لكي لا يبدو ما أكتبه في هذه المقالة مجرد تنظير، فقد اخترت تجربة فوتوغرافية جد متميزة تمثلها عدسة الفنان هيثم فتح الله، إذ أتيح لي أن أتابع إنجازه الفوتوغرافي منذ بداياته.
من المعروف أن أحد مسوغات التحول التشكيلي ومآلاته في الحداثة التشكيلية، بكل مدارسها ومختلف تجاربها، حيث كان تجاوز اللوحة الواقعية، هو ظهور الكاميرا التي صارت تنتج رسما شديد الواقعية، لكن بمرور الوقت، صارت الصورة الفوتوغرافية تنحو منحى الحداثة التشكيلية وتفيد منها، ولكي لا يبدو ما أكتبه في هذه المقالة مجرد تنظير، فقد اخترت تجربة فوتوغرافية جد متميزة تمثلها عدسة الفنان هيثم فتح الله، إذ أتيح لي أن أتابع إنجازه الفوتوغرافي منذ بداياته، بتأثير علاقة إخاء جمعتني بوالده الراحل فتح الله عزيزة الذي كانت له يد بيضاء في تطوير الطباعة في العراق وبخاصة على صعيد صناعة الكتاب.
لقد حدثني هيثم فتح الله عن بداية علاقته بالتصوير الفوتوغرافي، يوم شاهد صورة “بائعة اللبن الرائب” بعدسة الفنان حازم باك، وهي تحمل عشرة أطباق خشبية في نسق واحد، وتبدو السعادة على ملامحها، رغم معاناتها.
بعدها صار ينتبه إلى أيّ صورة يراها، فيتأملها محاولا اكتشاف مضمونها وجمالياتها، وإن بدأ يمارس التصوير بكاميرا متواضعة، غير أنه أفاد من متابعة مجلات فوتوغرافية عالمية، إذ حرص على الاشتراك في عدد من هذه المجلات الشهرية أو الدورية، وعلى هذا الصعيد ولإغناء معارفه النظرية اقتنى إنسكلوبيديا التصوير الفوتوغرافي التي أصدرتها شركة “كوداك” العالمية في أربعة عشر مجلدا، وأفاد كذلك من عمله في التصوير الطباعي بمطابع العائلة ومن دراسته الأكاديمية في الفيزياء وبخاصة موضوع الضوء وتأثيراته ومما نال من معرفة في الكيمياء وكيفية التعامل مع مواد غسيل الأفلام وإظهار الصورة.
وبهذه المقومات؛ الموهبة والاستعداد والثقافة النظرية والممارسة العملية، كان مشروع هيثم فتح الله الفوتوغرافي، فقد أقام خلال مسيرته الغنية سبعة معارض شخصية، اطّلعت على ثلاثة منها في بغداد وعمان، كان الأول في العام 1985 وكانت الصور بالأبيض والأسود، غير أنه ومنذ معرضه الثاني صار يعتمد اللون ويتلاعب به باستعمال ما توفر له من التقنيات الحديثة، من أجل تحقيق جمالية الصورة، ووصل في تحولاته هذه إلى أن تكون اللوحة الفوتوغرافية، تجريدية حيث وظف معارفه في الفيزياء والكيمياء، وفي هذه المرحلة تحديدا، كانت الصورة التي تظهر بكل هذه المقومات التي أشرنا إليها أقرب إلى اللوحة التشكيلية في جمالياتها، حتى كأنه استبدل عدسة الكاميرا بريشة الرسام فتحركت على سطح اللوحة بحثا عن متغيرات لونية ومكونات جمالية، لذا حين وقفت أمام لوحاته في معرضه الأخير بعمان، كان إحساسي قد قادني إلى أنني في معرض تشكيلي ولم أكن أمام صور فوتوغرافية، حددت مواصفاتها قدرات العدسة وكفاءة الغرفة المظلمة.
وحين سألته عما توصل إليه، في لوحاته تلك أجابني: لقد حققت هذا بتأثير منجزات الفن التشكيلي، وهذا التأثير يبدو واضحا، فقد كنت أدرك في جميع خطوات عملي ومفرداته بأنها محاولات لنقل الفوتوغراف من حيز الحرفة إلى عمل إبداعي، في مصاف الفنون التشكيلية، ولأنني كنت قد أتقنت استخدام اللون ومزج الأحبار في مطبعة والدي، مما جعلني عاشقا للون وتدرّجاته مستفيدا من التقنيات الحديثة، وهو ما أضاف بعدا آخر إلى اللون في اللوحة.
وهنا أتساءل، إنْ كان ما وصلت إليه تجربة هيثم فتح الله الفوتوغرافية قد حرمته من الانتساب إلى الصورة الفوتوغرافية بتاريخها وتوصيلاتها ودورها، وأصبحت مجرد صفحة من صفحات العمل التشكيلي؟ أم إنها باتت حلقة وسطى بين الفوتوغراف والتشكيل؟
وإن كان لا بدّ من إجابة عن هذا التساؤل، فالإجابة تأتي من مآلات تجربة هذا الفنان المجدد والمجتهد حيث ما زالت تتواصل متسمة بحيوية البحث والإضافة، ومن أتيح له الاطّلاع على مسار هذه التجربة، يدرك أن أيّ إجابة لن تكون نهائية ما دام الفنان في حيوية تحولاته.