«جوردي استيفا» يكشف سرّ البحر ورائحة الهيل التي تهبّ من زنجبار
دنى غالي
عودة جوردي أستيفا الى القاهرة ضرب من الخيال وما له من فعل الصدفة و«المكتوب»، والانتقام أيضا كما ذكر. ذلك لا يبتعد كثيرا عن شخصه، عن حب المغامرة لديه والاكتشاف وروح الإصرار أيضا.
«في الإسلام للرجل الحق في أربعة، في التبت للمرأة حق الزواج بأربعة، في سيوه هناك رجال يتزوجون من رجال، وفي بعض دول شرق آسيا تعيش الزوجة في بيت منفصل عن بيت الزوج»، لذا الحقائق ليست واحدة والصح أمر نسبي. جاب العالم وحاور الناس غربا وشرقا وانتهى إلى أن التنوع التام لا يمكن تصنيفه إلى صح أو خطأ. هذا هو ما استهل به جوردي استيفا المصور الفوتوغرافي والكاتب الإسباني حديثه في معرض الكتاب الذي انعقد في نهاية يناير/كانون الثاني حين تمت استضافته بمناسبة صدور ترجمة عربية لكتابه القيم «عرب البحر» وتحت عنوان ثانوي «من موانئ الجزيرة العربية إلى جزيرة السندباد»، وقد قام بترجمة الكتاب الذي قارب عدد صفحاته الـ500 صفحة، والذي صدر عن دار سنابل طلعت شاهين.
أميل إلى أن الكتاب يقول الكثير عن جوردي، الذي لبى نداء حقيقيا بالخروج من بيئته الكتالونية واكتشاف العالم بأوجهه المختلفة وثقافاته وناسه.
«يوما ما سأخرج ولن تروني» غالبا ما ردد تلك المقولة ـ وهو طفل متمرد ـ على أسماع أمه وأبيه، وقد فعلها.
رحلة شيقة استمرت 25 عاما تنقل خلالها بين الموانئ على طول السواحل الأفريقية من جهة الشرق تقفيا لأثر من كانوا أمراء البحار وسادتها من العرب.
جوردي استيفا يتكلم العربية التي سقط الكثير منها بسبب الزمن الذي مرّ منذ إبعاده عن مصر عام 1985، يتنقل بشغف وفهم عميق من حديث إلى حديث يخص الناس الذين التقى بهم على مر السنوات وجمع منهم الكثير من المعلومات التي تخص رحلته.
تفاصيل ممتعة منها، وعلى سبيل المثال، كيف أنه التقى في فندق في السودان بفرقة للسيرك في منتصف السبعينات يترأسها ساحر وراقصتان وافراد آخرون معدودون، عرضوا عليه مرافقتهم الطريق عائدين إلى مصر ففعل.
كانوا مهووسين بأم كلثوم وسحرها الذي انتقل إليه وإلى اليوم.
أما قصة نفيه من القاهرة فهي باختصار اتهامه بمحاولة قلب النظام في مصر مع مجموعة من أصدقائه من الكتاب والفنانين اليساريين عام 1985 وقد ألقي به في سجن القناطر في زنزانة جمعتهم كلهم، بعد أن جاؤوا به حينها من الواحات.
استغرب ضحك أصدقائه ومزحهم حين وجدوا أنفسهم في موقف كوميدي سريالي لا يحمد عقباه، فالتهمة كانت في انتمائهم إلى حزب إسباني يقوده جوردي، ومازالت المجموعة أو ما تبقى منها يتندر بتلك الحادثة.
وجوردي الذي أطلق سراحه وتم نفيه عاد بعد 20 عاما ليتحدث عن ذلك من على منبر معرض القاهرة للكتاب وسط إقبال كبير على الندوة.
عندما توجه في البدء إلى لندن بحثا عن السفن العربية القديمة لم يعثر على شيء، بينما احتوى معرض ضخم للملاحة عبر التاريخ كافة أنواع السفن والمراكب وتاريخ صناعتها وتطورها في أوروبا، وحتى الأماكن القديمة والموانئ التي قرأ عنها والتي امتدت من شواطئ الجزيرة العربية وحتى شرق افريقيا اختفت، فما الذي يفعله؟ لذا قرر اللجوء إلى الحكاية الشعبية الشفهية، إلى الذاكرة، ذاكرة الناس، الوحيدة التي تبقت من أجل تقفي هذا الطريق.
