الحركي و البصري (الفن-)
حركي و بصري (فن)
Kinetic and optical art – Art cinétique et optique
الحركي والبصري (الفن-)
من الملائم التنويه أولاً بأن الحدود الفاصلة بين الفن البصري art-optique والفن الحركي art-cinetique حدود واهية إلى حد كبير، فكلاهما يحملان الإرث المشترك نفسه، والأهداف المتشابهة الواحدة، مع أن الفن الحركي قاد الفنان، عملياً، إلى هجران حدود التصوير الضيقة، في حين حمل الفن البصري الفنان على الاكتفاء بهذه الحدود، والعمل على إثرائها. ولابد من التنويه أيضاً بأن المصطلح «حركي» cinétique، الذي انتقل من المصطلحات العلمية المتعلقة بالطاقة، ودخل في مفردات الفن التشكيلي، لم يجر تداوله إلا بدافع التبسيط لغياب مصطلحات ملائمة من جهة، ولتقدم استخدام هذا اللفظ على المصطلحات المقترحة الأخرى من جهة ثانية، فالفن «البصري – الحركي» شكل من أشكال الفن التشكيلي المبني على طابع العمل الفني المتغير، حركته الفعلية (انظر الشكل-1- متحركات كالدر) أو الوهمية الكامنة (انظر الشكل-2).
الشكل (1) | الشكل (2) | |
مارسيل دوشان: غار يبزل السلم/متحركات كالدر | محرضات بصرية متنوعة | |
تطور الفن البصري والفن الحركي جنباً إلى جنب مع فن البوب[ر] إبان الستينيات، وربما كان كتاب «فرانك بوبر» من أفضل ما ألف حول هذا الموضوع. قسم بوبر ذلك النمط من الفن إلى ستة أصناف، سمى الأول «تحريضات بصرية تجريدية» أي الأعمال التي تثير عند المشاهد رد فعل نفسي – فيزيولوجي باستعمال الفنان رسوماً ذات تأثيرات متموجة تثير العين وتحيرها. والحقيقة أن أعمالاً على هذا المنوال هي وحدها التي يمكن تصنيفها أعمالاً بصرية خالصة. يلي ذلك الأعمال التي تتطلب، بطريقة أو بأخرى، تدخل المشاهد، إذ عليه وحده أن ينتقل في المكان لينشطها ويفعّلها. وتأتي في المقام الثالث الآلات الحقيقية، إضافة إلى «المتحركات» mobiles وهي تلك الأشياء التي لا تدور بفعل الآلة ولكنها تتحرك أو تدور من تلقاء ذاتها. أما الصنفان الآخران لبوبر فإنهما يحتويان الأعمال التي أدخلت الضوء والحركة، والأعمال الأكثر تجهيزاً، وهي تلك التي صيغت لتكون مشهداً أو بيئة أكثر من كونها أعمالاً مستقلة.
كان نعوم غابو وأخوه أنطوان بيفسنر[ر] السباقين في استخدام المصطلح «الفن الحركي» في بيانهما الواقعي عام 1920، وكان العمل الأول الموسوم بـ «الفن الحركي» من ابتكار غابو: «ساق متحركة من الفولاذ»، ومع ذلك فإن الفن الحركي لم يزدهر ويبلغ مداه إلابين عامي1950-1960. كما أن الجمهور لم يبد اهتماماً به إلا في ذلك التاريخ، ولم تكن ولادة ذلك الشكل من أشكال التعبير الفني إلا نتيجة مباشرة لتسارع التطور التقني والعلمي، وتخصيص كثير من فناني الطليعة قسطاً من أبحاثهم للتعبير عن الحركة كالمستقبليين[ر] وغيرهم من الفنانين.
الرواد
من الممكن تسجيل الأعمال المتحركة الأولى ذات البعدين، المنجزة بين عامي 1912-1925، والمرتبطة تمام الارتباط بالقضايا الجمالية التي أثارها غزو الآلة، في سياق أطروحات الدادائيين[ر] والبنائيين[ر] والروح العلمي، وكان الدادي مارسيل دوشان[ر] Duchamp أول من أدخل الحركة في العمل الفني، فاهتم بمظهر الحركة الآلي بوصفها موضوعاً، ليقترب بذلك من المستقبلية[ر] (لوحة: عار ينزل السلم)، وينجز تشكيلات تهدف بدورانها إلى خلق خداع بصري أو مكاني، وإلى دوشان هذا يعود استخدام التسمية «متحركات» التي أطلقها في معرض حديثه عن أعمال الفنان ألكساندر كالدر[ر] التي عرضت في كل من باريس ونيويورك في عام 1932. ومن المعتقد أن مسألة اللاوزن، كجزء من التقليد الحركي، تعود في نشأتها إلى كالدر الذي أثر تأثيراً طاغياً في فن زمانه. وقد ولدت فكرته في الأصل من «سيرك» للتسلية صنعه بنفسه، أبطاله من لعب رقيقة، لكن المتحركات ذاتها، بحوافها الزاهية والمتصلة بثوابت وأسلاك، تبدو كأنها استقت أفكارها من رسوم خوان ميرو[ر]، ولكن ترتيب الأشكال في متحركات الفنان كالدر كان عابراً، أي كلما تأرجحت إحدى الرقائق تولدت علاقة جديدة مع الأخريات. إن الاحتمالات التي تسببها الأشياء إنما تتحكم بها أمور أخرى مثل نقاط التوازن المتعددة، وطول الأسلاك، ووزن هذه الرقائق.
