كرحيقِ الفرحِ المنبعثِ من أعماقِ تجلِّياتِ الرُّوحِ
إيرين پاپاس
(28)
تمتلكُ الفنّانة اليونانيّة إيرين پاپاس صوتًا منسابًا كرحيقِ الفرحِ المنبعثِ من أعماقِ تجلِّياتِ الرّوحِ، يوقظُ صوتُها في أعماقي حنينَ الحبِّ والدِّفءِ إلى ربوعِ الطُّفولةِ والصِّبا والشَّبابِ، ويُنسيني ضجرَ اللَّيلِ وأوجاعَ النَّهارِ. يبدِّدُ حنانُ صوتِها المآسي الّتي رافقتني طويلًا عبر محطّاتِ انكساراتي المتتالية، أنا المعروف بتحدِّي انكساراتي وتحويلها إلى توهّجاتٍ إبداعيّة، وأنظرُ إلى فشلي بكلِّ تفرّعاته كينبوعِ فرحي وإبداعي. فيروز أغدقَتْ عليَّ عبر أغانيها بهجةً وسرورًا في كلِّ مراحل عمري، وخفَّفَتْ عنِّي الكثير من ضجرِ الحياةِ، وإيرين پاپاس منحتني غبطةَ الغبطاتِ، وجعلتني أتغلَّبُعلى هزائمي وأتطهَّرُ من شوائبِ هذا الزّمان، رافعًا رأسي نحوَ قممِ الجبال، غير آبهٍ بميزانيّة أغلى جواهرِ الكون. الكلمةُ الصّادقةُ أغلى جوهرة في الدُّنيا، الكتابةُ هي حضارةُ الحضاراتِ الَّتي نبني عليها آفاقَ الحلمِ القادمِ والأحلامِ الّتي لم تأتِ والّتي ستأتي بعد أجيالٍ وقرونٍ وبعدَ آلاف السّنين. الكتابةُ رصيدي الأبقى الّذي لا يستطيع أحدٌ أنْ يزعزعَه قيدَ أُنملةٍ، لهذا ممكن أنْ أزيحَ من طريقي أعتى الجبارة بجرّةِ قلمٍ. نعم، الكلمة هي الأبقى والأكثرعدلًاوصفاءًوبهاءً فوق خارطةِ العمرِ، وكلّ ما عداها عبارة عن سرابٍ في الهشيمِ، أو استهلاكِ ترّهاتِ الحياةِ، وإلى زوال! وحدَها الموسيقى والغناء والرّقص والأدب والفن والإبداع، صقلت روحي وأبهجت كينونتي، وانتشلتني هذه الرَّهافات الإبداعيّة والفنّيّة من سقْمِ الكثير من منغّصاتِ الحياةِ ووضعتني في برِّ الأمان. وحدَه قلمي يعيدُ إليّ توازني معَ نفسي ووجودي وحلمي وطموحي، ويمحقُ كل ترسُّبات فشلي من أوجاعِ الانكسارِ ويمنَحُنِي فرحًا وابتهالًا وأنا أستلهمُ بكلِّ شغفٍ أزهى التّجلِّيات من عوالمِ فضاءاتِ المبدعين والمبدعات.
أتساءلُ: ماذا كانَ سيحلُّ بي لولا الموسيقى والغناءِ والفنِّ والأدبِ والكتابةِ تحديدًا؟!
