بين أحضان سلسلة جبال الريف، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وعلى مقربة من المحيط الأطلسي، تقف مدينة “شفشاون” المغربية أو كما يسميها أهلها “الشاون”، شامخة بسحر لونها الأزرق وطبيعتها الخلابة لترسم لوحة عشقتها الأعين واشتاقت لرؤيتها القلوب واهتزت بسماع اسمها المشاعر.
رائحة المدن تأخذكم في جولتها الأسبوعية لمدن المغرب العربي إلى “مدينة السيدة الحرة”، “شفشاون” المغربية التي تتسم بالسمات الجبلية، ذات التضاريس الصعبة والانحدارات المفاجئة والأودية المنخفضة والانكسارات الحادة.
شفشاون المدينة الزرقاء
“يا جهة الأقحوان.. يا توأم السماء.. أشاء أحيانًا أن أتحول زبدًا في ساقياتك، أو صدى في ينابيعك.. فلا أمتلك القدرة، ولا تسعفني الحيلة، فأكتفي بالتملق في وجهك الأزرق الذي لا شبيه له بقسماته” بعض ما قيل من قصائد تتغنى بشفشاون الساحرة من شاعرها الفصيح عبد الكريم الطبال.
مدينة ساحرة بلونها، خلابة بطبيعتها، اختارت أن تُحيك لنفسها ثوبًا وترتديه، تزاوجت فيه ألوان السماء والشلالات المحيطة، فانعكست بكل زرقتها على أرض هذه المدينة الصغيرة الواقعة بين أحضان الجبال.
شلالات المدينة
شوارعها وأزقتها الضيقة وأدراجها الملتوية، جدرانها ومنازلها، أبوابها ونوافذها، حتى الصناديق الخاصة بالقمامة وأعمدة الإنارة، كلّها ارتدت اللون الأزرق في تناسق وانسجام، كأنها جوهرة زرقاء ولدت من رحم السماء تنبض بالحياة، فسميت بـ”المدينة الزرقاء” التي أصبحت من أهم مناطق الجذب السياحيّ في المغرب والعالم بعد أن احتلت المركز السادس ضمن أكثر مدن العالم جمالاً.
تتميز المدينة بطيب أهلها وهدوئها الساحر الذي يبعث على راحة البال والسكينة وجمال طبيعتها وغاباتها المترامية الكثيفة
لون أزرق لا يعرف سرّه الكثير، فالروايات بخصوصه كثيرة ومنها أن اليهود عندما سكنوا شفشاون بعد نزوحهم من إسبانيا نتيجة أعمال التطهير العرقي والديني ضد غير المسيحيين بدأوا في طلاء منازلهم باللون الأزرق ثم استمروا في طلاء كل ممتلكاتهم بهذا اللون لاحقًا وذلك اعتقادًا منهم أنه اللون الأقرب للون السماء وأن ذلك سيذكرهم بالله.
ومن الروايات أيضًا أن الناس يصبغون المدينة باللون الأزرق كرمز للسلام والتسامح وذلك بعدما احتضنت اليهود والأندلسيين والمورسكيين الذين طردوا من ديارهم.
أزقة شفشاون وجدرانها الزرقاء
إلى جانب لونها الأزرق تتميز المدينة التي بنيت سنة 1471 لإيواء العائلات الأندلسية المسلمة واليهودية التي غادرت غرناطة هربًا من بطش الإسبان آنذاك، بطيب أهلها وهدوئها الساحر الذي يبعث على راحة البال والسكينة وجمال طبيعتها وغاباتها المترامية الكثيفة المتنوعة الأشجار وحدائقها الغنّاء ومنبع “رأس الماء” وشلالاته العذبة التي تشقّ الجبال ومرتفعاتها المكسوة بالزهور والنباتات المتنوعة وبمناخها الجبلي الجاف وربيعها الذي تشتد فيه زرقة السماء وكثافة الأزهار وهدوء حدائقها الذي لا يقطعه سوى خرير مياه العيون وتغريد الطيور.