وانطلاقاً من روح وفكر مغايرين طوّر البنائيون الروس بوساطة تجاربهم التي أجروها على المكان، إمكانات الحركة بوصفها علامة بصرية للزمن، والحقيقة أن مفهوم الواقع ودراسته أديا الدور الأكبر عند هؤلاء الفنانين المتمرسين بـ «فن المختبرات». كتب غابو: «إن للنحت البنائي أبعاداً أربعة… ونحن نسعى إلى إدخال عنصر الزمن في العمل الفني، وبالزمن أعني الحركة والإيقاع».
وجدت الأفكار البنائية في الباوهاوس[ر] الألمانية تربة صالحة، مما جعل من أعمال تلك المدرسة الفنية السلف الثالث المباشر للفن الحركي الحالي، والحقيقة أن الحركة تحتل أهمية كبيرة في أبحاث مدرسة الباوهاوس المتنوعة، إذ بشرت تعاليمها إلى جانب تجاربها التشكيلية بقسط من اتجاهات الفن الحالية. وبعد إغلاق الباوهاوس أكملت جماعة من معلميها تجاربها وتعاليمها في البلاد التي استقبلتهم.
الحركة الكامنة: الفن البصري
الشكل (3) بريجيت رايلي: تيار |
تحتل الأعمال ذات الحركة الكامنة أو الظاهرة مكانها بين الساكن والمتحرك. وكان الهدف الرئيسي للفنانين البصريين إحداث شعور بحركة وهمية قصْراً بفعل تأثيرات بصرية، وغالباً ما كان هؤلاء الفنانون يضيفون إلى تلك التأثيرات حركة حقيقية، ومع ذلك فمن الممكن أن نعدها أعمالاً بصرية، تلك الأعمال ذات البعدين التي تستثير بوساطة ظواهر بصرية محددة شعوراً بعدم استقرار الرؤية، مما يعني أن الحيز أو المكان التشكيلي ليس حيزاً مسلماً به أو واقعاً مفروضاً، وإنما هو كمون خلق لا ينضب.
إن من بين أكثر الظواهر البصرية استخداماً هي تلك البنيات أو التركيبات structures المتناوبة، والحركة المطردة، وتأثيرات التوهج والانتشار، والتأثير المتموج، وتضادات الألوان المتزامنة والمتوالية، ومزيجها البصري. تلك هي المحرضات البصرية التي تستجيب لها العين آلياً. ومن الممكن، إضافة إلى تأثير الحركة، استثارة الشعور بالضيق جراء عجز العين عن تثبيت المكان الوهمي الذي توحي به الحركة: السطح يتقدم ويتقهقر فيصير ملتبساً وبمنأى عن الحصر، ومدوِّماً وومّاضاً يصعب تحديده، فيصطبغ بألوان تولدها تفاعلات الشبكية.
إن تنظيم السطح، بوساطة مفردات من أشكال formes محددة ومستعارة من التجريد الهندسي، منوط بعلاقات قائمة بين العناصر دقيقة ومضبوطة، واختيار السلَّم الملائم (سلم الألوان أو اللونين الأسود والأبيض وغيرهما) هو عامل حاسم في حدة التأثير. وإن لفي تناوب الأبيض والأسود، وفق طرائق محكمة ودقيقة، الوسيلة الرئيسة المستخدمة للحصول على تأثير غير مستقر للسطح «بريجيت رايلي – تيار» وقد نُوِّه بأهمية هذه الغاية في المعرض الذي أقيم في نيويورك في عام1965 تحت عنوان «العين المستجيبة the Responsive Eye».