إنِّي مَدين للكتابةِ حتّى آخر رمق في حياتي، ولولا الكتابة لما وجدتني قائمًا على قدمي الآن؛ لأنّ تتالي الانكسارات والخيانات وحالات النّصب والاحتيال الّتي حلّت بي على مساحات عمري كافية أن تخلخلَ صدورَ جبابرةِ الكونِ، مع أنّي لا أؤمن بلغةِ الجبابرة ولا أرى جبابرة على وجه الدُّنيا، وكل ما أراه إلى زوال، وإلى أعتى دهايزِ الهزائم. من جهتي درّبْتُ نفسي منذ عقودٍ على تحويل كل هزائمي إلى حالاتٍ إبداعيّة، منطلقًا من حرفي ولوني وفضائي المنبعث من رحيقِ السّماء ومن أنغامِ تجلِّياتِ إيرين پاپاس ومن تُشبهها ويُشبهها من مبدعي ومبدعات هذا العالم. كم أشعرُ بالسّعادةِ لمجرّد أنّني أستطيعُ أنْ أمسكَ قلمي وأسردَ ما في آفاقِ ذهني وفكري وخيالي! وبدلًا من القلمِ أصبحَ لديّ مناغاة رهيفة لمفاتيح حاسوبي؛ لأنِّي أكتبُ نصوصي منذُ عقدين من الزّمن على الحاسوبِ مباشرةً، لا أستخدمُ قلمي في الكتابةِ إلّا ببعضِ الملاحظات العابرة أكتبها على ورقةٍ جانبيّة، وقد كتبْتُ أكثر من ستِّين كتابًا مباشرةً على صفحاتِ “الوورد” في الحاسوب، ثمَّ عدْتُ إليها ونقّحتُها ودقَّقتُها وصوَّبتها وأعدْتُ صياغاتها عشرات عشرات المرّات.
أين أنتِ يا إيرين پاپاس كي أنقشَ حرفي فوقَ متاهاتِ الحنينِ المتناثرِ على مساحات خيالِكِ الفسيحِ؟ لو تعلمين كم أبهجني صوتك لطالبْتِني بتعويضٍ لا يُستهان به. قلتُ مرارًا في سياقات حواري مع الذّاتِ ومعَ إعلاميّين وصحافيّين:إنّني مستعدٌّ أن أتبرّعَ بدمي لفيروز، لأسماء غريب، لفاطمة ناعوت، لهبة القوّاس، لجاهدة وهبي لإيرين پاپاس، لمبدعين ومبدعات من هذا الطِّراز، عندما يحتاجون إلى دمي؛ سواء كان هذا الدّم دمي الحقيقي أو ثروتي، مع أنّني لا أملكُ ثروةً كبيرة؛ لأنّ الظّالمين نهبوها على مدى مساحات عمري، ففي كلِّ مرحلةٍ من مراحل عمري أجد مَنْ ينهبني كأنّني وُلدتُ كي ينهبَني الآخرون، لكنّي في كلِّ مرّة أزدادُ إصرارًا وأرفعُ قلمي عاليًاومركِّزًا على أقصى تجلّياتِ روحي وصفاء ذهني لتجسيد كلمتي على وجنةِ الحياةِ قبلَ أنْ أرحلَ عاليًا. إنّي أرى أنَّ حياةَ الإنسانِ تافهة للغاية لو لم يقدِّم المرءُ أعمالًا عظيمة ومواقف رصينة خالدة كما قدَّمَتْ إيرين پاپاس على مدى سنوات عمرها الثّلاثة والتّسعين عامًا؛ فهي ماتزال حيّة بعدَ كلّ هذه العطاءاتِ. وقد شاركتْ هذه المبدعة العملاقة في سبعين فيلمًاسينمائيًّا وغنَّتْ مئات الأغاني. يا إلهي، كم تبهجُني عندما أسمعُ أغانيها! إنّها كنزي الثّمين؛ لهذا أراني أغنى أغنياء الكون من خلال هذه الكنوز غير المرئيّة الّتي لا يراها الكثير من عميانِ هذا الزّمان. يغمرنُي فرحٌ منعشٌ للروحِ وأنا أسمعُ أغانيها الملفّحة بأهازيجِ البهاءِ، وتزرعُ أنغامُها المبهجة في كينونتي أزاهيرَ الأملِ، كأنّها بلسمٌ يشفي أوجاعي الخفيّة والظَّاهرة منذ أن ترعرعْتُ على وجهِ الحياةِ حتّى لحظاتِ استماعي إليها الآن.
