د. بهنام عطا الله
بهنام عطا الله
(كتبت هذه القصيدة بتاريخ 1 آب 2015 خلال زيارتي لبيروت الحضارة والثقافة والجمال، واليوم تذكرتها وكاد الحزن يمزقني بعد أن رأيت هذا الإنفجار المروع الذي دمر مرفأها وعماراتها الجميلة وشوارعها الزاخرة بالأمل وسرق جمالها وشبابها وبهاءها..
الرحمة للشهداء والشفاء العاجل للجرحى.)
تحاصرني المدينة بين زنزانات الروح
ومسارات الجراح
تتهاوى قائمة الشعر أمام هيبتها
يلامس وجهي آلهة الحرب
وشتات الساحات/ نصب الشهداء / ساحة النجمة/المتحف الوطني/ نصب الشهيد سمير قصير
حشداً من أغنيات فيروز الصباحية
وهي تهبط على قلبي كالرياح
تغسل أحﻻمي البيضاء
برذاذ البحر الأبيض المتوسط
أحﻻمي القديمة …
تلك المكدسة في أدراج الطفولة
وهيبة الأماكن الأزلية
أسماء ثملة ما زالت مؤثثة
في سواتر المخيلة
تشهد أيام حروب الطوائف
وجثث الموتى المعلبة بالتوابيت
هذه الأماكن ما زالت فاتحة ذراعيها
للقادمين من بلاد ما بين الحروب
* * *
فرن الشباك ينشد للبياض
يتناسل كأجراس الصباح
مثل حشرجات أميرة ناعمة
حينما تعانق شفتي
تحتضن بضعاً من أرغفة الخبز
ترنم تراتيل الغيم
تهطل مثل نهر يجري بأوردتي
أو مثل قبلة غافية أطبعها بوجه الوقت
صبيات يتموسقن ببياض الروح
يتعثرن ببقايا الكلام
* * *
سن الفيل
يتقطر عسلاً من شفة البحر
يشهق لتقويم قديم
يلقي بتغريداته مع الريح
يرواد مخيلتي المندثرة
منذ نشرات الأخبار البالية
المليئة بالحوادث والكوارث والحروب
أدحرجها أمامي
وأنا أتجه نحو كنيسة مار تقﻻ
حيث يفتتح الكون نوافذه
ليقص عن الماضي
حرارة اللقاء
شوقي المتناثر في كل إتجاه
البخور والترانيم الشجية
عند مقدمات الجبال
في دير مار أنطانيوس الكبير
حيث تلك المطبعة القديمة
التي سطرت مخطوطات وكتب سريانية
وفي مغارة المجانين
أعيد بعضا من جنوني الطفولي
ومشاكساتي القديمة
تفضحني دمعتي الحزينة
أجثوا…أتدثر
تحت أيقونة مار شربل
تتدلى من مسبحته أوردة السماء
في محبسه وأروقته المشعة بالبراءة
تلك التي تنشر منها رائحة الثلج
فوق تلك الروابي
نعم هكذا ألوذ بسيدة لبنان في حريصا
سيدة النجاة لكي تبارك وطني
وتوقف تلك الحروب المجنونة
الممتدة على طول السنوات
تحرسه من شر الظلام
* * *
مكتبة دير الشرفة
تجمع مخطوطاتها
تلملمها تحت جناحيها
تاهت أصابعي معها
في دواليب متزاحمة
مخطوطات
دوريات
كتب
صحف
هكذت هي بيروت منذ بدء التكوين
وهكذا هي بخديدا بعد عام
تحت وقع الظلام
بخديدا تنعس كل ليلة
تحت سقف القدر
تحلم بالبياض والأمان
يختفي النور بين أهداب الشر
يخبو مع أضوية الشوارع المتربة
وأنا المهجر قسراً
أحلم بذلك السهل الحزين
سهل نينوى
المتشظي والصابر من قسوة الغزاة
وحاملي رايات القهر
ظلام في ظلام
ليس سوى ظلام
لا بياض بعد الآن
فكل شيء أصبح سخاماً
وأضغاث أحلام
* * *
بيروت فراشة حالمة
تنط على حدائق الشرق
تاج هائم فوق الرؤوس
تلملم رحيقها بغبار الطلع
بيروت إمرأة دافئة
تعبث برمال الروشة البيضاء
تحط على كف البحر
متوسدة أمواجه الغافية
بيروت تموج برائحة التفاح الأحمر
تتسع لكل قوارب الكون وسفن المحيطات
تمنحني فرصة التفكير ومتعة القراءة
تلك التي تركتها منذ سنوات النزوح والتشرد
منذ هطول الشر على مداخل المدن الوديعة
إنها الريح تبتل بماء الرب
وعبق الرذاذ
عطر الروح
الريح نافذة تفتح رغوة للآتين
القاً يتناوب على قلوب المهجرين
بيروت…
تتحرك الكلمات أمامك
مثل رقعة شطرنج تائهة
على مساطب الريح
بيروت
1 آب 2015
* نشرت في مجموعتي الشعرية (مر الظلام من هنا) الصادرة عن وزارة الثقافة والشباب، المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية، اربيل، 2018.