الرائدان فازاريلي وسوتو
كان فازاريلي[ر] من أوائل الرواد الذين استخدموا ظواهر اللون البصرية، ففي عام1932 أنجز أول أعماله البصرية: رسوم هندسية للطباعة على القماش، وفي وقت لاحق أنجز دراسات تصويرية (موضوعية) خطية قادته إلى استخدام الحركة الكامنة، والرسوم المكبرة باستخدام التصوير الضوئي، أكدت له سلطة الآلة بوصفها مساعداً للفن. وانطلاقاً من عناصر بسيطة يدعوها «أشكالاً – ملونة» استعمل التكرار المتسلسل والمتناوب لخلق «تشكيل متحرك»، وفيه يرتبط مفهوم الحركة على الدوام بالإيهام بحيز غير مستقر. وفي سلسلة من كتاباته، ولاسيما البيان الأصفر، أوضح قناعاته حول قيمة الفن الاجتماعية، ومشاركة الجمهور الفعالة، والحاجة إلى تكاثر الأثر الفني وتكراره صناعياً، فكان لأقواله تلك أكبر الأثر في الفنانين الشباب أصحاب «الاتجاه الجديد» إذ يقول: «نحن لا نستطيع حقاً أن نترك العمل الفني لنخبة من الخبراء الجهابذة. إن فن الحاضر يتجه نحو أشكال سخية لا تنضب، أشكال قابلة للتكرار باستمرار، فإما أن يكون فن المستقبل كنزاً يتقاسمه الجميع أو لا يكون. إن شرطنا ووضعنا قد تغيرا، فعلى أخلاقنا وجمالياتنا أن تتغير هي أيضاً». ولقد كشف الفنان والباحث أسعد عرابي الأصول التي استقى منها فازاريلي: «… ثم توصل فازاريلي ابتداء من منظور المنمنمات الإسلامية وبعض طرز الخط العربي مثل الكوفي المربع وبعض نماذج الخط المملوكي والديواني والطغراءات…إلى فراغ لا تدرك فيه حدود الأطروحة بعكسها، وهو ما سمي فيما بعد ب «الحركي البصري»، ومثال على ذلك جلد حمار الوحش الذي استقى منه المسلمون البصريات الملتبسة، إذ أعاد فازاريلي إنشاءه، وصور بمراحل مديدة حمار الوحش، ثم اقتصر على خطوط جلده، كما فعل الفنانون المسلمون سابقاً، ليصل إلى لعبة بصرية إدراكية مفادها البسيط أن الفاصل بين خطين ينقلب من فراغ إلى امتلاء بعتبة بصرية محسوبة رياضياً».
الشكل(4) فازاريلي: حمار الوحش، 1938 حبر | الشكل(5) Vica-wa |
الشكل (6) سوتو: اهتزاز |
أما الفنان سوتو ذو الأصل الفنزويلي، فقد كان هدفه المبدئي أن «يُفعِّل» dynamiser تكوينات الفنانين الجدد «بتكراره للمربع إلى ما لانهاية، لينتهي هذا التكرار بتواري المربع واختفائه، فينتج عن ذلك حركة خالصة» ففي أوائل الخمسينات أنجز رسوماً تحقق تأثيرها بتكرار وحدات توضع بطريقة تجعل الإيقاع الذي يصل بينها أكثر أهمية للعين من أي جزء بمفرده، لذلك فإن الصورة لا تؤلف شيئاً متكاملاً بحد ذاتها، بل هي جزء مأخوذ من نسيج واسع لا حدود له ينبغي على المشاهد تخيله. إن أكثر أعمال سوتو لفتاً للانتباه هي الشبكات الكبيرة من العصي المعلقة على طول الجدار بطريقة تبدو فيها هذه الطبقات من العصي وكأنها تلغي جانب الغرفة كله، فتثير في المشاهد ردود فعل غريزية إزاء فضاء منغلق.
كانت دراسة ظواهر الحركة النفسية الفيزيولوجية عموماً الشغل الشاغل لفناني الاتجاه الجديد، ذلك الاسم الذي تبناه الفنانون ليكون عنوان المعرض العالمي في زغرب عام 1961، والذي حقق جملة من المفهومات والأمنيات المشتركة، فتجاوز بذلك برنامجاً محدداً أو حركة فنية بعينها، وبلور الأفكار التي أوحت، في سنوات سابقة، بتشكيل جماعات من الفنانين في باريس مثل «جماعة البحث الفني البصري»، ودفع الفنانين إلى إقامة معارض مهمة سجلت بداية الاهتمام الجماهيري الواسع بظاهرة الفن الحركي.
