تطوان: “بنت غرناطة” الحاضنة للحضارة الأندلسية بالمغرب
ورقة بحثية / د محمد الشريف
تمثل مدينة تطوان نموذجاً متميزاً للمدينة الإسلامية ذات الطّابع الأندلسي الخاص، وتعتبر نموذجاً للحضور الأندلسي بالمغرب بسبب احتفاظها بالإرْث الأندلسي الذي يبدو واضحاً في معالمها التاريخيّة وفي عاداتها وتقاليدها، وفي ألقاب أسَرها الأندلسيّة، وفي مختلف مظاهر حضارتها، من موسيقى وطبخ ولباس وصنائع … إذ ما زالت المدينة تحتفظ بفنّ المعمار الأندلسي داخل جدْرانها، ومازال سكان تطوان يحتفظون باللهجة الشّعبية، وبالموسيقى الأندلسيّة، وبالطّرْز، وبالصناعة التقليدية :إنها تشبه إلى حدّ كبير غرناطة في أزقّتها وطريقة بنائها، حتى نعتَها الفقيه محمد داود، مؤرخ تطوان، بكونها «نُسخة من أخريات المدن الإسلامية العربية في بلاد الأندلس»، والحاضنة للحضارة الإسلامية الأندلسيّة حيّة فوق أرض المغرب.
وقبل تفصيل القول في مظاهر هذا التأثير الحضاري، يجدر بنا التذكير بالترابط الكبير بين المغرب والأندلس منذ العصور القديمة، ترابط وصل حد الانصهار في الفترة الإسلامية، حتى أنه لا يمكن فصْل تاريخ المغرب عن تاريخ الأندلس، والعكس بالعكس.
يقول الأستاذ محمد بن شريفة: «إن الصّلات بين المغرب الأقصى والأندلس قديمة ترقى إلى التاريخ القديم، و هي صلات فرضتها طبيعة الجوار وأملتها المعطيات الجغرافية… فمن المعروف أن الأندلس بعد فترة الطوائف قد اندمجت في الإمبراطورية المرابطيّة والموحديّة، أي خلال أكثر من ثلاثة قرون، كما أن دولة بني نصْر في مملكة غرناطة لم يكن لها أن تكون لولا بنو مَرين.
وقد كان لهذا الاندماج آثار لا تُحْصى ولا تُعدّ في الأندلس والمغرب، وتم تفاعل كبير بين البلديْن والشعبيْن في مختلف المجالات، وكثُرَ التزاور والتنقل بين العدوتيْن، ووقعت هجرات متعدّدة مع تغيّر في ناموس الهجرة، إذ أن اتجاه الهجرة أصبح من الأندلس إلى المغرب بعد أن كانت الهجرة في القرون الأولى تتّجه من المغرب إلى الأندلس. ويمكن تكوين فكرة عن هذه الهجرات من تتبّع الأعداد الهائلة من العلماء الأندلسيين الذين انتقلوا إلى مراكش وفاس وغيرهما، وذلك من خلال كتب التّراجم، وظلّت وتيرة الهجرة من الأندلس إلى المغرب في تزايد إلى أن بلغت نهايتها القصوى بعد جلاء المسلمين من الفردوس المفقود».
«وقد ظهر أثر ذلك كلّه في النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية سواء في الأندلس أو في المغرب، وما زلنا في المغرب إلى يومنا هذا نلحظ مظاهر ذلك التّواصل الذي كان بين المغرب والأندلس رغم مرور قرون على نهاية الأندلس. وما تزال آثار ماديّة ومعنويّة مغربيّة في إسبانيا إلى اليوم شاهدة على الوجود المغربي الذي كان هناك… وما يزال كذلك تراث الأندلس محفوظاً ومستمراً في المغرب، تمثّله الأسَر الأندلسيّة الأصل في عددٍ من الحواضر والقرى، ونراه في العمارة والموسيقى والطبخ وغيرهما من رقائق الحضارة، وقد امتزج هذا التراث الأندلسي بالتراث المغربي فأصبحا تراثاً مركباً تركيباً مزجياً. وأما تفاعل المغرب والأندلس في مجال العلوم والآداب فحدّثْ عن البحر ولا حرج».
والواقع أن جذور الإرث الأندلسي في المغرب عميقة إلى درجة أنها شكّلت وما زالت تشكل عنصراً أو عضواً لا يتجزأ من النسيج الثقافي والاجتماعي المغربي، كما أن عُمق التحام العنصر الأندلسي بالحياة اليومية المغربية وصلَ إلى درجة كبيرة من الانسجام، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي، حتى إنه انعكس وما يزال ينعكس في سلوك المغاربة وعقليّتهم ووعيهم، وانعكس كذلك في ذاكرتهم الجماعية إلى درجة أنه لا يمكن تحديد الهويّة المغربية وفهمها فهماً عميقاً بدون اعتبار العنصر الأندلسي.
لقد أثّر هذا التمازج التاريخي بين المغرب والأندلس على جميع مناحي الحياة، فاختلط ما هو مغربي بما هو أندلسي، فأعطيا مزيجا حضاريا فريداً صبغ المظاهر التقليدية للمغرب بصبغة خاصة وغنيّة، سواء في فنّ العمارة والفلاحة والصناعة، أو في اللباس وفي الطبيخ والموسيقى والحدائق، أو في تصاميم البيوت وطريقة النطق.
وعلى ضوء هذا التاريخ المغربي الأندلسي المشترك والمتداخل، لا يمكن اليوم تجاهل الصبغة الأندلسية للمغرب أو المكوّن الأندلسي في الهويّة المغربيّة. فقد حمل الأندلسيون النازحون إلى المغرب معهم أنماط عيش وثقافة، ما زال من الممكن إلى يومنا هذا، تعريفها وإعادتها إلى الأذهان.
وإذا كانت هذه التعميمات تنطبق على الواقع المغربي عموماً، فإنها لا تخصّ بعض المناطق المغربية؛ مثل سوس أو الأطلس الكبير، كما أنها لا تنطبق إلا جزئيا على مناطق أخرى يميّزها رصيد ثقافي غني ومتنوّع بسبب احتكاكها بثقافات مجاورة، مثل الثقافة الإفريقية السودانية؛ ومع هذا، هناك مناطق كثيرة كان التأثير الأندلسي فيها عميقا للغاية، نذكر منها على وجه الخصوص المدن التقليدية مثل: الرباط وسلا ومكناس وفاس وتطوان والشاون والقصر الكبير.
ويبرز تأثير الأندلس من خلال آثاره في المغرب بشكل واضح ليس في المُدن فقط، بل حتى في البوادي وخاصة في قرى ومداشر جبال الشمال الغربي للمغرب، وما زال الإرث الأندلسي حياً في المحيط الاجتماعي والثقافي بكثير من مناطق جبالة وغمارة. فعلى سبيل المثال يمكن اعتبار قبائل أنجرة بشمال المغرب أكثر تمثيلا لما كان عليه المجتمع الريفي الأندلسي، نظراً لكون الأمر يتعلّق بمجتمع من أصل أندلسي، استطاع أن يحافظ على ملامحه الأصيلة على بعد قد لا يتجاوز 20 كيلو مترا من الجزيرة الإيبيرية، وانغلقَ على نفسه، فاستطاع بذلك أن يحافظ على عددٍ من التقاليد الأندلسية الريفية والحضرية دون أن يمسّها بتغيير.
ومع ذلك فلا يمكن تقييم التأثير الأندلسي في المغرب في عمقه إلا إذا حصرنا دراستنا في منطقة محددة. ومن هنا جاء اختيارنا لمدينة تطوان كمثال مجسّد لهذا التأثير، إذ يمكن اعتبار مدينة تطوان مدينة مغربية- أندلسية نموذجية في هذا الصدد، إنها مغربية بموقعها الجغرافي وبارتباطها السياسي بالحكم المركزي المغربي عبر القرون، وبضمّها لعدد من العناصر البشرية المغربية مثل: العنصر الجبلي أو العنصر الريفي، أو العنصر الفاسي، إلا أنها تأثرت أيضا بالعنصر الأندلسي على مستويات متعددة. لقد أعاد بناءها المجاهد الغرناطي “سيدي المنظري” وجماعة من المجاهدين الغرناطيين في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. ومنذ ذلك الوقت اتخذت تطوان اتجاها أندلسيا على الصعيد الاجتماعي والثقافي والفكري، كما أنها حافظت على هذا الطابع عبر القرون، وما زالت محتفظة به إلى يومنا.
وسنقسم هذه الدراسة على قسمين، يتناول أولهما التأثير الأندلسي في الميدان العمراني والمعماري للمدينة، ويستعرض الثاني عناصر الثقافة الأندلسية بتطوان من لباس وطبخ وموسيقى ولغة وعادات وتقاليد وفنون…إلخ.
أولاً: التأثير الأندلسي في الميدان العمراني والمعماري:
– الأندلسيون يعيدون الحياة لتطوان
يرجع تأسيس مدينة تطوان إلى ما قبل ظهور الإسلام، بدليل الآثار التي عثر عليها فيها وفي نواحيها (تمودة). أما في العصر الإسلامي، فإن أقدم مصدر ورد فيه ذكر مدينة تطوان هو كتاب “المسالك والممالك” لأبي عبيد الله البكري المتوفى سنة 487 ﻫ/ 1094 م، الذي يؤكد وجود تطوان في عهد الأدارسة، حينما أصبحت، هي وطنجة وسبتة والبصرة، من حظ الأمير قاسم بن ادريس الثاني، تبعا لقسمة البلاد التي أجراها محمد بن ادريس سنة 213 ﻫ على إخوته، بناء على نصيحة جدته كنزة.
وقد مرت على تطوان أطوار تاريخية ترددت فيها بين العمارة والخراب. وقع آخر تخريب لها على يد البرتغاليين المحتلين لمدينة سبتة – كما يُرَجح – سنة 841 ﻫ/ 1437 م، وبقيت خالية حوالي نصف قرن إلى أن قام بإعادة بنائها الأندلسييون الغرناطيون الذين وفدوا عليها من غرناطة سنة 888 ﻫ/ 1484 م، (أو 889 ﻫ/ 1485 م)، أي قبل سقوط غرناطة بثمان سنوات على الأقل. ويذهب بعض المهتمين بتاريخ المدينة إلى أن هذا التجديد الأول للمدينة الذي شمل قصبة المدينة المرينية التي بناها يوسف بن يعقوب المريني، وأفراك الذي أنشأه أبو ثابت المريني، قد تمّ على يد أمير شفشاون علي بن راشد العلمي. أما التجديد الثاني والأهم لمدينة تطوان فقد كان على يد أبي الحسن علي المنظري الغرناطي، وذلك بعد سقوط غرناطة، أي في شهر شعبان عام 898 ﻫ/ يونيو 1493 م، بعد حصوله على موافقة السلطان محمد الوطاسي، وبقرض من خزينة أوقاف جامع القرويين بفاس.
