تعزفُ الموسيقيَّة أنوشكا شنكر على أوتارِ القلبِ ومروجِ الرُّوح
وكأنَّها في حالةِ ابتهالٍ غامرٍ بكلِّ تجلِّياتِ بوح الرُّوح
أنوشكا شنكر
(37)
تعزفُ الموسيقيّة الهنديّة أنوشكا شنكر على أوتارِ القلبِ ومروجِ الرّوح أشهى ابتهالات الفرح، بطريقةٍ تبهجُ أحلامنا الغافية على مساحات أريج الحنين إلى البيوت العتيقة، كأنّها في حالةِ ابتهالٍ غامرٍ بكلِّ تجلِّياتِ بوح الرّوح، تعزفُ على إيقاعِ انهمارِ زخَّاتِ المطر وهي تنهمرُ بحبورٍ غامرٍ فوقَ دنيانا، ورذاذات هذه الزّخات في أوجِ حنينها لتروي اخضرار الحنطة وعطش الدَّاليات المبرعمة أغصانها فوقَ غربة هذا الزّمان، مهدهدةً الأطفال وهم في أبهى إغفاءاتهم بين أحضانِ أمّهاتهم، وتبعثُ في قلوبِ العشّاقِ أشهى تجلِّياتِ العناقِ في هدوءِ اللَّيلِ الحنون، وكأنّها تشاركُ ضياء القمرِ في رسم معالم الفرح المتنامي فوقَ وجوهِ المحبِّينَ وهم في أوجِ انتعاشاتِ الرّوحِ، تتناهى أنغام موسيقاها إلى أزاهير الرَّبيع، فتسترخي الكائنات البرّيّة تحتَ ظلالِ الاخضرارِ بمرحٍ طافحٍ بأزهى حبورِ الأنغامِ!
تنسابُ موسيقاها بهجةً إلى تجاويف معبر الأذنِ؛ كي تخفِّفَ من حدَّةِ الآهاتِ المتسرِّبة إلى ظلالِ القلبِ، وتبلسمَ أوجاعَ الانكسارات المتفاقمة من شراهةِ الحروب المندلقة من جشاعةِ أوداجِ هذا الزَّمان اللّاهثِ خلفَ قشورِ الحياة،فتمسحَ عن يومِنا تراكمات الجراح الغائرة فوقَ صدغِنا وصدورِنا وآفاقِ أشواقنا المرصرصة بأجيجِ الاشتعالِ؛ لعلّها تخفِّفُ من ضجرِ الآهاتِ الجاثمة فوقَ ضفائرِ الأحلامِ. تساءَلتُ مرارًا: لِمَ تتفاقمُ كل هذه الجراح فوقَ ثغورِ الطَّبيعة، غير عابئة بكلِّ هذا الجمال المتنامي من أنغامِ الموسيقى وتغريدِ البلابل وروعة المروجِ الباسمة لإشراقةِ الشّمسِ؟! ولمَ أتلقَّ جوابًا يشفي غليلي الملفّح بوهجِ انبعاثِ الحرفِ فوقَ ضفائرِ القصيدة.
أنوشكا شنكر؛ كينونة مستنبتة من تغريدِ أنغامِ البلابلِ وحفيفِ الرّيح الملفّحة بأسرارِ شموخِ الجبالِ واخضرارِ الأشجارِ المتعانقة بأعشاشِ العصافير، كم من الجمال وألقِ الابتهالِ انبلجَ من شهيقِ أنوشكا حتَّى استطاعت أن تناغي بأصابعها الرّهيفة أوتارَ السّيتار، آلتها المدهشة بأنغامِها المهدهدة لحبور رقصةِ القلبِ وانبهارِ الرّوحِ، كيفَ استطاعت أنوشكا أن تتعانقَ معَ موسيقاها بكلِّ توهّجاتِ هذا الابتهال، وتنقشَ تجلِّياتها فوقَ روابي الرُّوحِ دونَ أن تتركَ مجالًا لتناثراتِ الغبارِ من الاقترابِ من دندناتِ بوحِ أوتارِها المنسابة نحوَ أهازيج الأحلام الغافية فوق خدودِ البحار؟!
ترقصُ الرُّوح طربًا وهي تسمعُ انسيابيّة ألحانها وأنغامها، كأنّها موسيقيّة مفطورة على عزفِ أبهى الألحان، وكأنّها تمرَّست طويلًا معَ تغاريدِ البلابل وطيورٍ مغرّدةٍ على إيقاعِ أمواجِ البحرِ، تعزف بمهاراتٍ مدهشةٍ، كمَن تسردُ أسرارَ الأنغامِ الغافية بينَ هلالات مروجِ الرُّوحِ، تطلقُ العنانَ لبهاءِ موسيقاها وتناغماتِ تجلِّياتها بتقنيّاتٍ مبهرة في أدائها الفنِّي، فتطربُ أسماعنا بروعةِ أهازيجها المتدفِّقة مثلَ شلَّالات الفرح، فترتقي أرواحنا نحوَ الأعالي وكأنّنا في رحلةِ عبورٍ في أبهىِ خمائلِ النّعيم!