الآلات
كان الفنان البلجيكي بول بوري Pol Bury واحداً من الأوائل الذين استخدموا المحركات الكهربائية في تجاربهم التشكيلية، وكانت أعماله تتبع إيقاعاً غير متوقع في «زمن متمدد» بوساطة حركات بطيئة إلى أقصى الحدود «مُغفلة، وصامتة، وفوق طبيعية»، وهي تشكيلات من المطاط أو النايلون والألواح الخشبية، ومن القضبان أو الكرات المعدنية، تقدم للمشاهد تنظيماً تشكيلياً. تتعارض تشكيلات بوري بحدة مع آلات الفنان السويسري جان تانغلي الذي أبرز ما في الآلة من سحر وسلطان، وما يتحلى به هو من روح النقد والتهكم وقوة الابتكار عبر تشكيلاته العبثية التي يلعب الصوت فيها دوراً مهماً في العلاقات بين مختلف حركات كل أثر فني. ومع آلاته من الخردة وما يلتقطه من سقط المتاع توصل تانغلي إلى ابتكارات تزداد ضخامة ووقعاً مع الأيام.
الأعمال الحركية الضوئية
الشكل(7) شوفر: منحوتات مكانية – ديناميكية |
يعيد سعي الفنان نيكولاس شوفر إلى الأذهان تجارب موهولي ناغي، ويقترح في الوقت نفسه، تجديد مختلف التجارب الضوئية الحركية التي أنجزت في عام 1920. وإلى جانب شوفر جرب كثير من الفنانين، الأمريكيين خاصة، «الأضواء – الحركية» مطورين تقانات مستحدثة: لوحات ضوئية متحركة، مواشير ودارات فيديو، وأنابيب معبأة ببخار الصوديوم واليود والزئبق، وأنظمة، بسيطة أو معقدة، لتعديل مصادر الضوء وتغيير مساره، والحصول على احتمالات لا حدود لها لمركبي «الضوء والحركة»: بدءاً من التشكيلات الضوئية الثلاثية الأبعاد، وانتهاء بأعمال البيئة environnement والأعمال المشهدية، مروراً بالنواتئ reliefs ومعلقات المعادن العاكسة، وتأثيرات التصوير الضوئي الفوري، والهولوغرافي holography (التصوير بإشعاعات الليزر)، والزجاجات البصرية المتحركة.
حركية العناصر الطبيعية
الشكل (8) تاكيس: حقول مغنطيسية |
استثمر فنانو الحركة طاقة التعبير الطبيعية الحركية، المراقبة وغير المراقبة، بصورة مغايرة، فلقد أوحى مبدأ المتحركات التي يحركها الهواء، لجورج ريكي، بتشكيلات فولاذية لا تصدأ تتجلى في المكان بحركات مديدة، شبيهة بحركات الملاحة الجوية، في حين طبعت مواد مثل زجاج الأمان والألمنيوم واللدائن متحركات لي بارك المعلقة بطابع غير مادي.
يدفع الماء، وقد اتخذ شكل قطرات مكثفة، الضوء إلى اللعب داخل مجسمات من زجاج الأمان (ليليان لاين). واستثمر فاسيلاكيس تاكيس الديناميكية الخفية للطبيعة، بإدخاله القوة المغنطيسية في الأعمال النحتية. كان هدف هذا الفنان اليوناني إبراز قوة المغنطيس غير المرئية عبر الحركة التي تبعث الحياة في تشكيلات من الحديد والفولاذ.
رسم الفن الحركي مع هذه الإمكانات وثرائها توجهات عالمنا العامة في عالم الإبداع، فبوساطته خرجت الفنون المفتونة بديناميكية العالم المعاصر من عزلتها النسبية لتلتقي مع مباحث العلم والتكنولوجية.
يسعى فن الحركة إلى استقطاب جمهور تتضاعف أعداده يوماً بعد يوم، ويعمل على تنشيط العمارة بابتكاره الأعمال البيئية والمشهدية spectacles. إنه فن يتوجه إلى العين التي تبصر، واليد التي تتدخل، والمشاهد الذي يشارك، من دون أن يقتصر في توجهه على جماعة من المجربين أصحاب الامتياز، لاسيما أن تحقيق أثر حركي غالباً ما يستوجب عملاً جماعياً يقوم به فريق كامل، فكلما اعترضت الفنان قضايا ومشكلات تتجاوز حدود الجمالية الخالصة إلى حد بعيد يزداد اندماجه في الواقع الاجتماعي.
فمن البديهي أن يصير مفهوم الفراغ، المتوارث من عصر النهضة، والقائم على إدراك عالم مرئي توحده أنظمة علم المنظور التقليدي، مفهوماً قاصراً وعاجزاً عن تلبية متطلبات العصر الحالي، وعليه فإن إدراك معطيات الواقع المتجددة على الدوام بالعلوم والتقنية تتطلب من الإنسان تطوراً ديناميكياً: فالنسبية اكتشفها الفن كما اكتشفها العلم تماماً، وهذا ما دفع فريقاً من المبتكرين المدركين للحاجات الجمالية الجديدة إلى استخدام الحركة وسيلة من وسائل التعبير في تجاربهم في الحيز (المكان والفراغ) التشكيلي المرتبط بالزمن.
فائق دحدوح