فمدينة تطوان العتيقة الموجودة الآن بتقسيماتها وأزقتها ومنعرجاتها، هي من بناء مهاجري الأندلس في أواخر القرن التاسع الهجري على أنقاض تطوان القديمة. فهي “بنت غرناطة” التي ستصبح مغرس الحضارة الأندلسية بالمغرب.
فإذا كان الشروع في تجديد بناء تطوان يرتبط بوصول الأفواج الأولى من المهاجرين الأندلسيين إلى تطوان، قبل مجيء علي المنظري، فإن إعادة تأسيس المدينة بطابعها الغرناطي الخالص في نهاية القرن الخامس عشر، قد تم على يد “سيدي المنظرى” الغرناطى، قائد قلعة بينيارPiñar في مملكة بني نصر، وثلة من الفرسان المهاجرين الغرناطيين، وكان هذا التجديد هي أولى ثمار الهجرة الأندلسية إلى المغرب. فقد كانت هجرة الغرناطيين إلى تطوان السبب والضامن الرئيسي في الوقت نفسه لتطورها واستمرارها. ولقد أبرز عدد من الباحثين هذا الطابع الغرناطي الخالص الذي تمتعت به مدينة تطوان منذ إعادة تأسيسها. وفي فترة وجيزة تحولت تطوان إلى “مدينة أندلسية داخل التراب المغربي” بفضل الوفود الأندلسية التي استقبلتها تباعا. إن تدفق المهاجرين الذي كان يتزايد كلما أشرفت حرب غرناطة على نهايتها جعل من تطوان مدينة غرناطية محضة.
وشكل سقوط غرناطة في يد قشتالة سنة 897 ﻫ/ 1492 م مرحلة جديدة في تعمير تطوان وترميمها بل وتوسيعها، وذلك نتيجة ارتفاع وتيرة الأعداد القادمة من الأندلس إليها. فقد تمكنت عمارة تطوان من النهوض والانتشار بوتيرة لم يسبق لها مثيل في الماضي على يد المهاجرين الأندلسيين. وانتقلت المدينة إلى مرحلة جديدة لما نزل بها الأندلسيون الذين أعادوا ترميم مدينة تطوان المرينية (القصبة وأفراك)، قبل أن يبدأ المنظري في بناء حومة جديدة متصلة بهما عرفت بـ”حومة البلد” سنة 888 ﻫ/ 1483 م. وهي «المدينة الأصلية التي جدد بناءها مهاجرو الأندلس»، والواقعة في الشمال الشرقي للمدينة.
وكان المهاجرون الذين بنوا دورهم في ذلك العهد يجعلون بجانب بيوتهم حدائق – على غرار الغرناطيين -، غير أن المدينة سرعان ما عرفت وفود أعداد مهمة من المهاجرين من الأندلس ومن مناطق مغربية أخرى، فبنيت الحدائق وضاقت حومة البلد عن استيعاب المزيد، وبرزت الحاجة ملحة لتوسيع عملية البناء وبناء الأرباض.
– الهجرات الأندلسية ونمو أرباض الأندلسيين
كانت المدينة المنظرية قد استوفت أهم شروطها العمرانية والحربية والأمنية سنة 898 ﻫ/ 1492 م، وهو التاريخ المحدد لظهور “حومة البلد”، وهي المدينة التي اشتركت في بنائها العناصر الأندلسية وأحيطت بسور جديد، فنزلها الغرناطيون، وبصفة خاصة أولئك الذين غادروا مدينتهم في ظروف آمنة ومناسبة بين سنة 896 ﻫ/ 1490 م إلى 898 ﻫ/ 1492 م، في حين استمر توسع المدينة خارج تلك الحومة مع توافد الهجرات طيلة القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر الميلادي. وفي ذلك يقول عبد السلام السكيرج (توفي 1250 ﻫ): «تمكن المؤسس سيدي المنظري من الاستعانة في إعادة بناء مدينة تطوان على الخبرة الأندلسية التي حملها معهم أتباعه من الأندلس، وكذلك الأسرى المسيحيون الذين كان يأسرهم في هجوماته على مراكبهم، ويستعملهم في عملية البناء».
كان المهاجرون الأندلسيون إلى تطوان قد بنوا فعلا مدينة جديدة، بينما استقر المهاجرون الآخرون الذين قدموا مدنا أخرى من المغرب، كفاس وسلا والشاون، في أحياء خاصة، سُميت بعد ذلك بالأحياء الأندلسية، كحي ريف الأندلس في الشاون مثلا، ولم تعرف تطوان هذه الحالة بحيث لم يوجد فيها حي خاص بالأندلسيين، وهو ما يدعم الرأي القائل بأنه لم يكن هناك سكان سبق وجودهم بناء المدينة الجديدة، «فتطوان أندلسية بكل معنى الكلمة، وجوهرها الحضاري أندلسي محض». ولا زالت المدينة العتيقة في تطوان تحتفظ دائما بالملامح الرئيسية للمدينة التي أسسها سيدي المنظري الغرناطي.
وقد شرع في بناء الأرباض كمرحلة ثانية من توسع المدينة نتيجة نزوح أفواج جديدة بالمدينة، وهي عبارة عن حومات بناها الأندلسيون خارج المدينة المنظرية، في مواقع مجاورة لها، وأولها، الربض الأسفل، الذي أقيم بجانب حومة البلد، والربض الأعلى، في الجزء الشمالي من حومة البلد الذي أقيم في عهد من خلف المنظري الأول، وشمل السوق الفوقي وحومة المقدم.
لقد كان للمهجّرين المورسكيين في بداية القرن السابع عشر دور كبير في توسع تطوان وفي الأهمية التي أصبحت تكتسيها. وابتداء من 1609 م، وهو التاريخ الذي اتخذ فيه الملك الإسباني ﻓﻴﻠﻴﺒﻲ الثالث قرار طرد المورسكيين، وصلت إلى المدينة موجات جديدة من اللاجئين، فقد استقر في تطوان حوالي عشرة آلاف مورسكي، وربما بلغ عدد من استقر منهم في هذه الناحية أربعون ألفا، وبلغ عدد السكان الإجمالي في منتصف القرن ما بين اثنتين وعشرين وستة وعشرين ألف نسمة، وهو عدد مهم بالنسبة لهذه الفترة. وسيظل هذا العدد ثابتا تقريبا إلى غاية الانفجار الديموغرافي الذي عرفه القرن العشرون.
أدت هذه الزيادة في عدد السكان إلى اتساع المدينة التي تضاعفت مساحتها أربع مرات لتصل إلى حجم المدينة المحصنة الحالية، وأجبرتها طبوغرافيا الموضع السكان على بناء حيّين جديدين غرب وشرق المدينة الأصلية (البلد الحالي) وكان أحد هذين الحيّين في الغرب، وهو حيّ العيون، يُعرف في ذلك العهد باسم ربض الأندلسيين وأعلاه يسمى بالسانية. أما الحي الآخر، الطرنكات، فهو يحمل اسما غير مألوف، ربما من أصل إسباني قشتالي. ويبدو تصميم الحي، وهو مثمن الأضلع بعض الشيء، على أن مورسكيي عصر النهضة الإسبانية قد أدخلوا معهم مفهوم التصميم المدني الأمثل الذي يتعارض تماما مع النمو المُرسل لحي “البلد” ومدن العصر الوسيط الإسبانية الأخرى، وتمثل الرباط بدورها نموذجا للتصميم المثمّن الأضلع المورسكي، وهو نموذج أقرب للأصل.
وساهم اليهود المهاجرون من غرناطة في تعمير المدينة على عهد المنظري حينما عيّن لهم موضعا بحومة البلد لإنشاء مساكنهم، وهو المعروف حاليا بالملاح البالي، الواقع شمال شرق الجامع الكبير، ويعد من المآثر الدالة على وجودهم بتطوان وكثرة عددهم، ومن المحتمل أن المنظري رافقه حين حلوله بتطوان بعض أغنياء اليهود.
إن الحومات الخمس (البلد، الربض السفلي، الطرنكات، العيون، الملاح) كانت إلى حدود 1331 ﻫ/ 1913 م محاطة بأسوار حصينة، فيها سبعة أبواب… لا يقع الخروج من المدينة أو الدخول إليها إلا منها، وهي: باب النوادر، باب التوت، باب الرموز، باب العقلة، باب السعيدة، باب المقابر، باب الجياف، وبعض الناس يسمي هذه الأخيرة بالباب السفلي.
فهذه الحومات تمثل آخر العمران الأندلسي بتطوان نتيجة توقف الهجرات المذكورة، وبذلك نعد المدينة أندلسية مبنى ومضمونا، فإلى هذا التاريخ 1000 ﻫ/ 1609 م، كان حي أولاد النقسيس هو الوحيد الذي أنشأته أسرة محلية ذات الأصول الأندلسية.
وبتوقف التوافد الأندلسي كانت المدينة قد اكتمل هيكلها المعماري ونسيجها الاجتماعي. لذلك يمكن القول إن إطار المدينة الخارجي للمدينة لم ينجز دفعة واحدة، بل كان يتغير كلما نزل بها فوج جديد من الوافدين المورسكيين، إلى أن اكتمل هيكلها في فترة الطرد الجماعي لهؤلاء الأخيرين.
– مظاهر التأثير الأندلسي في الميدان المعماري
نقل الأندلسيون إلى المغرب الطراز المعماري للمدن والبيوت التي كانوا يقيمون فيها بإسبانيا. وتعد مدينة تطوان من أكثر النماذج الهندسية المعمارية إثارة للاهتمام ببلاد المغرب، وذلك ليس فقط لطبيعة وحجم معالمها، وإنما لكونها تجسد تلاحما حقيقيا وارتباطا واضحا بالعديد من المدن الأندلسية. ولا زالت معالم الإرث الأندلسي واضحة في كثير من معالمها العمرانية والمعمارية، وما زالت المدينة تحتفظ بفن المعمار الأندلسي داخل جدرانها، وقصبتها، ومنازلها وقصورها وأضرحتها وفنادقها القديمة وصوامعها، وبما تتميز به من أفنية ونافورات وحدائق…إلخ.
– العمارة الأندلسية العسكرية
يصف الشيخ العربي الفاسي (توفي 1152 ﻫ)، مؤلف كتاب “مرآة المحاسن“، المدينة التي أسسها الأندلسيون بأنها «بلد مربع وقصبتها في ركنها ولها ثلاثة أبواب وسورها في عرضه سبعة أذرع ودار بالسور الأول سور ثان وبعده دارت الحفائر، وأعظمها حفير القصبة، ويعلو البلد من جهة الجوف جبل بنى عليه المنظري قصبة أكملها في عشرين سنة».
