على خدودِ الصَّباحِ؟!
سليم بركات
(22)
لاِسْمِكَ وقعٌ خاص على جبهةِ الذَّاكرة، منذ أن قرأتُ لكَ سيرةَ الطُّفولة وسيرةَ الصِّبا، وأنا أتساءل: كيف يرسم هذا الأديب الكرديّ المشاكس الشَّفيف إيقاعات حرفه؟! كيفُ تقتنصُ هذه العوالم والفضاءات البهيجة في العبورِ إلى أعمقِ ما في اللُّغةِ من بهاءٍ وفضاءٍ وسردٍ مطلسمٍ بنداوةِ النَّفلِ والعشبِ البرِّي؟! هل كنتَ تلملمُ النَّفلَ وأنتَ صغير من براري عامودة، وسهول القامشلي، أم أنَّكَ كنتَ تائهًا مع عوالمِ الحرفِ، تبحثُ عن خيوطِ رعشة الكلمة؛ كي تعيدَ توازناتِ الرُّوحِ إلى إيقاعِها الدَّافئ؟!
كيفَ تستلهمُ عوالم رواياتكَ المضمّخة بألقِ بوحِ الملاحمِ والأساطير، مجسِّدًا شخصيَّاتها بطريقةٍ مدهشةٍ، عبر كثافةٍ لغويّة عاجّة بالغموضِ والغرابةِ والتأمُّلِ والخيالِ المبهرِ، كأّنّكَ على تواصلٍ مع فريقٍ كبير من فقهاءِ اللُّغاتِ، وعلماءِ النَّباتِ والطُّيورِ والكائناتِ البرّيّةِ والأهليّة؟! لغةٌ وحشيّةٌ صلدة تدلقُها في فضاءاتِ رواياتكَ وأشعاركَ وكتاباتكَ، كأنَّكَ تستنبتُها من أدغالِ الأزمنةِ الغابرةِ وتؤنسُها للقارئِ بطريقةٍ طيّعة، عابقةٍ بأصالةٍ عريقةٍ وبنكهةِ القرنفلِ والزّنبقِ البرّي، رغمَ تشظّياتها الجانحة نحوَ الغموضِ والطَّلاسمِ في تراكيب صيغتها البنائيّة في بعضِ الأحيانِ؛إذْ يتوهُ القارئ في استكناه مضامين رؤاك الضَّالعة في خلقِ لغة غير مطروقة لدى كُتَّاب الضَّاد بهذهِ الطَّريقة الباذخة في التَّقنياتِ اللُّغوية والصُّورِ غير المعهودة، كأنَّكَ في سباقٍ معَ ذاتِكَ ومعَ مخيالِكَ المفتوح على عبورِ المزيدِ من مساحاتِ شهقةِ اللَّيلِ بأحلامِهِ الفسيحة!
لم أقرأ لكَ روايةً أو نصًّا شعريًّا إلّا ووقفتُ مذهولًا بهذهِ اللُّغة السَّليميّة السَّليمة الغائصة أحيانًا بطلاسم لا يفكّ الكثير من منعرجاتها أحيانًا إلا أحفادُ الجنِّ، ثمَّ أعودُ وأقرأ النَّصّ ثانيةً، وإذ بقهقهاتِ أولادِ الجنّ تتناهى إلى مسامعي فأضحكُ في عبّي؛ لأنّني أجدُني أفكّ شيفراتكَ المعبّقة بأرجوحةِ اللَّيلِ الطَّويلِ؛ لأنّ لديَّ تواصلًا بصيغةٍ ما مع عوالم الجنّ الَّتي تتعانقُ معَ عوالمِكَ الخفيّة، المترجرجة فوقَ ينابيعِ الذَّاكرة البعيدة الغافية بين موجاتِ إشراقةِ الحلمِ.
تعال يا صديقي؛ كي أبوحَ لكَ بحميميّةٍ دافئة بعضًا من عوالم طقوسي في مرحلةِ ما قبلَ الكتابة؛ كي أسألَكَ بعدها فيما إذا تتقاطعُ شذرات من عوالمِ طقوسِكَ معَ هذه العوالم. عندما أجدُني غارقًا في القراءةِ والتأمّلِ العميقِ، أجدُني أنهضُ فجأةً متوجّهًا إلى ركنٍ من أركانِ غربتي؛ حيثُ “جمبشي وعودي” ينتظرانني بفارغِ العشقِ، فأمسكُ عودي كي أداعبَ شهقة ليلي، وإذ بي أتوهّج فرحيًّا وشوقيًّا إلى عوالم ما خلف البحارِ وإيقاعاتِ الموسيقى المنبعثة من تلألؤاتِ النُّجومِ، تتراقصُ أصابعي الرَّفيعة وأنا أعزف أغاني الفنَّان الرَّاحل المبدع محمَّد شيخو، وعندما أزدادُ طربًا مع ذاتي تتفتّحُ شهيَّتي وحنجرتي على أغانٍ لها نكهة النَّارنج، فأغنِّي بمتعةٍ غريبةٍ ولذيذةٍ: ” آخْ كَورهْ آخْ كَورهْ كَورامِنْ”*.
