سامي مروان مبيّض
مصر كانت ومنذ القدم متفوقة في صناعة الأبطال، الشعبيين منهم والرسميين، وآخر هؤلاء هو الدكتور الزاهد محمّد مشالي، أو “طبيب الغلابة،” الذي توفي منذ أيام قليلة. حقق شهرة واسعة لمعاينته الفقراء بأجور رمزية منذ عام 1975، وقد نعاه شيخ الأزهر وحاكم دبي، كما نعته طنطا والإسكندرية والقاهرة.
ونحن أيضاً في سورية كان عندنا الكثير من أطباء الغلابة، لم يحظوا بنفس الإهتمام العربي والعالمي، نذكر منهم الدكتور وجيه البارودي (1906-1996) والدكتور عبد السلام العجيلي (1918-2006). عُرف البارودي بشعره والعجيلي بأدبه، وكلاهما كان سباقاً في إفتتاح عيادة طبية في مدينته. افتتحت عيادة البارودي في حماة سنة 1932 والعجيلي في الرقة عام 1945.
كلاهما كان يعالج الفقراء من دون أي مقابل، ويقدمون العون المادي للمحتاجين من مرضاهم. كبار السن في الرقة وحماة يذكرون هؤلاء الأطباء جيداً، كيف كانوا يخرجون من بيوتهم في ساعات متأخرة من الليل، بالبرد والرعد، لزيارة المرضى في الأرياف وإجراء معاينات طبية وعمليات جراحية دقيقة، لا يتقاضون عليها الا الدعاء. طبعاً، كلاهما كان من عائلة ميسورة، مما سهّل عليهم فعل الخير، وكلاهما لُقب بأبو الفقراء في مدينته. وأخيراً، كلاهما كان يعمل الخير بصمت مُطبق، ولم تظهر أفعالهم الإنسانية إلى العلن إلا بعد وفاتهم.
وكلاهما أيضاً رفض مغادرة مدينته وظلّ يعمل فيها ومن أجلها حتى النهاية. الدكتور العجيلي وكما هو معروف جيداً تقلّد مناصب وزارية في زمن الإنفصال، مما أجبره على الٌاقامة مؤقتاً بدمشق، ولكنه تركها لكي يتفرغ للطب. فعرض عليه رئيس الجمهورية في حينها، الدكتور ناظم القدسي، منصب سفير سورية في فرنسا ولكنه رفض قائلاً: “لا أرغب أن أكون سفير في باريس بل في مدينة آخرى.” سأله القدسي مستغرباً: “أي مدينة تريد يا دكتور؟” فأجاب: “الرقة…أريد أن أبقى مع اهلي وناسي.”
عندما كان العجيلي والبارودي على مقاعد الدراسة، كانت الطبابة في سورية تُعرف بمهنة النبلاء، لا يمتهنها إلا أرفع الناس خُلقاً وأدباً وعِلماً. فإضافة لمهارتهم الطبية عرف عن هؤلاء براعتهم بالشعر والأدب، وكانوا محيطين بكافة علوم عصرهم. كان شرط القبول في كلية الطب بجامعة دمشق الحصول على شهادة حسن سلوك، إضافة لإثبات ملاءة مالية، او مصدر دخل إضافي، لكي يتمكن الطبيب من معاينة الفقراء والمحتاجين من دون أي مقابل مادي. فمجرد رد مريض لأنه لا يمتلك ثمن الدواء أو العلاج كان كافياً لتحطيم سمعته في سورية، مهما علي شأنه وذاع صيته بين الناس. وكان الجيل المؤسس من أطباء سورية يخصصون يومان في الأسبوع لمعاينة الفقراء مجاناً، وإجراء العمليات المجانية في المستشفى الوطني، المعروف أيضاً بمشفى الغرباء، ولم يُستثنى أحد من هذا العرف، حتى عمداء كلية الطب ورؤساء جامعة دمشق. وجميعهم تقدموا إلى مستوصفات الهلال الأحمر خلال حروب عام 1948-1973، وقدموا خبرتهم وعملهم للمصابين، من جنود ومدنيين، علماً أن الكثير منهم كان قد بلغ سن التقاعد.
وتغيرت الدنيا من يومها، وتغيرت سورية التي عرفها وأحبها العجيلي والبارودي. وصرنا نسمع أن الطبيب الفلاني هو “رحماني” لأن أجوره منطقية، علماً أن أجور الأطباء في زمن مضى كانت كلها “رحمانية،” وذلك بسبب أخلاق المهنة ومراقبة مديرية الصحة، التي تحولت في عام الجلاء إلى وزارة الصحة والإسعاف العام. ولو أفرج عن أرشيف تلك الوزارة (في حال ما زال موجوداً) لرأينا عدد كبير جداً من “أطباء الغلابة” في كل مدينة وقرية سورية، لا يختلفون ابداً عن طبيب مصر الراحل محمّد مشالي.