يجد هذا الطابع المحصّن للمدينة تبريره في الظروف التي أحاطت بنشأتها، فقد بنيت في جو سادته روح المقاومة من الخطر البرتغالي والإسباني. فالخطر الخارجي كان مسيطرا على النفوس، لكنه لم يكن وحيدا بل لازمته المخاوف التي ولّدها عداء الأرياف المجاورة، فكان أول شيء يجب أن تفعله العناصر الأندلسية المهاجرة هو تحصين أنفسهم وأن يحيطوا أنفسهم بالأسوار والخنادق التي تعطي قدرا من الأمان، فلم تكن القصور أو المساجد هي التي برزت في مجال الهندسة، ولكنها كانت الأبراج والأسوار، «فهو مجتمع ولد من الحرب ونما فيها» – وتتحدث المصادر الأكثر قدما عن ثلاثة آلاف أسير مسيحي، كان يوظفهم المنظري في بناء تحصينات المدينة، وهذه السمة يمكن رؤيتها بوضوح أكثر في قصر الشاون، في المدينة الشقيقة التي تمثل كذلك إبداع طبقة النبلاء الغرناطية، قصر وأبراج ذات تأثير قشتالي وبرتغالي واضح.
وتبرز الخصائص الأندلسية بوضوح في هندسة البناء العسكري للمدينة التي صممت على شكل قلعة منذ تأسيسها. وتعد أسوار المدينة التي لا زالت بقاياها قائمة أحسن دليل على ذلك. وتتميز هذه الأسوار بكبر حجمها وسمكها واتساع عرضها وانتظام أبراجها الصغيرة. وقد عبر مؤلفو كتاب “تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية” عن هذه الحقيقة بقولهم: «وتطوان مرئية من خارج الأسوار، ما هي إلا قلعة كان هدفها الأصلي حماية المهاجرين الأندلسيين الذين أسسوها. غير أن داخل المدينة يعكس تطور البناء المدني الأندلسي في أوجه… وما ينبغي معاينته على الأخص هو ذلك التمازح بين الخصائص الهندسية العسكرية والحضرية. وتعكس هندسة بناء المدينة إرادة خلق حياة حضرية جد متمدنة، والدفاع عن أصحابها بفعالية في نفس الوقت».
ومن التحصينات الأصلية، ما زالت الأسوار الخارجية وثلاثة أبراج من القصبة قائمة على امتداد ما يعرف اليوم بسوق الحوت والغرسة الكبيرة وزنقة القزدارين.
لقد كانت القصبة – وهي مركز الحكم والقيادة العسكرية- تقع جنوب غرب مدينة المنظري وليس في قلبها كما هو الحال في المدينة الإسبانية المسيحية، ويمكن مقارنة بقايا سور قصبة تطوان بالتحصينات الإسبانية ذات النمط المدجّن فيما يتعلق بنوعية المواد المستعملة (تعاقب الدبش والآجر في الجزء الأسفل من أسوارها، وتنميقها بالطين المدكوك، خلافا للتنميق بالحجر المنقوش)، وبروجها المضلّعة الشكل ذات التيجان المسننة، ونوافذها الهلالية وشرفاته. وكل هذه المميزات توجد في القلاع القشتالية ذات النمط المدجّن التي ترجع إلى نفس الفترة، كقلاع ألمرية، وكوكاCoca في منطقة سيغوفيةSegovia ، ومغيدةMagueda في طليطلة، وإن كانت التحصينات التي أقامتها الممالك الأعظم شأنا وقوة وكمالا من المنشآت الدفاعية المشيدة في ذلك الثغر الصغير الذي جسد تطوان ذلك العهد.
– التأثير الأندلسي في هندسة البناء المدني
رغم تشابه مدينة تطوان مع المدن المغربية العتيقة في الكثير من الخصوصيات، فإنها تنفرد بأصالتها الفنية وتميزها الثقافي. ففي ميدان هندسة البناء لا زال تراث المورسكيين غنيا، ولعلّ مدينة الشاون هي المدينة المغربية التي حافظت على أبرز معالم العمارة المورسكية، بدورها المسقفة بالقرميد، ونوافذها الخارجية، بخلاف دور المدن الأخرى بفتحها الداخلية وسقفها المستوية التي تعلوها السطوح، وتعلو أبواب الدور والمساجد حنايا نصف دائرية مع ناتئة، وتدعمها أعمدة صغرى على الجانبين، ويوجد هذا التنميق في مدينة الرباط المورسكية وسلا، كما في تطوان، وكذا في المدن التي نزل بها المورسكيون بتونس، وخاصة تسطور. ويمكن القول إن تطوان في تلك الفترة كانت تشبه مدينة الشاون المورسكية كما تظهر لنا اليوم.
وإذا كانت بعض مميزات هذا الطراز المعماري قد اضمحلت في تطوان، كسقف القرميد خاصة، فإن آثار الطراز المورسكي لا زالت موجودة في عدة مبان أثرية. وتشكل المساجد أهم هذه المباني وأكثرها، وكان الأندلسيون اللاجئون قد بنوها بوفرة: خمسة منها شيدت خلال السنوات الأولى في حي العيون أو ربض الأندلس، وأخرى في الحي الجنوبي، والكثير من هذه المساجد أعيد بناؤها وتنميقها من جديد خلال القرون اللاحقة، غير أن بعضها لا زال يمثل مساجد الطراز المورسكي كما نجدها في الشاون وتسطور بتونس، كما هو الشأن بالنسبة لجامع المصيمدي الذي بني في 1611 م، والجامع “الجديدة” الذي شيد سنة 1640 م وجامع العيون الذي يرجع تاريخه إلى سنة 1620 م، وتتميز هذه المساجد بمآذنها التي لم تزخرف إلا قليلا، إذ اقتصر تنميقها على أفاريز من الآجر، وزُينت أحيانا ببعض الحنايا الخادعة، ويمكن مقارنة هذه المآذن بقباب أجراس الكنائس ذات الطراز المدجن الإسباني.
والواقع أن المسحة الأندلسية ستظل حاضرة في كل الأساليب اللاحقة، كما يؤكد الفنان التشكيلي، الأستاذ بوزيد بوعبيد – وهو الأسلوب الذي انطلق مع سقوط مملكة غرناطة آخر المعاقل الإسلامية بالأندلس سنة 1492 م واستقرار المهاجرين الأندلسيين الأوائل بتطوان. ونظرا للظروف الصعبة التي عرفتها مرحلة ما بعد الهجرة، إضافة إلى نوعية هذه الفئة من المهاجرين الذين كان أغلبهم من الحرفيين والصناع والفلاحين الصغار، وكذلك من المحاربين الذين اختاروا هذه المدينة الإستراتيجية لمحاربة الغزو البرتغالي لمدينة سبتة وطنجة، ولممارسة الجهاد البحري انطلاقا من وادي مرتين ضد السفن الايبيرية، ونظرا للتواضع الاقتصادي الذي ساد تطوان خلال القرن 16 م، فقد عرف الفن في هذه المرحلة ببساطة شكله، بعيدا عن استعمال الكماليات الزخرفية والإسراف في التنميق، مع الميول إلى ما هو وظيفي بعمق حسي وجمالي يذكرنا بجمالية المعمار “الشاوني”، وبساطة المدن والقرى الأندلسية، كبلدة “رندة”، وقرى “البشرات”، مع تفتحه وتلاقحه مع فنون محيطه الجبلي والريفي.
ويؤكد الأستاذ بوزيد بوعبيد أنه نظرا لتأثر الفنون المعمارية والتزيينية بالظروف الصعبة للتأسيس، وكذلك للتغييرات المتسارعة التي عرفها المجتمع والاقتصاد خلال العقود الأولى للاستقرار، «لم تخلف لنا هذه الفترة من تاريخ تطوان الفني إلا نماذج قليلة من فن العمارة التطوانية، حيث أعيد بناء أغلب الدور والمساجد والمرافق العمومية والعسكرية لتفتح الطريق لعمارة أكثر تطورا من الناحية الجمالية. وما يحتفظ به من معمار هذه المرحلة الأولى أغلبه ينتمي للعمارة الدينية والعسكرية»، حيث يمكن أن نذكر في هذا المجال بعض المساجد الصغيرة، كمساجد القصبة والرّبطة وبناصر، والتي احتفظت ببعض مميزات الطراز الأول المعروف بالبساطة في البناء وغياب الزخارف التجميلية، وصغر مآذنها التي تعكس ارتفاع المنازل المحيطة بها. وتعتبر مئذنة جامع الرزيني الوحيدة التي اختلفت عن غيرها بزخارفها التزيينية، كما يمكن ذكر منشآت أخرى كحمام المنظري ذو التصميم الأندلسي الخالص المشابه لحمامات غرناطة ومالقة، وكذلك باب المشور الذي يشبه إلى حد بعيد أبواب الطراز الناصري وباب قصر الحمراء الغرناطي، والتي تمتاز بجماليتها قبابها المعتمدة على الآجر انطلاقا من الخط الحلزوني في البناء، والذي يؤشر لبراعة فنية وحرفية نادرة. ولهذه الفترة تنتمي الكنيسة المسيحية الأولى بتطوان والتي بنيت بالمطامير وأعدها الرهبان الفرنسسكان لأجل الأسرى المسيحيين، ورغم صغرها فإنها كانت تمثل أنموذجا معماريا خاصا بعناصره البنائية المعتمدة على الزليج الاسباني كوسيلة تزيينية.
وبعد نزوح المورسكيين إلى مدينة تطوان أواخر القرن 16 م وبداية القرن 17 م، عرفت الفنون بتطوان وجها جديدا بما حمله الوافدون الجدد من التأثير الفني النهضوي الذي يتجلى في إدخالهم للتصميم العمراني في توزيع الأحياء والمرافق العمومية، عكس التوزيع الذي اعتمد في حي البلاد نهاية القرن الخامس عشر، والذي يتصف بكثرة الالتواءت في الأزقة والشوارع، وذلك لعدم إعداد تخطيط عمراني مسبق. وخلفت لنا هذه المرحلة المورسكية أسلوبا خاصا في الفن المعماري والتزييني المتميز من خلال الأقواس النصف دائرية والسواري الشبيهة بالأسلوب الطسكاني مع البساطة في استعمال النماذج الزخرفية والتزيينية، وتحاشي الألوان الصارخة مع سيادة اللون الأبيض، وحيث أن هؤلاء المورسكيين قد نزحوا من جهات مختلفة من اسبانيا، كالأندلس وقشتالة وأرغون، فإنهم قد حملوا معهم التأثير المعماري المدجن والشبيه بالمعمار الشاوني، والمعروف بالنوافذ والفتحات على الخارج، واستعمال القرميد.