ما كنتُ أعلمُ أنَّ للصوتِ، للموسيقى، للأنغامِ تأثيرًامنعشًا للروحِ والقلبِ إلى هذه الدَّرجة من الانبهار! الموسيقى هديّة السّماءِ للأرضِ، للحياةِ ولكلِّ الكائناتِ، الموسيقى هي لغةُ الكونِ الأزليّة، هي توهُّجات روحيّة منبعثة من أعماقِ كينونةِ الإنسانِ، هي توازنُ المرءِ معَ ذاتِهِ ومعَ الحياةِ، هي لغةُ الرّوحِ والعقلِ والجسدِ، لغةُ الأرضِ والبحارِ والجبالِ، ولغةُ كلّ كائن حي بما فيهم دبيبُ الأرضِ، لغةُ الصَّمتِ والجمادِ والحجرِ والنِّسيمِ والرِّيحِ في أوجِ هبوبِها وصفائِها وصفيرها، الموسيقى كينونة متجدِّدة في أعماقنا، تفتحُ لنا آفاقًا رحبة في مساراتِ الحياةِ، وتجعلُنا في أرقى حالاتِ حبورنا ونحنُ نعبرُ محطّاتِ العمرِ!
أسمعُ هذه المبدعة اليونانيّة الرَّهيفة إيرين پاپاس منذَ أكثر من أربعينَ عامًا، وفي كلِّ مرّة أسمعُها، أشعرُ وكأنّني أكتشفُ كائنة ساحرة سماويّة روحيّة مبدعة غير عادية. تغنّي بطريقةٍ ابتهاليّة خلّاقة، وكأنّها في محرابِ القدِّيسين والقدِّيسات، تغدقُ علينا أرقى الأغاني الّتي تبلسمُ القلوبَ الجريحةَ وتهدهدُ أرواحَنا، وأجمل ما في الحالة الّتي أحلِّقُ فيها، هو أنّني لا أفهمُ كلمةً واحدةً ممَّا تقولُ، مع هذا أشعرُ وكأنّني أفهمُ كلَّ كلمة تغنِّيها؛ لما في صوتِها من طاقاتٍ راعشة ومنعشة للقلبِ والرّوحِ، وكأنّها تغنِّي لكلِّ واحدٍ من مستمعيها. يتملَّكُني إحساسٌ غامرٌ بالفرحِ والهدوءِ والتّجلّي والتّأمُّلِ والغوصِ عميقًا في فضاءاتِ الغناءِ والموسيقى والألحانِ وكأنّي متخصِّصٌ في تحليلِ إيقاعاتِ وألحانِ أغانيها وتجلّياتِ صوتها الّذي يناجي روحي وقلبي، ويجعلني أحلِّقُ في سماواتِ البهجة والفرحِ والابتهال الغارق في صفاءِ الرّوح. حالة مبهجة وغريبة تسربلُني وأنا أسمعُها، تستحوذُ على خيالي وآفاقِ بوحي وتمنحُني طاقة مورقة بأزاهيرِ السُّرورِ.