هذه الأغنية وأغاني “شيخويّة” أخرى تبهج قلبي وروحي وتفتحُ ذاكرتي على عوالمِ الاخضرارِ، هل تستمدُّ طقوسَكَ في الكتابةِ من عوالم وفضاءات طقوسِ الأغنية الكرديّة المزركشة بأغانٍ في غايةِ النَّفَسِ الملحمي؛ابتداءً من “سِتْيَا زِيْن ومَمّي آلا”، مرورًا بـ “شَمْدِيْن وحَمْدين” ومواويل “غزال غزال هائي هائي، وبافي فخري صواري كِينْجُوْ.”** أغاني تفتحُ خيال الرِّوائي؛ كي يحلّقَ في معابر أسطوريّة من لونِ الفرح؟!
تدهشني طريقة سردكَ، لغتك الشِّعريّة تتداخلُ في متونِ رواياتكَ، فتغدو لغةً عصيّةً عن العبورِ، لكنَّكَ تتركُ مفاتيحكَ السّحريّة متناثرةً في عوالمِ النّصِّ الشَّفيفِ؛ كي يعبرَ المتلقِّي وهو غارقٌ في بهجةِ الاشتعالِ؛ اِشتعالِ خصوبةِ الكلمة؛ هذه الكلمة الَّتي تلتقطُها من أفواهِ النَّسيمِ العليلِ تارةً، ومن أفواهِ شهقةِ النَّيازكِ تارةً أخرى.
كيفَ تكتبُ عوالمَ رواياتكَ؟! من أين لكَ بهذه اللُّغة السَّاحرة، والتَّراكيب المبهرة الَّتي نادرًا ما أجدُ مثيلًا لها في عالمِ الحرفِ العربي؟! أنتَ الكردي المتغلغل في رحابِ الحرفِ العربي ببهجةٍ عميقةٍ، الملتصق في أدبِ الخصوبةِ؛ خصوبةِ الحرفِ وتجديدِ إيقاع لغة العصر، حداثة مترشرشة بنكهةِ العنبِ وتينِ الشَّمالِ، مع أنّكَ عبرْتَ التِّلالَ ومنعرجاتِ الغربةِ وأنتَ في باكورةِ عمرِكَ، فكانت دمشق ثمَّ بيروت وبعدها قبرص ثمّ استوكهولم محطّات بحثٍ عن لغزِ الحياةِ؛ لغز حروف مندلقة من مرتفعاتِ جبل جودي وبحيرة “وَانْ” حيثُ تسطعُ هناكَ أعشاب الرُّوح منذُ فجرِ التَّكوين!
عينان صخريَّتان مسربلتان بجموح انطلاقةِ شموخِ الغزلان، تمعنُ النَّظرَ في طيشِ الحياة، فتلتقط رذاذات طريّة لِمَا فات ولِمَا تبقّى من العمر؛ هذا العمر الَّذي تطحنُهُ جاروشات مجنونة في هذا الزَّمنِ الأحمق.
كيفَ تستطيعُ أن تتحمّل خشونةَ الجواريشِ المتهاطلةِ على شواطئِ الرُّوحِ وأنتَ متطايرٌ من دكنةِ اللَّيلِ في ليلةٍ قمراء، تائهًا في دهاليزَ غرباتٍ لا تخطرُ على بال؟! هل استطعْتَ عبرَ نداواتِ الحرفِ أن تعيدَ إلى صخبِ الرُّوحِ توازنها، أم أنّكَ تجدُ نفسكَ متأرْجحًا حتَّى في أعماقِ الحلمِ فوقَ شهقةِ البحارِ وأمواجِ ضجرِ المسافات؟!
تطاوعكَ مفرداتُ الحياةِ وكأنّها صديقة أهدابكَ المرتعشة من خشونةِ الرِّيحِ، كيفَ تنتقي هذه السِّياقات اللُّغوية وأنتَ غائصٌ في لجّةِ الأحداثِ؛ أحداث روائيّة شاردة عن صحارى العمرِ، تلملمُ خيوطَكَ وتبري قلمَكَ إلى أن يصبحَ حادًّا وكأنّه ساطور متناغم مع موسيقى حوافر الأحصنة وهي تعبرُ جبالَ متعرّشة فوقَ سفوحِها أغصان شجيرات التُّفّاح؟!
كم مرّة عانقكَ محمود درويش وهو يبتسمُ لمحيَّاكَ الرِّيفي الصَّاخب عشقًا وجموحًا وأنتَ مذهول بهذا الفرح المتهاطل من عيونِ درويش، فتقدحُ عيناك بهجةً وعناقًا معَ قومٍ ترشرشَتْ حياتهم بالدَّم منذُ أن فتحوا عيونهم على الحياةِ إلى الآن؟! بسمةٌ يانعة تزرعُها على هلالاتِ وميضِ عينيّ درويش وهو يقرأ بمتعةٍ منعشةٍ قهقهات روحكَ المنبعثة من شموخِ عوالم القصِّ المدبّقِ بعبقِ القصائد.