ورغم الاضمحلال الذي عرفه هذا الأسلوب المعماري في تطوان بفعل الانتعاش الاقتصادي، والذي أدى إلى ظهور أساليب جديدة، فإن أمثلة كثيرة لا زالت شاخصة إلى اليوم رغم بعض التحريفات التي فرضها الزمن، والتي يوجد أكثرها بحي العيون والطرنكات، وأمثلة أخرى موزعة بحي البلد، وأغلبها من المساجد، كجوامع المصمدي والعيون والجديدة، والتي تمتاز صوامعها بتجميلات هندسية أو أقواس فيزيقوطية والمعدة بالآجر، والتي تشبه قباب أجراس كنائس الأسلوب المدجن الاسباني.
كما يمكن تأمل العديد من الدور التطوانية التي لا زالت محافظة على جمالية معمارها وتزيينها الموريسكي المدجن، حيث يعد قصر آل النقسيس بزنقة المقدم، ودار بن قريش بالطرنكات، من أهم الدور المنتمية لهذا الأسلوب المعروف ببساطة هندسته وغياب الزخارف والتنميقات والنقوش، مع كسوة أرضيتها بالقطع الفخارية غير المزججة والمبسطة المستطيلة أو السداسية الشكل التي تسمى “المزهري”. وما يمكن تأمله من زليج في واجهة مداخل بعض المساجد أو بعض المنازل المنتمية لهذه المرحلة – رغم قلته – فهو مستورد من اسبانيا، حيث يشبه زليج منطقتيْ كاطالونيا والأندلس، والمعروف بلونه الأبيض ورسومه الصفراء والخضراء الميالة للزرقة، والتي تمثل نماذج مورقة أو مزهرة والمنجزة بأسلوب مؤسلب وبسيط، ويمكن تأمل بعض قطعه بواجهة جامع سيدي ابن مسعود بحي العيون، وبالباب الخلفية لمسجد الربطة، وباب مسجد بناصر، وواجهة الزاوية الريسونية، وأدراج دار راغون.
ومع نهاية القرن 17 م وبداية القرن 18 م عرفت تطوان طفرة اقتصادية مهمة بفضل مركزها الاستراتيجي وانفتاح مرفئها بمرتين على التجارة الداخلية وبالخصوص مع مدينة فاس، وكذلك مع مختلف الموانئ المتوسطية والأوروبية حيث نشطت بها الحركة الصناعية والتجارية والعلمية كما عرفت استقرار العديد من العائلات الفاسية وأجانب من جنسيات مختلفة.
ولهذه الانتعاشة الاقتصادية يعود الفضل في ازدهار الفنون والعمارة بالمدينة وبالخصوص خلال حكم المدينة من طرف شخصيتين مهمتين هما: الباشا أحمد الريفي، والقائد محمد لوقش، حيث عرفت تطوان دخول تأثيرات معمارية وتزيينية جديدة وبالخصوص منها المكناسية والفاسية والعثمانية.
ويسجل التاريخ للباشا أحمد الريفي عشقه الكبير للفنون المعمارية والتزيينية وذلك لتأثره بالقصور الفاسية والمكناسية حيث شيد العديد من القصور والمساجد والحدائق بتطوان وطنجة والشاون حيث أدخلت في الفن المعماري الأقواس ذات الشكل الشبيه بحدوة الفرس وعناصر تزيينية جديدة كالزليج الذي كانت بدايته بتقنية فاسية قبل أن يتحول إلى التقنية التطوانية والذي استعمل في مدخل المساجد والصوامع حيث تعد صومعة جامع سيدي الصعيدي أول صومعة يتم تزيينها بالزليج. ونظرا لحداثة دخول الزليج إلى تطوان فقد كان بالتقنية الفاسية كما استعمل الزليج كذلك لتزيين القصور والدور والسقايات والأضرحة والقبور، كما تم توظيف الخشب المنقوش والمصبوغ داخل مختلف الفضاءات التي ظهر في الكثير من نماذجها التأثير العثماني من خلال الصيغ النباتية، كالقرنفل والخزامى، وكذلك تجلى التأثير العثماني في فن العمارة ودخول الشكل المثمن في الفنون التزيينية وفي بناء الصوامع المثمنة كصومعة جامع الباشا – والتي تميزت عن الصوامع الأندلسية والموريسكية البسيطة – بزخارفها وتنميقاتها الهندسية الجميلة.
أما الشخصية الثانية التي أثرت في هذه الحقبة فهو القائد محمد لوقش الذي كان عكس الميولات الفنية للباشا أحمد العاشق لفنون القصور المكناسية وترفها حيث يلاحظ في الفنون المعمارية التي سادت خلال حكم آل لوقش المورسكيين الرجوع بالحس الجمالي التطواني إلى الأساليب الأندلسية والموريسكية الميالة للبساطة المعمارية والتزيينية.
وتعد مدرسة لوقش من أهم الأمثلة لهذا الأسلوب حيث تم الرجوع إلى الأقواس النصف دائرية والأعمدة الأسطوانية وسيادة اللون الأبيض الجيري والغياب التام لكل ما هو تزييني إلا من إفريز جصي بسيط في أعلى الفناء الداخلي على شكل أقواس صغيرة لا تكاد تظهر.
وكذلك يمكن ذكر مسجد لوقش، فرغم أن أقواسه تشبه حدوة الفرس إلا ان الأسلوب الجمالي لصومعته كان موريسكيا واضحا لبياضها الجيري ولخلوها من الألوان والزخارف الجسية والزليجية، واكتفائه في أعلى الصومعة بأشكال مقوسة تشبه النوافذ العمياء.
– هندسة البيت التطواني: انعكاس للبيوت المورسكية
تتميز الدور التطوانية العتيقة – مثلها مثل الدور المورسكية بغرناطة القرن السادس عشر الميلادي – بالفناء الأوسط الذي تتمحور حوله مختلف الغرف والمرافق المختلفة للبيت، ومنه يتم التواصل بالخارج عبر مدخل غير مباشر نحو الباب الرئيسي. ومع انعدام النوافذ المطلة على الخارج أو قلتها، تتحول الدور إلى عوالم صغيرة مغلقة بتباين صارخ بين الروعة الجمالية داخل الدور والبساطة خارجها. إن التباين شاسع بين الجمالية الداخلية والخارجية في عمارة وعمران تطوان الأندلسية المتجلية في تزيين المساجد والزوايا والدور مقابل بساطة الأزقة والدروب والأسواق والتي كانت تحمل في مضمونها تزاوجا ناجحا بين الجمالي والنفعي. وبهذا الصدد يقول المستعرب الإسباني ردولفو خيل بن أمية: «تميزت سلالة الأندلسيين والمورسكيين في مهجرهم وعلى اختلافاتهم بموقف موحد ومنسجم. فقد وجب عليهم بناء منازل جديدة وحياة جديدة بأساليب جديدة، وقاموا بذلك بشكل استطاعت معه حياتهم البعيدة عن الأندلس في التأثير في محيطهم المغاربي. فمعمارهم تحول لذاته وبإرادة من أنجزوه إلى عامل مؤثر ومنظم لما حوله. فاستعمال الملاط والفضاءات المكعبة واللون الأبيض جسدت هذا المفهوم وكرست هذه الإرادة. ومثلهم مثل الأساتذة الكبار في مجال الهندسة المعمارية السابقين، أنشأوا أسلوبا هندسيا ينطلق من الداخل نحو الخارج، ويأخذ الصوان كمحور مع استعمال زخارف بسيطة بدون عناصر تنميقية إضافية بحثا عن إمكانية توظيف السكن ليستجيب للحاجيات الجديدة، وليدة الحياة في المنفى».
ونظرا لعمق التأثير الذي خلفه المورسكيون في الفن المعماري والتزييني التطواني فقد امتد أسلوبهم طيلة القرن السابع عشر. وقد شاعت بتطوان خلال هذه الفترة المنازل بفناء ذي ثماني أعمدة وأقواس، وهذا النوع يتعلق بمنازل من القرن السابع عشر التي تمثل نموذجا كبير الأهمية لتفرده داخل الهندسة التطوانية. إنها تجسيد لمنازل صغيرة ذات فناء مستطيل كما تعتبر مثالا لحلول خاصة في بناء الطوابق والمقاطع العمودية وأجزاء الفناء. إنها وليدة التأثيرات الممارسة من طرف العنصر الأندلسي كجزء من الموروث الثقافي للمدينة من خلال إبراز ملامح الهندسة المدجنة النهضوية الإسبانية من إنجاز عائلات المهاجرين المورسكيين.
وقد لفت نظر “دي ألاركون” الذي دخل إلى مدينة تطوان مع الجيش الإسباني سنة 1860 م شكْل المنزل التطواني الذي لم يكن يختلف عن تصميم المنازل الأندلسية، فقال في كتابه “مذكرات شاهد لحرب افريقيا“: «ومنازل تطوان تذكر بمنازل الأندلس، تصميمها وترتيبها متشابه تماما. إن وسط المبنى تحتله الباحة، من هناك تتوالد الغرف، وفي وسط الباحة حنفية تحيط بها أماكن للجلوس، مفصولة أحيانا بستائر لتتحول إلى غرف نوم أيام الصيف. وفي الطابق العلوي، هناك أربع ممرات مكشوفة، تطل على الباحة، وتكمن فخامة بعض الدور في النقش الذي يزين الباب والنوافذ الداخلية والسقف، وفي كل ذلك يخشب عليه نقوش بألوان متعددة، ومذك تُزيّن الدور بالزليج الذي يكسو البلاط والسلم والجدران. كل شيء نابع من الحضارة القديمة التي لم تتغير، فكأن زيارة تطوان هي زيارة قرطبة في القرن الثالث عشر» وحينما زار قصر الرزيني، شبه هندسته وزخرفته بقصر الحمراء.
– الأبواب في التراث المعماري التطواني
وتعتبر الباب في التراث المعماري التطواني الحد الفاصل بين الحياة العامة والخاصة وهي التزيين الخارجي الوحيد في الدار التطوانية. وتعتبر أبواب الدور وسيلة من الوسائل الهامة لقراءة التاريخ الاقتصادي والجمالي للمدينة حيث تتصف الأبواب الموريسكية بجدارها المقوس وشكلها الصغير الذي يفرض على الداخل الانحناء لولوجها، وكذلك ببساطتها الجمالية، وهي ذات دفة واحدة متبثة من الداخل بعمود محوري جانبي .