الحداثة والأصالة يجتمعان في “شفشاون”
في مركز المدينة القديمة، حيث يكثر السيّاح، تقع الساحة الرئيسية للمدينة “ساحة وطاء الحمام”، التي تضم في طياتها العديد من المقاهي والمطاعم المظللة بالأشجار ويقف المسجد الأعظم فيها شامخًا، تتفرع عنها الأزقة المتعرجة الضيقة التي شكلتها الدكاكين التي تبدو أشبه بالمتاحف.
وتعود تسمية الساحة بهذا الاسم إلى أنها كانت تضم محلات ومخازن لحبوب الزرع، مما جعل الحمام يتخذ من الساحة موطئًا له يلتقط منه الحبوب، ليصبح اسمها “وطاء حمام“، وتشكل هذه الساحة المنبسط الوحيد للمدينة، إذ إن بلوغ شوارع المدينة ودروبها لا يتم إلا صعودًا أو نزولاً.
أنجبت شفشاون “السيدة الحرة”، المرأة التي حكمت تطوان ونواحيها لأكثر من ثلاثين سنة
وعلى نواصي الشوارع تجد التجار التقليديين يعرضون منتجاتهم اليدوية التقليدية الجلدية كالأحذية والحقائب ومنتجات صوفية وزرابي وملابس تقليدية مطرزة وعباءات مغربية ومجسمات ديكور تحاكي أبواب شفشاون ونوافذها.
دكاكين المدينة أين تباع المنتجات التقليدية
وفي الجزء الغربي للمدينة التي أنجبت “السيدة الحرة”، المرأة التي حكمت تطوان ونواحيها لأكثر من ثلاثين سنة، شيدت القصبة التي تعد النواة الأولى لشفشاون وأحد رموزها الثقافية والفنية، أين كانت الإدارة والمخزن والسجن والجيوش، محاطة بسور تتوسطه عشرة أبراج على النمط المعماري الأندلسي الذي يجمع بين البساطة والتناسق.
حديقة القصبة
وتحتوي القصبة إضافة إلى فضاءات الخزف الريفي ومنتجات الحرف التقليدية وقطع الحلي، على حديقة كبيرة مُزيّنة بحوضين، عدا عن المتحف الإثنوغرافي الذي يعتبر أهم معلم ثقافي في المدينة، حيث يعرض المتحف لوحات تاريخ المدينة من خلال لوحات فنية قيمة، كما يعرض أيضًا الزي التقليدي لسكان شفشاون، بالإضافة إلى بعض الآلات الموسيقية الأندلسية القديمة.
مقصد الصوفيين
لم ترث مدينة “شفشاون” التي تبلغ مساحتها 10.4 كم2، والبالغ تعداد سكانها نحو 50 ألف نسمة، من الأندلسيين العمارة فقط، فقد ورثت منهم أيضًا الثقافة الصوفية، حيث تنتشر الزوايا التي تلعب دورًا مهمًا في إضفاء روح التسامح والتعايش مثل الزاوية الشقورية والدلائية والدرقاوية والحراقية والعلمية، حسب سكان المدينة التي أنجبت الشاعر الصوفي عبد الكريم الطبال (1931)، الذي يعدّ من أبرز الشعراء المنشغلين بقصائد جلال الدين الرومي والنفري والحلاج، وأنشأت المجموعة المتخصصة في مجال الغناء الصوفي وهي “الحضرة الشفشاونية النسوية”.
أكلة الحلزون
إلى جانب الغذاء الروحي، اشتهرت المدينة بأكْلة “القواقع” (الحلزون)، ويعد هذا الطبق اللذيذ بطريقة فريدة بعد خلطه بمجموعة من الأعشاب والزيتون، كما أن لمرق الحلزون نكهة خاصة، والحلزون الذي يختبئ في النهار ويخرج في الصباحات الباكرة يتم العثور عليه وفق عملية بحث منظمة تشبه رحلات صغيرة لصيده وجمعه، ومن ثم بيعه لأصحاب العربات أو يجلب لطبخه في المنازل.