانت حمراء للغاية، والتأم جرحها، وفرح؛ لأنَّ نتائج أغلب الفحوص تبشِّر بالخير، ثمَّ بدأ يستعرض ما حصل باللّقاء مع نقيب المعلِّمين وأخي سليمان! كيف لم تستطيعا أن تقنعا شخصاً وأنتما شخصان: نقيب المعلِّمين، ومدرِّس لغة عربيّة؟ يا أخي، صهري متصلّب في رأيه، لم نترك أحداً من وجهاء البلد بمن فيهم المختار العم حنّا اصطيفو، واليوم حاول نقيب المعلّمين الأستاذ نعيم زيتون ولم نستطِع أن نقنعه!
يبدو أنّني سأدخل على الخطّ؛ كي أحسم هذا الأمر بشكلٍ نهائي، هل أنت قادر أستاذ صبري أن تحلَّ هذه المشكلة؟ معقول تشكّك في إمكانيّاتي يا أستاذ يوسف؟ لا يا أستاذ لا أشكِّك بإمكانيَّاتك ولكنَّ المشكلة أنَّ أخاك سليمان لا يقبل بالحل؛ لأنّني غائب عن الحل؛ لهذا فهو قلق على إعطاء أيّ حل؛ لأنّه من الممكن أن يستجدَّ عندي منعكسات صحّيّة معيّنة؛ عندها سيشعر أنّه ظلمني؛ لهذا عندما أتحدّث بنفسي وأمامه سيقتنع بكلامي، خاصَّة عندما يجد أنّني أخذت حقوقي أو حقوقنا؛ لأنّكم نسيتم أنّه أخي ويدافع عنِّي بطريقة شرسة فيقع بأخطاء في الحوار؛ لأنّه في حالة غضبيّة ولا يراوده إلّا الطّريقة الوحشيّة الَّتي تعرّضتُ لها، خاصَّة أنّه كان مشتركاً في الاشتباك المرير، وليس من السَّهل أن ينسى عيني الّتي تورّمت أمامه وما كنتُ أرى بها، وحتّى تاريخه لم يزرني، لأنّه لا يستطيع أن يراني في المستشفى، يعني ممكن أن تحلَّ المشكلة؟ بكلِّ تأكيد يا أستاذ يوسف، الله يسمع منّك يا أستاذ صبري! كيف ستحلُّ المشكلة؟ لا تقلق، سأضع الخطَّة وأشتغل عليها، ولا أستطيع أن أقول لك خطّتي الآن؛ لأنَّ لدي عدّة اقتراحات للحل، ولابد أن أنجح في النِّهاية؛ لأنّني صاحب القرار والكلمة في الحلّ النّهائي!
وهل تستطيع أن تقنع سليمان؟ بالتَّأكيد، إنّه أخي وأعرف كيف أقنعه وأحاوره! والله يا أستاذ صبري لو حلّيت هذه المشكلة الَّتي لم يحلها نقيب المعلّمين ومختار المخاتير العم حنا اصطيفو؛ فسأعدُّك محامي المحامين وقاضي القضاة! أيام معدودة وسترى كيف سأغلقُ الموضوع من جذوره. نظر إليّ الأستاذ يوسف والبسمة مرتسمة على وجهه، وقال: أملي فيك كبير يا أستاذ صبري؛ لأنّك رجل فكر وأدب وسلام!
ودّعني الصَّديق يوسف حنّا، ثمّ أعدَدْتُ العدّة لوضع مخطَّطاتي؛ لإغلاق هذه القضيّة؛ تفادياً من تفاقماتٍ أكبر؛ لأنّ السيّد أخي أغلق كلَّ منافذ الحوار؛ لأنّه على ما يبدو قلق علي، ولا يستطيع أن يتخيَّلني إلَّا مُدمى الرّأس ومتورّم العين، فكيف سيقبل الحوار وهذه الصُّورة ملتصقة في خياله إزاء كلّ حوار ونقاش يصدر منه؟ لهذا لابدَّ أن يراني بكامل قيافتي وصحَّتي؛ كي يقتنعَ منّي ومن الجميع أنَّ الصّلح هو طريقنا الأسلم في عناق الحياة، ولا حلَّ غيره على مرِّ الأزمان!