وخلال القرن 18 م ظهرت بمدينة تطوان الأبواب المتأثرة بأبواب مكناس وفاس وهي أبواب مستطيلة وعريضة وأكثر علوا من أبواب القرن 16 و17 م وهي إما ذات دفة واحدة أو دفتين حيث زينت هذه الأبواب بمسامير نصف كروية تسمى في تطوان بمسامير ″بوقبة″، وكانت ذات قطر متوسط وصففت هذه المسامير في واجهة الباب في خطوط أفقية وعمودية كما انضافت إليها دقاقة حديدية على شكل حلقة مستديرة زينت بأشكال هندسية تجريدية وتبثت الدقاقة بالباب بأشكال مقببة انتهت أطرافها بقطع مثلثة على هيئة شعاع .
ولإظهار الهوية الأندلسية لساكني الدور، استعمل التطوانيون في أعلى الأبواب جهة اليمين أو اليسار رمز حديدي على شكل رمانة للدلالة على الأصول الغرناطية، كما استعملوا شكلا حديديا مقوسا شبيها بحدوة الفرس أضيفت له ثلاثة قضبان حديدية في الوسط ليتحول إلى رمز يشبه الخميسة أو يد فاطمة ويقال أنها ترمز إلى العائلات الجزائرية.
– تطوان العتيقة من الخارج: “كأنها مدينة من عاج”
مثل كثير من المدن الأندلسية، امتاز المظهر الخارجي لمدينة تطوان العتيقة باللون الأبيض، حتى نعتها الشعراء بالحمامة البيضاء:
تطوان ما كنت إلا بين البلاد حمامة
فقد قال عنها “دي ألاركون” سنة 1860 م: «ليس هناك ما هو أشد بياضا من منازلها التي تعلوها السطوح، ولا أبيض من أسوارها، ولا من قصبتها، تبدو وكأنها مدينة من عاج»، ولم يفته أن يشبه بياضها ببياض مدينة قادس..
وفي العقد الثاني من القرن العشرين زارها الرحالة الإسباني آنخيل كابريرا، وترك لنا وصفا عن مظهرها الخارجي بقوله: «ظهرت لي تطوان، حينما شاهدتها لأول مرة، من طريق سبتة، كأنها أجمل المدائن التي يمكن أن يتصورها خيال المرء. بيضاء، شاعرية، مرصعة بالصوامع الرشيقة، ومحاطة ببساتين وارفة».
وتبين من شهادات الرحالة الأجانب أن علو المنازل كان موحدا، بمعنى أنها توفرت كلها على طابق علوي، حسبما شاهده “جون وندوس” في الثلث الأول من القرن الثامن عشر.
ومن الملاحظ أن الزوار الأجانب الذين حلوا بتطوان لم يميزوا في كتاباتهم بين سكن الفقراء وسكن الأغنياء بالمدينة، فلم ير “جون وندوس” Windus أي فرق بين دور المدينة باستثناء دار الباشا أحمد، وقلة من منازل الخاصة، فكلها كانت تفتقد إلى النوافذ المطلة على الأزقة والدروب، وتكتفي بفتحات صغيرة في القسم الأعلى من السور الخارجي، استغرب لذلك الأجانب الوافدون على المدينة، أثناء مرورهم بأزقة مغلقة لا تنفتح عليها نوافذ المنازل. وسجل “دي ألاركون” بدوره أن «المنازل التطوانية ليست لها نوافذ ولا شرفات، وحينما توجد النوافذ فإنها ضيقة يغطيها العنكبوت»، وفسر ذلك بكون «أن المغاربة لا يحفلون كثيرا بواجهة مبانيهم»، «لأن المغربي يعيش حياته الخاصة في داخل أسوار منزله». والواقع أن المهاجرين الأندلسيين قد اختطوا مدينتهم الجديدة على نفس نمط أحيائهم الغرناطية التي تركوها وراءهم.
وإذا كانت مدينة تطوان تحتفظ بفن المعمار الأندلسي وتشبه إلى حد كبير غرناطة في أزقتها وطريقة بنائها، فإن باطن أرضها لم يخل من هذه المعالم، ومن بينها: سجن المطامر، أو المطمورة التي تشكل إحدى العناصر الأكثر تفردا في المدينة القديمة، والشبكة الأصيلة لتوزيع الماء.
– شبكة ماء سكوندو: عبقريّة المْعلم التطواني الأندلسي
توفرت مدينة تطوان منذ إعادة بنائها في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، على نظام توزيع أصيل لتوزيع الماء، عُرف لاحقا باسم “السكوندو، في الوقت الذي يطلق عليه أهل البلد “ماء البلد”، و “ماء الله”، و”ماء المِعدة”، و”ماء القنا”.
يتعلق الأمر بالشبكة القديمة لتوزيع الماء داخل المدينة. وقد شرع في إقامة هذا النظام موازاة مع بناء النواة الأولى للمدينة المنظرية، ثم تفرعت قنواته وامتدت إلى مختلف جنبات الحي تبعا لاتساع العمران بين أسوار المدينة.
ويأخذ هذا النظام مصادره من العيون المنبثقة والممتدة عند سفح جبل درسة الغني بالمياه المتدفقة من جوف الكتلة الكلسية الغنية بفرشاتها المائية.
وتعود النشأة الأولى لهذه الشبكة إلى نهاية القرن التاسع الهجري على يد سيدي المنظري، وحُجتنا في ذلك أن المدينة العتيقة لا زالت تحتفظ بأقدم حمام بها يقع بأقدم نواة بها، إنه حمام سيدي المنظري، وهو من بناء هذا الأخير.
وظل هذا النظام يؤمن لسكان تطوان التزود بالماء الشروب قبل إقامة نظام التوزيع الجديد في نهاية العشرينات من القرن العشرين حسب الرسوم العدلية التي نتوفر عليها.
وقد كان لنظام شبكة “السكوندو” هذه دورا كبيرا في تنظيم المجال الحضري العتيق وهيكلته، قبل أن يتراجع دورها وتتقلص وظيفتها. فقد كانت عناصر الشبكة (القواديس، الطالع، مِعْدة القِسمة، كأس عدل، القنا، ماء الفيض تعمل في انسجام وتناسق متينين، ضامنة لها حسن السير الوظيفي لحوالي أربعة قرون. فقد كانت خطوط الشبكة تكون من مجموعة كبيرة من الأنابيب الفخارية مختلفة الطول والحجم تستعمل حسب الحاجة والضرورة، وكانت تجلب في البداية من بعض المدن التي عرفت من قبل مثل هذا النظام كمدينة الشاون وفاس مثلا قبل أن يتم صنعها محليا في ما يعرف بالطفالين.
وكان توزيع الماء يقام على نظام دقيق ووفق أعراف وقواعد متماسكة ضمنت لها حسن التدبير لقرون عديدة. وتعتبر تقنية التوزيع إحدى هذه الأسس، وذلك أن بنية الشبكة تتكون من مجموعة من الخطوط والقنوات الممتدة بين المنابع وآخر مستهلك. كل خط يعمل في الغالب مستقلا عن الآخر. وتتزود منه مجموعة من المستفيدين من منازل ومرافق عمومية. وطريقة الاستفادة لا تتم عن غرْف الماء مباشرة من مجراه، بل عبر تقنية في منتهى الدقة، وذلك أنه رُوعي فيها مجموعة من العوامل الطبوغرافية والاقتصادية والصحية.
وما فاضَ عن كل الاستعمالات يصرف خارج الخط فيما يسمى بالعقدة أو الحنفية العمومية (قنا) أو بمِعدات المياه الجارية وتسمى بمعدات الفيض، وكانت خطوط المياه في الكثير منها تنتهي بـ”القنا” أو بإحدى المرافق الاجتماعية الأكثر استعمالا للماء، كالحمامات والمساجد والحنفيات العمومية. وتعتبر “القنا” إحدى المحطات المهمة داخل شبكة “السكوندو”، لما أدته وتؤديه من خدمات داخل الوسط الحضري العتيق، ولوظيفتها الجمالية والمعمارية، بزخارفها وأقواسها وكتاباتها وزليجها ورسومات صهاريجها.
لقد لعب نظام “السكوندو” دورا حاسما في تثبيت الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، بحيث وفر لها المياه اللازمة لتحريكها وتشغيلها. فمياه هذا المصدر كانت تفي بما فيه الكفاية لجل المؤسسات الدينية، ووفرت الكميات الضرورية لأغلب الحمامات وجلّ الفنادق والميضآت العمومية ودور الدباغة وأنشطة حرفية أخرى، بالإضافة إلى الاستهلاك الأسري، وهذه الاستعمالات كلها تبين أهمية صبيب مياه نظام “السكوندو”.
ولعل أحسن ما في هذا الماء هو نظام توزيعه، كما أن دقة التدبير شكل جوهر النظام الأصيل لتوزيع الماء بمدينة تطوان. وتقول الأستاذة آمنه اللوه، أنه «تمت مقارنة نظام توزيع ماء سكوندو مع نظام توزيع الماء ببلنسية فظهر أنه نظام واحد وبهندسة واحدة».
وقد تطرق الفقيه أحمد الرهوني إلى نظام شبكة المياه هذه وعناصرها بتطوان، قائلا: «وبها عيون كثيرة ذات مياه غزيرة، قد أجريت إلى دورها ورياضها بقواديس فخارية، مقسومة على رباعها بالسوية، ما بين نوع جار في سواقي وفساقي، ونوع يسمى كأس عدل، وهو عبارة عن دخول الماء للمحل، ونزوله بمِعْدة على هيأة كأس، إذا اعتدل الماء واستوى مع أعلاها رجع لمجراه الأصلي، حيث يخرج منه إلى غيره، ويسمى المَجرى الأصلي بمِعْدة القِسمة. ولصاحب النوع الأول الجاري التصرف فيه بما يشاء، وصرفه حيث شاء، أما صاحب النوع الثاني، فله غَرفُ ما شاء من مِعْدته، من غير أن يتمكن من إجرائه في محل آخر بقواديس».
ويؤكد صاحب “عمدة الراوين” أن العُرف شكل مصدرا هاما من مصادر قانون الماء بمدينة تطوان: «ولأهل المدينة في ذلك قوانين متبعة، وقواعد مرعية، مؤسسة على نصوص شرعية، يُرجع فيها عند النزاع لقضاة الشرع الإسلامي، الذين يفصلون فيها بالحكم النهائي الذي لا يبقى لأحد فيه نزاع».