لا ترتوي الأذن من رهافةِ أنغامِها ومناجاتها، تحلِّقُ عاليًا وهي تهدهدُ كياننا المتعطّش لهذا الألق المنساب من أنغامِها، تهمسُ لأرواحنا وقلوبنا عن أسرارِ الفرحِ، وتمسحُ عن جبهتنا أحزانَ غربتنا معَ ذواتنا، وتستنهضُ أبهى ما في أعماقِنا من شوقٍ إلى عناقِ الجمالِ بكلِّ تلاويينه، وتفرشُ فوقَ ليلنا ابتهالات انبلاج ألق القصائد؛ فهي نغمُ القصيدة المرفرفة فوقَ أغصانِ الحلمِ المجنّحِ بكلِّ تلاوينه، وتفرشُ القصيدة المرفرفة فوقَ أغصانِ الحلمِ المجنّحِ نحوَ هلالاتِ الطّفولة، وتغمرُ قلوبنا بأنغامِ الحنين إلى أحواشِ البيوتِ العتيقة؛ حيثُ هديل اليمام يتناهى إلى أسماعِنا عن أنغامِ هدهداتِ الأمّهاتِ لأطفالهنَّ.
أنوشكا حالة فرحيّة من لونِ الشَّفقِ الصَّباحي، تنقشُ في أزاهير الحنين قبلةَ الحبِّ، فيرتعشُ القلب شوقًا إلى أغاني الحصّادين وهم يحصدون على أنغامِ زغاريد الأمّهاتِ، تُشبه موسيقاها لوحات تشكيليّة محبوكة بألوان الفرح، وشهقة الرُّوح وهي تناغي تهاليل السَّماء.
تمتلكُ مهاراتٍ مدهشة لأصابعها الرَّهيفة، وهي تعزفُ على سجّادةٍ على الأرضِ، وكأنّها معلَّقة ومحلِّقة في مآقي السّماء، تعزفُ بتقنيّاتٍ مبهرة، وكأنّها تحاورُ الرّوح عن أسرارِ الأساطير المعشَّشة في مرامي الأحلام، فرحٌ في شغافِ الرُّوحِ ينمو، تبلسمُ جراحنا الخفيّة، وتسقي أشواقنا الغارقة في مروجِ الحنينِ إلى عناقِ همهماتِ اللَّيلِ، تُشبهُ سنبلة شامخة فوقَ جبلٍ معشوشبٍ بأزاهير طافحة بأريجِ السَّوسن المندَّى بحبورِ الصَّباح.
الموسيقى لغة الكونِ الأزليّة؛ لغةُ السّماءِ المنسابة من مآقي غيمة حالمة بعناقِ الأرضِ عناقًا شهيًّا عميقًا، محتبكًا بطراوةِ ثمارٍ من نكهةِ الجنّة، الموسيقى كائنٌ مسكون بين أجنحةِ الرُّوحِ، سرٌّ منبعثٌ من حفيفِ الأشجارِ، صديقةُ الغاباتِ ونسيمِ الصَّباحِ، الموسيقى لغة عاشقة معرِّشة في مروجِ السّماءِ، تبتسِمُ للشمسِ، للزنبقِ المزروع فوق ضفيرةِ القصيدة وهي تغرِّدُ تهويدةً للأطفالِ قبلَ أن يناموا بين أحضانِ اللَّيلِ الحنون. تذكِّرني بأحلامي المجنّحة نحو آفاقِ جنانِ النّعيم، ما هذا البهاء المبرعم في انبعاثِ أنغامها؟! تناجي قلوبنا وتنتشلُ كلَّ الأحزان المتناثرة حولَ شواطئ القلب. كم تبهجني تجلِّيات موسيقاها وكأنّها هديّة متهاطلة علينا من رحابِ السّماء!
أنوشكا شنكر موسيقيّة مفعمة بالتَّجلّيات، عيناها باسمتان مضيئتان مثلُ شموعِ الرّوحِ، جبينٌ شامخٌ كاخضرارِ النّخيل، موسيقاها رهيفة مثلُ هبوبِ نسيمِ الصَّباحِ وهو ينعشُ قلوبنا العطشى إلى المياهِ العذبة، ترسمُ فوقَ وجناتنا أزهى حبور الفرح، وتناغي ليلنا بمذاقِ الطَّربِ الأصيل، تعزفُ أنغامها بوهجٍ عميقٍ، كأنّها تحلِّقُ في بهاءِ هلالاتِ السَّماء، فتنضحُ عيوننا دمعًا محتبكًا بالفرحِ وأشهى تجلِّيات الابتهال!
ستوكهولم: (28/ 2/ 2020).
صبري يوسف