من قبطان إلى قبطان أو من نوخذة في عُمان إلى نوخذة في زنجبار حتى وصل إلى جزء من مسعاه وشق طريقه.
يذكر أن النوخذة الذي التقى به في صور في سلطنة عمان، الولاية التي عرفت بتاريخها البحري الطويل حدثه عن رائحة الهيل التي كانت تفوح هابة من زنجبار وهم مقبلون في البحر عليها، وهي صورة يمكن أن نطلق الخيال فيها حرا ليجسدها.
جاء الكتاب حصيلة للرحلة الطويلة التي لم تخل من الصعاب، ولكنه كتاب يتناول التجربة الشخصية من دون تهيب في ذكر التفاصيل، سواء كانت من الواقع أو من وحي الخيال على لسان الناس، ولعل هذا أكثر ما يميز الكتاب ويعكس جزءا مهما من ولعه في التعرف على المجتمعات القديمة التي لم تفسد الحداثة الجانب الإنساني الأصيل فيها ولا ثقافاتها الشعبية. كتابه في أدب الرحلات تاريخي شامل، تضمن بحثا عن الحضارات العربية القديمة وفترة ما قبل الإسلام وإلى اليوم، عندما اكتشف عرب ما قبل الإسلام سر المحيط الهندي والرياح الموسمية التي يقتصر وجودها على المحيط هناك، وأقاموا تجارة كبرى وسيطروا على المحيط، وكان لديهم أشهر البحارة وأكبر التجار. يرى جوردي أن الإسلام انتشر بسبب التجارة حين احتكروا نقل التوابل بأنواعها عن طريق البحر، وأثناء الخلافة الإسلامية في بغداد كانت تلك تجارة مزدهرة سيطروا عليها. وهو ما جعل البرتغاليون يتنبهون إلى ذلك ويحاولون من بعدها كسر احتكار العرب لتجارة التوابل. أرسلوا سفنهم التي فشلت المرة بعد المرة حتى أحضر إليهم الملاح أحمد بن ماجد الذي دلّهم على طريق الاستدارة حول رأس الرجاء الصالح وأخبرهم عن سر طبيعة المحيط ورياحه الموسمية. ويذكر أن ذلك كان قد حدث نتيجة الخلافات بين السلطنات المنتشرة على السواحل هناك، وما حدث كان انتقاما من قبل أحد السلاطين في مومباسا، الذي جاء بابن ماجد الملاح. يذكر جوردي استيفا أن الأخير كان السبب في سقوط هذه التجارة وكسر احتكارها كما قيل. تفاصيل لا حصر لها أنقذها الكتاب من التلاشي والنسيان لقصص خرافية عمد التاريخ الرسمي إلى مسحها.
يكرر جوردي من خلال كتابه أن العرب الذين عرفوا بصحاراهم هم أصلا عرب بحر.
وفي ختامه وبعد مضي 25 سنة من تلك الرحلة كان يتأمل الوجوه التي كان يرافقها في مدينة تقوى ويتذكر الوجوه التي مرت به قبلها، ويكتب أن ذلك هو عالم عرب البحر، لم يكن قد اختفى بالفعل، إنه لايزال يعيش في الذاكرة وهذه هي الوجوه الحقيقية لأحلامه، بفضلها تحولت إلى واقع، الحلم الذي رافقه منذ طفولته ويخشى الآن في لحظة وداعه أن يتحول ثانية إلى حلم محبوس في زجاجة.
ويختم كتابه القيم الممتع والشيق بتذكر العجوز جعفر الذي التقاه قبل 25 سنة على شاطئ يمني حين سأله عن معنى البحر، وبدلا من فتح ذراعيه ليظهر وسع البحر ضم العجوز ذراعيه إلى بعضها وشبك يديه ثم رسم بهما خطا مستقيما ينطلق من الرمل صوب الأفق وقال؛ البحر هو الطريق.
كاتبة عراقية ـ كوبنهاعن