ومن الأعراف ذات العلاقة الوطيدة بنظام توزيع الماء بتطوان العتيقة ذلك الذي يتعلق بأشغال مدّ القنوات، ونظرا لكثرة “العملات” أو “العملات” (ج العمل وهو الخط المائي) فقد كان من البديهي أن تتقاطع مع بعضها البعض في الدروب والأزقة، وفي هذه الحالة اشتهر بالمدينة عرف بمثابة نص قانوني، يتم الاحتكام إليه عند الحاجة، وقد تم تدوين هذا العرف في وثيقة يقول نصها: «تلقى شهيداه من العرفاء الثلاثة، أحمد هيدور وأحمد بطوري وعبد الكريم الدهري شهادتهم بأن العرف الجاري في هذه البلدة التطوانية منذ أزمان أن من أراد إمرار الماء في عمل القوادس بزنقة نافذة لا يمنع من ذلك، إذ لا ضرر فيه على أحد من أهلها، فإن تعرض له في إمراره عمل آخر، فإنه يمره كيفما أمكنه ذلك إما بجانبه أو تحته أو فوقه، فإن حدث بسبب إمراره تكسر في العمل المعترض أو شق أو نحو ذلك فيصلحه هذا الممر له، ويرد الزنقة كما كانت. هذا هو العرف المعروف والشأن المعهود المألوف، وبذلك قيدت شهادتهم مسؤولة منهم. ربيع الأنور 1311 ﻫ/ 1893 م».
وكانت عملية مد القنوات تتم عن طريق التضامن وتقاسم تكاليف الأشغال، حسب قدرة وحاجة كل عائلة، كما كان سكان الحومة أو الدرب يشتركون في قناة مع مؤسسة دينية لجلب الماء من المنبع إلى وحدات الاستهلاك. وإلى جانب الخطوط المائية المملوكة للخواص، قامت مساجد البلد بمد قنوات المياه من العيون بالربض الأعلى إلى محلات الوضوء… فعلى سبيل المثال، كان جامع غيلان يزود سبعة وأربعين دارا على الأقل من دور حومة المطامر بهذه المادة الحيوية، كما لعب الجامع الأعظم دورا رئيسيا في هذا المجال من خلال خطه المائي الضخم والذي عرف بين العموم بالماء الكبير.
لقد عرف عن الإنسان التطواني الخلق والإبداع كلما تعلق الأمر بعنصر الماء، فهو سر وجود المدينة بل هو تطوان بذاتها، فاسمها يحمل دلالة الماء – تيطاوين- أي العيون بالأمازيغية… لقد عمد المعماري التطواني الأندلسي إلى البحث عن أفضل السبل لاستغلال هذه المادة الحيوية بل وعقلنه توزيعها انطلاقا من منبعها مرورا بنقط التجميع لتصل فيما بعد إلى نقط التوزيع، قننها في قوارير فخارية مفرغة الجانبين كان قد ألف صنعها أيام الأندلس الخالدة، ربطها بحكمة بمخلفات النجارة التي سرعان ما تندس بين تلابيب القارورات فتنتفخ بعد تفاعلها مع عنصرا لماء لتتحول إلى مادة لاحمة تحد من انفلات الماء ومن تسربه أو تلوثه.
إن المعدة أو العادلة أو ماء الفيض مصلحات أبدعها مهندس ماء تطوان، لذلك فإن تدبير الماء بمدينة تطوان العريقة يعكس الدراية العالية لساكنة تطوان بهذه المادة الحيوية هذه الدراية مردها ثمانية قرون من التراكم الحضاري الذي حملته مخيلته من الفردوس المفقود وبذلك يكون قد حمل قطعة من الأندلس معه وأنبتها في أقرب نقطة من أرض أجداده.
ولعل أنغام وصوت الماء المنساب في تواصل واستمرار على جوانب الخصات والصهاريج في البيوت العريقة لمدينة تطوان، لخير دليل على تواصل ذلك النمط الذي كان يطبع الحياة التطوانية الهادئة الحالمة، والذي يذكر أهلها بأمسهم الجميل بين أحضان القصور الفيحاء والبساتين الغناء، والجداول العذبة في غرناطة الحمراء.
وإذا كان بعض الناس ينظر إلى شبكة ماء “السكوندو” بصفتها شبكة مائية تقليدية متجاوزة، ماؤها ملوث وغير صالح للشرب، فإننا نعتبر هذه الشبكة المائية جزءا من تراث مدينة تطوان الأندلسي الأصيل، إنها جزء من ماضينا وحاضرنا. لقد منح هذا الماء للسقايات حياة، وللمنازل الخاصة نظافتها، وللأذن موسيقى. لقد ساهم ماء “السكوندو” ويساهم في المحافظة على الحمامات التقليدية بالمدينة العتيقة، كما أنه يُذهِب الصمت المخيف الذي يطبع جو المنازل التقليدية، وإنه يلطّف فصل الصيف داخل المنازل والمساجد وفي الأزقة. وتعبر شبكة ماء “السكوندو” عن عبقرية المعلم التطواني الأندلسي التقليدي الذي خطط لها وأنجزها وطورها وحافظ عليها، وكيفها مع التطور العمراني والمعماري للمدينة.
ثانياً: عناصر الثقافة الأندلسية بتطوان
لقد كان لاستقرار الأندلسيين بتطوان انعكاسات حضارية عميقة، فإلى جانب الانصهار البشري والإثني بين الأعراق المتساكنة بالمدينة، فقد نقل النازحون معهم موروثاتهم الثقافية والحضارية، وحافظوا على أنساق نظمهم المعاشية، وطوروا مكتسباتهم الاقتصادية والإدارية، ورسموا عاداتهم وتقاليدهم المميزة بعد أن زرعوا بذراتها بالتربة المستقبلة. وهكذا يمكن التأكيد أن التقاليد والعادات الأندلسية ترسخت وغدت رموزا ثقافية واجتماعية جديرة بالإثارة. فكلما تأملنا في تراث المدينة المتعلق بطريقة تنظيم الحياة اليومية بالمدينة وجدنا الدليل الواضح على رسوخ ثقافة أندلسية غنية تخص جميع الميادين، انطلاقا من تنظيم المنزل وتأثيثه، إلى التغذية واللباس، والاحتفالات والأعياد، والزواج، وعادات التنزه، وغيرها. وهذه قيم ثقافية ساهمت في إغناء مكونات الشخصية المحلية، وحافظ عليها المجتمع التطواني، وغدت جزءا من كيان الفرد وهويته الاجتماعية، تميز بها عن الآخرين بما حمله من خصوصيات.
لقد كانت تطوان على حد قول الفقيه محمد داود التطواني الأندلسي «نسخة من أخريات المدن الإسلامية العربية في بلاد الأندلس». ويضيف موضحا: «وإذا ذكرنا أن جل الوافدين عليها من الأندلس كانوا من غرناطة… عرفنا مبلغ سكان تطوان من الرقي وأساليب الحياة ومظاهرها من سكن وملبس ومطعم ومشرب، ومتجر ومصنع، فلقد كان للحياة الاجتماعية بتطوان طابع خاص امتاز بالرقة واللطف وحسن الذوق في الترتيب والتنميق، والمرونة في حل المشاكل والأزمات، والتوفيق بين الواجب والواقع».
إن التأثير الأندلسي بتطوان حاضر بالأساس في ناسها وأسمائهم وفي عاداتهم وتقاليدهم، وفي مزاجهم الذي يعكس طباع المؤسسين الغرناطيين المجبولين على التكتم والنبل والجهاد.
– الطرز التطواني التقليدي والتأثير الأندلسي
إن التأثير الإسباني جلي في فنون المدينة بشكل لا نراه في الأصقاع الأخرى من بلاد المغرب باستثناء الرباط – سلا. ويتجلى هذا التأثير في الزي والمطرزات والحلي.
يمكن أن نعاين الزخارف النصرية والمدجنة الأصل في الحلي والمطرزات التطوانية التقليدية. ومن بين القلائد المألوفة في تطوان، هناك قلادة لا زالت تستعمل في زينة العروس، وهي تتكون من عدة سموط من اللؤلؤ تتخللها كريّات من الذهب، وتشبه هذه القلادة إلى حد كبير بعض الحلي النصرية التي لا زالت محفوظة، ولقد اشتق اسمها التطواني (الماصو) مباشرة من الإسم القشتالي “ماثو” (mazo).
وتعتبر تطوان أيضا المدينة الوحيدة في شمال إفريقيا حيث لا زالت المطرزات تنمنم بتواشي نصرية ومدجنة، ويجمع النمط المسمى بنمط “الشاون” بين السّردات المنبسطة والطرز وإطباقات من الجلد والمخمل منمنمة بخيوط من الذهب والفضة، وتتعاقب فيه أشرطة ملونة واسعة وزهور رسمت بطريقة تزيينية داخل مسدسات ومعيّنات متكررة، وتتوسط زوايا المطرز نجمة ثمانية. وهذه الأشكال لا يمكن أن تقارن إلا بالطرز الإسباني الإسلامي في إقليم غرناطة، وبالبُسُط المدجنة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي انمحى أثرها بعد ذلك.
وإذا كانت أغلب الشواهد على هذا الطراز الأندلسي التطواني لا ترجع إلا إلى القرن التاسع عشر، فإن بعض بقايا الطرز المذكور تعد أقدم، فهي ترجع إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهي فترة أول ترحيل للثقافة الأندلسية، وتشهد بقايا هذا الطرز على ثقافة حافظت عليها المدينة بأمانة خلال ما ينيف عن أربعة قرون.
ولقد فرض طراز آخر نفسه بعد طراز بني نصر. ويستمد هذا الطراز أصله من مطرزات إكسطريمادورا Extremadura وقشتالة (لاغانطيرا) التي ترجع إلى عصر النهضة.
وكان الطرز في تطوان خلال القرن السابع عشر أحادي اللون دائما، وهو عامة إما أرجواني أو أخضر أو برتقالي فوق ثوب أبيض من قطن أو كتان. وتكرر الرسوم التجريدية في هذا الطرز صيغا نباتية على شكل دوائر مغلقة في الغالب.
وتبرز سمات النهضة الإسبانية كذلك في تقنيات المجوهرات وأشكالها. وتنمق حلي شمال افريقيا عادة بأشكال زهرية ورسوم هندسية الشكل، ولا يستثنى استثناء شبه تام إلا تمثيل الحيوان أو الإنسان، وهو تمثيل محضور في الإسلام، بيد أنه هناك في تطوان حلية متدلية على شكل طائر (الطير) كانت جد رائجة، وشكلت إلى عهد قريب عنصرا أساسيا في زينة العروس التقليدية. وشكل هذه الحلية متميز، فالطير تمثل فيها أحيانا برأسين وتنظر إلى الناظر إليها مواجهة، وهي متوجة. وتجدر الإشارة إلى أن الحلي المتدلية على شكل طائر تشكل جزءا من المجوهرات الأوربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأنها تشكل أيضا شعار الهابسبورغ.