منذ أن تبرعمَتْ پاپاس على وجه الدُّنيا في كورنثيا في اليونان، وُلِدَتْ معها موهبة فنِّية نادرة في جموحها، لا يحيدها عن تحقيقِ تطلُّعاتِها الفنّيّة أيُّ شيء. جنحَتْ رويدًا رويدًا نحوَ عوالمِ الفنِّ والتَّمثيلِ والأدبِ والإبداعِ، والتحقَتْ بشغفٍ كبيرٍ في مدرسةِ المواهبِ، وسرعان ما برعَتْ في كشفِ مواهبها في التَّمثيلِ والغناءِ. شاركت في العديدِ من البرامجِ التّلفزيونيّة منذُ صغرها، واكتشفَتْ بنفسِها موهبتها في الغناءِ وقرَّرَتْ أن تخوضَ مسابقة خاصّة في الغناءِ وهي في باكورةِ عمرِها، مع أنَّ أسرتها كانت ضدّ توجّهها نحوَ عوالمِ الفنِّ والغناءِ والتَّمثيلِ، لكنّها أصرّتْ أنْ تشاركَ في المسابقة بعدَ أنْ غيّرَتِاِسمَهَا من إيرين مارلين پاپاس إلى إيرين پاپاس، وفازت بالمرتبة الأولى في المسابقة، وانطلقَتْ في هذا الفضاءِ الرَّحبِ وهي في السّادسةِ عشرة من عمرِها، وقدّمَتْ عدّة حفلات في اليونانِ بنجاحٍ باهر، وخلال فترة قصيرة حقَّقَتْ نجاحًا خارجَ حدودِ اليونانِ وحقَّقَتْ حضورًا عالميًّا وهي في السّابعة عشرة من عمرِها، واستمرَّتْ في رحلةِ النّجاحِ عامًا بعد عامٍ وأصبحَتْ سفيرة في أميريكا من أجل النّوايا الحسنة دفاعًا عن حقوقِ الفقراءِ والمرأةِ والمغبونين.
عملَتِ الفنّانة المبدعة إيرين پاپاس مع أبرز القائمين على المشهد الفنّي اليوناني، أمثال: ريكاردو فريدا ومارتن ريت، إيليو بيتري، وكوستا غافراس. وقامت بدور الأرملة في فيلم زوربا اليوناني أمام الممثّل العالمي أنطوني كوين؛ هذا الفيلم العالمي الّذي يُعَدُّ من الأعمال الكلاسيكيّة الخالدة للمخرج القبرصي اليوناني مايكل كاكويانيس الّذي ظهرَ إلى النُّور عام (1964)، واستوحاه من رواية الكاتب والفيلسوف اليوناني نيكوس كازانتزاكيس. وقد وجدَتْ پاپاس نفسها في الأدوار التراجيديّة، وحلَّقَتْ في كلِّ أعمالها في أرقى سماواتِ الإبداعِ، تاركةً خلفها إرثًا فنِّيًّامُهمًّا في تاريخِ السِّينما الكلاسيكيّة، وتعتبرُ فنَّ المسرح والسِّينما-إضافةً إلى الآفاقِ الأدبيّة في عوالمها- ترجمةً لمأساةِ الإنسان أو لا يكون؛ إذ تعتبرُ قمّة الإبداع في فنِّ السِّينما والمسرح هو تقديم البُعد المأساوي للبشر، وتمكَّنَتْ من تجربتها العريقة من إتقان هذه الأدوارِ الحزينة والمأساويّة بطريقةٍ مدهشة، فنراها تتقمّصُ الأدوارَ وكأنّها تعيشُ الواقعَ بحذافيرِهِ، حتّى يُخيَّل للمشاهدِ أنّها لا تمثّلُ بقدرِ ما تعيشُ لحظات واقعها في سياق تمثيلها لأدوارها التّراجيديّة الموغلة في المآسي، وقد عملتْ عبر مسيرتها الفنّيّة إلى جانب أبرز القائمين على المشهد الفنِّي اليوناني مع ريكاردو فريدا ومارتن ريت، إيليو بيتري وكوستا غافراس، إلى أن أصبحت أسطورة التراجيديا اليونانيّة، وما بين فيلم زوربا اليوناني وفيلم الرّسالة وأسد الصّحراء، ألهمت پاپاس جيلًا من الفنّانات والفنّانين والمبدعات والمبدعين؛ لغوصها العميق في تجلِّيات الفنِّ الكلاسيكي في المسرح والسّينما وإشعاعها العالمي في الأدوار التراجيديّة على مدى مساحات تجربتها الفنّيّة الشّامخة في أرقى تجلِّياتِ الإبداع الخلّاق!
ستوكهولم: أيلول (سيبتمر) (2019).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاسم المؤلِّف: صبري يوسف.عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.