ويتجلى تأثير عصر النهضة الإسباني أيضا في زي نساء تطوان اليهوديات، فهو لا يتكون من القفطان المألوف الذي كان يلبسه النساء والرجال المغاربة، مسلمين كانوا أو يهودا، وإنما من سترة وتنورة طويلة، عادة من المخمل الأحمر القاني أو الأسود، مع تطريز بالذهب. وكان الحزام الصغير والفستان الطويل المتصلب، والطرز على شكل دوائر كلها أشكال لباس ميزت زي إسبانيا خلال القرن السادس عشر، وهي أشكال نجدها كذلك في الرباط حيث بقيت مألوفة إلى غاية القرن العشرين.
– الطبخ الأندلسي التطواني
عادات الطعام:
من المعلوم أن المورسكيين قد جلبوا معهم العديد من أنواع المأكولات والحلويات التي ما يزال العديد منها يحضر في المناسبات الدينية والعائلية لدى العديد من العائلات الأندلسية العريقة. وعموما فقد كان تأثير الأندلسيين في مجال الطبخ على المغاربة واضحا، كاستعمال كثرة التوابل على اعتبار أن هذه المواد تساعد على عمليات الهضم علاوة على ما فيها من تنبيه للحواس. وما تزال للأطباق المورسكية حضور في المطبخ المغربي إلى وقتنا الحاضر.
عرف الطبخ الأندلسي بتطوان بتنوع ألوانه وأشكاله، إذ حافظ الأندلسيون على عاداتهم في الطبخ وطوروه اعتمادا على الاستفادة من الموروث المحلي، فالمهاجرون الأندلسيون الذين رافقوا علي المنظري حافظوا على عاداتهم في تحضير الأطعمة على طريقتهم، مستفيدين من لحوم وخضراوات وفواكه المناطق الفلاحية المحيطة بتطوان.
وإن كنا لا ننكر التأثير التركي في المطبخ التطواني الذي ما يزال يحمل إلى اليوم أسماء تركية، فإن التأثير الغرناطي المورسكي يظل متجذرا في المطبخ التطواني بأصنافه وطرقه وأسمائه: هناك مثلا: البريد، المغاسْ، المالوزة، البسكوشو والبسطيلة(، والطرطيا، و”الفنيد” الذي تقدم للأطفال بمناسبة الختان، والتفايا، وبعض الفطائر والمجبنات. حتى أدوات الطبخ ما زالت تحمل أسماءها الغرناطية، منها: اسكرفج، مقلاة، برمة النحاس، طبيرة، خابية وغيرها. وحتى “وصلة الخبز” جاءتنا – تقول الأستاذة آمنة اللوه – من غرناطة، وتوجد صورتها ضمن لوحات الرسام الألماني في إحدى لوحاته عن مورسكيات غرناطة في القرن الخامس عشر.
وتطوان مشهورة بمجبناتها، ونعرف أن بعض المدن الأندلسية اشتهرت أيضا بصنع المجبنات حتى قيل: «من دخل شريش ولم يذق من مجبناتها فهو محروم». وما تزال بعض المدن المغربية العريقة مثل فاس وتطون تحافظ على صناعتها، وهي من الحلويات الشعبية المحترمة… وما زالت المجبنات تحمل الإسم نفسه في اسبانيا.
كما برعت الأسر الأندلسية التطوانية في إعداد الخليع، ويورد محمد داود مجموعة من الإشارات التي تشير إلى إرسال قائد تطوان، أشعاش، إلى السلطان العلوي مولاي عبد الرحمان، الخليع. يقول محمد داود: «وعلى عادة القائد أشعاش مع الدار السلطانية، بعث إليها هذه المرة ثلاثين من الأواني مملوءة بالخليع مع صناديق مملوءة بالحلوى الأندلسية والجزائرية التي كانت تطوان تتقنها وتتفنن في صنعها»، مما يدل على براعة العائلات المورسكية التطوانية في إعداد هذا النوع من الأطباق.
وذكر السفير الإنجليزي “شارل استيوارت” الذي نزل بمرسى تطوان في 6 ماي 1721 م أنه قدمت له في حفلة أقامها الباشا أحمد يوم 18 ماي حوالي ثلاثة وعشرين لونا من الطعام منها ما كان مطبوخا على الطريقة الإسبانية.
والواقع أن التطوانيين قد تفننوا في صناعة الحلويات والأطعمة الطبيخية، وذلك ما تفيد به وثيقة من عصر السلطان الحسن الأول (مؤرخة في 15 محرم الحرام 1307 ﻫ)، إذ تكشف عن أسماء أربعة إماء من القصر الملكي، بعثن إلى تطوان لتعليمهن فن صناعة الحلويات والأطعمة الطبيخية على يد الأسر التطوانية الأندلسية، فكانت الأمتان سعادة ومبروكة تتعلمان بدار الحاج محمد اللبادي، والأمتان زايدة العبدية ومسعودة الفاسية بدار الحاج عبد الكريم بريشة، وتصف الوثيقة الحسنية أصناف الحلويات والمطبوخات، وتذكر منها: بشكت، الملوزة، قفافل، بقلاوة، المونضات، المسمنة، الطابع، القطائف، المحنشة، الرغائف بالجبن، البغرير، السنبوست، السفنج، الفقاقص، البجماط، القراشل…
ومن أنواع الطعام المطبوخ، تذكر الوثيقة: البسطيلة بأفراخ الحمام، والمروزية، والخليع…
ومن الحلاوي اليابسة: الفانيد، كعب غزال، البرك، الغريبية، قراشيل الرباط، المجبنة، الكويلش… إلخ.
ويتضح من هذه اللائحة أن أغلب الحلويات أصلها أندلسي، من جهة أخرى يتبين لنا من معطيات “عمدة الراوين” لأحمد الرهوني استمرار عادات التغذية بالمدينة منذ نشأة المدينة إلى زمن المؤلف.
اللباس والتأنق:
من المظاهر الحضارية التي يتجلى فيها التأثير المورسكي بقوة: الملابس، وخصوصا ملابس النساء.
في رسالة بعثها إلى مجلس غرناطة يدافع فيها عن خصوصية ثقافة وتقاليد المورسكيين الغرناطيين الذين كان قد صدر في حقهم منع للغتهم ولباسهم وتقاليدهم وأعرافهم قبيل حرب البشارات الضاربة 1568-1570 م، يحاول المورسكي فرانسيسكو مونييز مولاي إظهار اختلاف الأندلسيين عن باقي المسلمين في المغرب وتركيا وإبراز ما كان يميزهم في شتى مظاهر الحياة اليومية، ويقول عن طريق اللباس الغرناطي: «في ما يرجع إلى لباس نسائنا، فليس بلباس مسلم، إنه فقط لباس إقليمي كما هو الحال في قشتالة وفي أماكن أخرى، فالناس يحاولون التميز عن بعضهم في زينة الرأس والتنورات والأحذية. ومن لا يسلم بأن لباس المسلمينMoros (أو المغاربة) والأتراك يختلف اختلافا كبيرا عن لباسهم (أي الغرناطيين)… أما الرجال فكلنا نلبس على الطريقة القشتالية».
ولكن مثل هذه الإشارات المكتوبة اختفت بعد طرد الأندلسيين سنة 1609 م، واستقرارهم بتطوان، ولم تعد نعرف هل استمر هذا النوع من اللباس الأندلسي مستعملا بالمدينة، إلا أننا نجد خورخي خوان، السفير فوق العادة لكارلوس الثالث لدى سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله سنة 1767 م (1180 ﻫ) وقد مرّ بتطوان أثناء توجهه إلى مراكش، يصف ملابس النساء والرجال في تطوان بكونها لا تختلف في شيء عن ملابس المورسكيات والمورسكيين الغرناطيين.
ويمكن القول أن الأندلسيين حافظوا على عادات اللباس التي كانت لديهم، حيث قامت الأفواج الأولى بترسيخ نماذجه، وتميز لباس النساء التطوانيات بحمولته الثقافية الأندلسية في حين ظل لباس الرجال مشابها للباس المغاربة، والمتمثل بصفة خاصة في البرنس والحايك. وهذا لباس محلي كان عاما بين السكان، اشترك في لبسه الأندلسي والمغربي. ومن المؤكد أن الأندلسيين أدخلوا أشكالا جديدة من الألبسة الداخلية، وأنواعا من الطرز والخياطة. ويتضح من مختلف القرائن أن لباس سكان تطوان له صلة وثيقة بلباس الأندلس، وخاصة لباس الغرناطيين. وقد قدمت الأستاذة آمنة اللوه نظرة مختصرة عن لباس نساء المدينة، وعززت مقالها بأمثلة حية لتأكيد أن معظم ثياب نساء تطوان من أصول أندلسية غرناطية وأوردت أسماء بعض الملابس ذات الأصل الغرناطي ومن بينها: الحايك، البنيقة Albanega، والسبنية، والشربيل، والريحية، القمصان، والطوازين (أو الطرابَق بلغة أهل الجبال) ، ونضيف إلى قائمة الألبسة ذات الأصل الأندلسي: الكنبوش الذي تُرجع بعض الدراسات أصله إلى الكلمة الإسبانية Cambuse للدلالة على غطاء الرأس، ويوضع فوق المنديل والسبنية، ويعتبر من المنسوجات الرفيعة، ومن المحتمل أنه كان شائع الاستعمال بتطوان، باعتباره لباسا أندلسيا، ولا زال اسم الكنبوش موجودا بتطوان إلى الآن. والسلهام، والبلغة، والشاشية، والبدعية، والمضمة، والكرزية التي ما زالت مستعملة عند قدماء التطوانيين، وفي الرباط وسلا حتى عهد قريب، وما زالت تستعمل كشيء رئيسي عند فلاحي وحدادي أرغون وقطلونيا والأندلس وبلنسية.
ونعتقد إن أهالي تطوان كانوا ميالين إلى التأنق في اللباس، حريصين على المظهر اللائق في سائر الفصول، والنظافة والأناقة… وهذه المظاهر تذكرنا بحديث المقري عن الأندلسيين في هذا المجال، حيث قال: «وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون وغير ذلك ما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائما ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه، لا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها»، فالأندلسيون الذين اعتادوا ذلك في بلادهم استصحبوه في مهجرهم وتركوه في أحفادهم.
والجدير بالذكر أن نساء قبائل جبالة وناحية تطوان لا زلن يلبسن لباسا يشبه لباس النساء المدجنات ونساء غرناطة، فهن تتزين بالمنديل المورسكي المخطط غالبا في الأحمر والأبيض، يسمى “أتازير”، ويعتمرن “الشاشية” وفوطة بيضاء توضع على الكتف، وحزام يربطن به المنديل يسمى الكرزية، إنهن ببساطة وريثات التاريخ الأندلسي.
التأثير اللغوي:
يعتبر التأثير اللغوي من أبرز عمليات التواصل بين العنصر المغربي والأندلسي، واحتفظت لنا المصادر الأندلسية خاصة بإشارات تصف لنا فصاحة الأندلسيين. لكن الأمر تغير بعد سقوط غرناطة، وأصبحت اللغة العربية في تراجع لتزايد المصطلحات الإسبانية الدخيلة، وتفاقم الأمر عندما قامت السلطة الإسبانية بمنع تداولها تماما، فأصبح لزاما على المسلمين الأندلسيين الكتابة والحديث باللغة القشتالية… وقد كان المورسكيون يعبرون عن أسفهم الصريح لاستعمالهم اللغة الإسبانية لشرح تعاليم الدين الإسلامي الذي لا يمكن شرحه إلا باللغة العربية. يقول أحدهم: «لا أحد من بني قومنا يعرف اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم ولا يفهمون حقائق الدين، ولا يدركون سموه الحقيقي دون اللجوء لشرحها بلغة أجنبية، لهذا أطلب المعذرة لمن يقرأ ما كتب بالقلوب، علما أن نيتي ما هي إلا فتح طريق النجاة للمؤمنين المسلمين حتى ولو كان باستعمال هذه الوسيلة الحقيرة والدنيئة».
ويقسم الباحثون التأثير اللغوي الأندلسي إلى مرحلتين:
الأولى قبل سقوط غرناطة وبعدها بقليل وتميزت بانتشار العامية الأندلسية، وقدر الأستاذ محمد بنشريفة أن قسما كبيرا من الأمثال الأندلسية الواردة في مجموعة الزجالي ما تزال مستعملة في حواضر المغرب وبواديه.
ثم مرحلة ثانية والتي أدت إلى انتشار اللغة الإسبانية، وهي التي توافق الطرد المورسكي الأخير. في هذه الفترة يقول “بيدو دي سان أولون” في تقرير له : «إن سكان تطوان الذين يدعون أنهم أندلسيون، والذين يقدر عددهم بحوالي خمسة عشر ألف نسمة، يتحدثون كلهم تقريبا الإسبانية».
ونلاحظ التأثير الأندلسي واضحا في اللهجة التطوانية التقليدية وطريقة النطق، فهي موسومة بالإمالة الأندلسية الشامية الحادة كما أن من خصائصها البارزة: «التصغير، تصغير الكلمات: خاتم= خويتم، غراف= غريرف، كأس= كويس، طاجين= طويجن إلخ»، كما انتشرت في لهجة أهل تطوان صيغة “فعلون” للتعظيم والتفخيم، وهي صيغة أندلسية، كقولهم حمدون، زيدون، خلدون…، وقد كان «قدماء هذه المدينة من الأندلسيين، ينطقون بالقاف في كل كلمة همزة مفخمة، ولا ينطق بالقاف أصالة إلا الأفاقيون، ولا زال ذلك في جل النساء ومن يتخلق بأخلاق أسلافه من الرجال».
لقد كتب أحمد الرهوني جزء من كتابه “عمدة الراوين في تاريخ تطاوين“، خصصه للغة أهل تطوان، مبرزا أنها عربية عامية من حيث المبدأ، تعرضت لتأثير اللغة البربرية بحكم الجوار والهجرة، ولتأثير اللغة الإسبانية بحكم أن أكثر سكان تطوان الأولين كانوا من أهل الأندلس الوافدين المستعجمين، «أتوا بعربية مخلوطة بعدة ألفاظ إفرنجية، أحدثوا لغة مؤلفة من عربية وبربرية وإفرنجية». إن كثيرا من الألفاظ العامية الإسبانية الأصل هي من القشتالية القديمة، قد دخلت مع الأندلسيين المهجرين الغرباء، وغالب هؤلاء جاء إلى المغرب لا يعرف من العربية إلا ما لا عبرة به، ثم استعرب بعد استعجام دام أزيد من قرن. هذا، وتحفل المخطوطات العجمية المورسكية بالعديد من المفردات التي ما تزال مستعملة في لغة التخاطب اليومية إلى يومنا هذا في بعض المناطق، خاصة في شمال المغرب، وبالأخص في مدينة تطوان وغيرها من مناطق الاستقرار الأندلسي الأخرى بالمغرب، مثل الرباط وسلا، سواء في مجال الألبسة والأفرشةأو مجال المواصلات والنقل أو في مجال الطبخ( أو في مجال اللهو والموسيقى أو في المجال التجاري والديبلوماسي والصناعي أو في المجال العسكريأوفي مجال الأماكن والأشكال أو غيرها من مجالات الحياة اليومية.
العائلات الأندلسية:
إذا كان الإرث الأندلسي يتجلى بوضوح في عدة جوانب من الحياة اليومية (الطبخ واللباس) فإن ما وصلنا من الثقافة المادية يعتبر ضئيلا، وربما وجدت بعض هذه الآثار الملموسة في المكتبات، الخاصة منها على وجه الخصوص، حيث تحتفظ مخطوطات غرناطة القرون الوسطى ومدن أندلسية أخرى [من نوادر المكتبة الداودية بتطوان مصحف غرناطي مذهب مكتوب على رق الغزال، يرجع تاريخه إلى القرن الثامن الهجري، والمخطوط الألي لكناش “الحايك” في أشعار وأجزال الآلة الأندلسية، يحمل تاريخ 1202 ﻫ/ 1788 م]. وفي الماضي كانت توجد في المدينة أسياف مأثورة خاصة عند عائلة الخطيب قبل أن يستولي عليها الإسبان سنة 1860 م.
ويروى أن المهاجرين الأندلسيين قد احتفظوا بسندات الملكية وكذا بمفاتيح دورهم التي أرغموا على تركها بإسبانيا، وإذا كان في هذا الزعم قدر كبير من الأساطير، فما لا يمكن إنكاره هو ذلك الاستمرار العجيب لذريات أقدم العائلات الأندلسية (الأعيان الأندلسيون) وحفاظها المتميز على عاداتها وتقاليدها، ذلك الحفاظ المقرون بالحنين الدائم إلى الأندلس، وهي سمات بارزة ميزت الشعوب التي أفقدت أعز ما لديها. وتبقى تطوان مع فاس والرباط- سلا معقلا من أشد المعاقل تحينا للثقافة الأندلسية في المغرب.
وتوجد في أيامنا هذه عدة عائلات تطوانية يمكن إثبات أصلها الإسباني انطلاقا من أسمائها كـ: لوقشLucas وغرسيةGarcia وموراريش
Morales وراغون Aragon، أو انطلاقا من وجود حرف ب P فيها، وهو حرف غير مستعمل في لغة الضاد، كاسم البروبي Probi أو بايص Payes .
وتذكرنا العائلات اليهودية أيضا بأسلافها المورسكيين أو المتنصرين كـ: طوليدانوToledano وباريينطيPariente وبينطوPinto ومورينوMoreno ولاريدوLaredo ، إلخ.
ومن بين أندلسيي تطوان عائلات تحمل أسماء عجمية: البانزي Ponce, وبايصPaez والرويز RuizوغارسياGarcia ومارتيلMartine ولوقاش Lucas إلخ…
ومنها ما هو نسبة إلى بلدة أو منطقة الأندلسي واللبادي (أبدة) والمنظري وراغون (أراغون) والركاينة والرندي، والغرناطي (غرناطة) والقرطبي (قرطبة) قشتيليو وقبريرة ومدينة ومندوصة ومراريش وصالاس وبورطو والطريس ومولينا والرينة، إلخ… ومنها ما هو نعوت اللب ومولاطو ومرينو والسوردو والسكيرج (Esquiles) والراندو والدليرو إلخ…
ومنها ما هو عربي: ابن الأحمر والتبين والرزيني وزكري والخضري والخطيب وداود والرفاعي وغيلان والفخار والموفق ونصر والعطار والقطان والقيسي والوزير والسراج وقريش…
و منها ما هو أمازيغي: أجزول وأشعاش أفوقاي، إلخ.
أهل البلد
ولم يكن هذا المجتمع يخضع في تصنيفه دائما إلى معايير سوسيو- اقتصادية فحسب، وإنما كان يعود في ذلك إلى معايير أخرى لها علاقة بمجال التعايش الاجتماعي المبني على خصائص عرقية كالأصل والمحتد، فأهل البلد «يعتبرون هم السكان الأصلاء الذين عمروا المدينة بعد إعادة تأسيسها … وقد ألفوا مجموعة بشرية حافظت على مكانتها وعلاقاتها وظلت مزهوة بنسبها، محتفظة بشجرة نسبها الأندلسي. وقد تحدث عنهم كثير من الزوار الأوربيين وسموهم “المورو” [أو الأندلسيين] ونعتوهم بأوصاف تدل على تحضرهم».
الاحتياط والتدبير:
ومن مظاهر تأثيرهم أيضا الاحتياط والتدبير في المعاش، وكراهية إظهار الحاجة، ولو كان بالمرء خصاصة، لذا ترى كل الأسر مقبلين على الادخار من المحصول الذي حل فصله، فالزيتون يصبر، والزيت يدخر والسفرجل يصنع منه المعجون، والعنب يتخذ منه الزبيب، والتين يجفف ويتخذ منه (الشريحة)…
وهذه النفسية هي التي جاءت في حديث المثري عند كلامه عن الأندلسيين بإسبانيا حيث قال: «هم أهل احتياط وتدبير في المعاش، وحفظ لما في أيديهم خوف ذل السؤال، فلذلك قد ينسبون للبخل».
«نعم، أحب أن أقرر حقيقة ثابتة ثبوت القطب في مركزه، وواضحة وضوح الألوان تحت ضوء النهار… وهي أن تطوان مدينة لم تتدرج كغيرها من المدن الناشئة من مدشر إلى قرية، ومن قرية إلى مدينة، وإنما هي مدينة ولدت كاملة، فمن أول يوم جدد فيها بناؤها الأخير، كانت مركزا للحضارة الأندلسية، ومهدا للرقي المهذب، لأن المؤسسين، أو بالمعنى الصحيح، المجددين، كانوا من أرقى البشر الموجودين في ذلك العصر».
«أما الرجال فكانوا… شرفاء النفس وأصحاب كلمة واحدة، حتى أنهم اشتهروا في الأسواق بالصدق والأمانة، وخاصة بين أهالي غرناطة، حتى غدوا مضرب الأمثال بين الناس، فيقولون: «كلمة الغرناطي وإيمان القشتالي يؤلفان كاثوليكيا قديما»، هذه الظاهرة نجدها في أهالي تطوان، فلا غرابة في أنهم من أصل غرناطي.