سليم بركات؛اِسمٌ على مسمّى، مُعافى من جنونِ العصرِ، ومزنّرٌ بالبَرَكاتِ، مَنْ منحكَ كُلَّ هذه البَرَكات؟! هل تنحدرُ من سلالةٍ بركاتيّة، أم أنَّ هذه البركات جاءت بكلِّ عفويَّتها متناغمة معَ بركاتِ الحرفِ الَّذي تدلقُهُ على خدودِ الصَّباحِ؟!
اتّصلتُ يومًابكَ فيما كنتُ غائصًا في غربةِ هذا الزَّمان، راغبًا أن ألتقيكَ برفقة الأب الشَّاعر يوسف سعيد، لكنّك كنتَ غارقًا حتَّى أذنيك في ترتيباتِ الانتقال إلى موجات جديدة من رجرجاتِ العمرِ، آنذاك، كنتَ قد حصلْتَ على مساحةٍ من الهدوءِ على أرضِ مملكةِ السّويد، محاولًا أن تفرشَ نصوصَكَ ورواياتكَ وأشعارك على تلالِ الحياةِ، مكالمة قصيرة؛ قصيرة للغاية. كنتُ أنوي يا صديقي أن أقدّمَ لك كأسًا من العرقِ؛ لعلِّي أخفّفَ من أوجاعِ الغربةِ؛ غربةِ البحارِ وغربةِ الإنسانِ معَ أخيهِ الإنسانِ، لكنَّكَ كنتَ على وشك الاشتعالِ؛ اشتعالِ بيادر استراحاتِ الانتقالِ، فأجّلنا اللِّقاء إلى أجلٍ غير مسمّى، لم نلتقِ، لكنَّنا على الأرجح سنلتقي .. دارت الأيام والتقينا عبر انبعاثِ حوارٍ حولَ جموحاتِ السَّردِ ووهجِ الشِّعرِ في “الغرفة الكونيّة”، في معالمِ جهة الشِّعر؛ جهة ولا أبهى، جهة متعانقة معَ خيوطِ الشَّمسِ عبر الأثيرِ، فلم أجدْ في حينها أعذب من عناقِ الحرفِ كمدخلٍ لأن نرفعَ عبره نخبَ الشِّعرِ وجموحَ الرُّوحِ على إيقاعاتِ اندلاعِ وهجِ رواياتِ وأشعارِ سليم بركات! ..
سردُكَ مبهرٌ للغايةِ، .. تشمخُ عوالمُ روايتكَ “كهوفِ هايدراهوداس” عاليًا، تلامسُ مروجَ الأساطيرِ، تفتحُ لنا بوّاباتِ العبورِ إلى أعماقِ الكهوفِ بلغةٍ ساحرة، معجونة بإشراقاتِ خيالٍ مبلَّلٍ بخبايا أسرارِ الأساطيرِ، تصنعُ سردًا من شهقة غيمة معتّقة بأحلامٍ غابرة، مُسَربِلًا كائناتكَ بأشهى ما في مرامي الحياة من دهشةٍ وبهجةٍ في عبورِ أغوارِ عتمةِ الدَّهاليز، كأنّكَ في حالةِ إنشادٍ منبعثٍ من فراديسَ الأحلامِ، ومن هدير البرقِ، عابرًا متونَ الحرفِ بألغازٍ مكتنزةٍ بالطَّلاسمِ والتِّيهِ عن مساراتِ السُّؤال، عبر خيطٍ متشظٍّ إلى منعطفاتٍ مندلقةٍ من أقصى براري الخيال! كيفَ تلملمُ هذه الحكايات في إيقاعِ سردٍ يفوقُ تدفُّقاتِ شهوةِ المطر، روحٌ معرّشة بخصوبةِ الشَّمالِ في صباحِ الأربعاء، صباحاتُكَ ربيعٌ مندَّى بحنينِ الحصَّادين وشوقِهم العميقِ إلى حصادِ باقاتِ السَّنابل؟!
ماهذه الفراسخ المدهشة الَّتي تفتحُها وتفرشُها أمامنا على طبقٍ من يراعِ الإبداعِ الرَّصينِ، من خلالِ رواية “دلشاد، فراسخ الخلود المهجورة”، نوغلُ في مساحاتٍ فسيحة وباهرة عبر رحلةٍ في عرينِ الأدغالِ؛ حيثُ الكهوفِ المكتنفةِ بالأسرارِ في انتظارِ العبورِ إلى دهاليزِها العابقة ببخورِ الأزمنة العتيقة؟!
تنحتُ حرفَكَ فوقَ وجنةِ هذا الّزمن والأزمنة الآتية، لغةٌ معتّقةٌ بجمرةِ الحنينِ إلى أعذبِ ما في تدفُّقاتِ الخيالِ، تفرشُ أمامنا أهازيجك ورؤاك وأحلامك المعشَّشة في عامودة والقامشلي وسهولِ ديريك، مركّزًا على قمّةِ جبالِ “بِيْخِيْر” الَّتي تناجي نجومَ اللَّيلِ في مساءاتِ الصَّيفِ، لغةٌ قزحيّة متلألئة بموشورِ مذهَّبٍ بأحلامِ “دلشاد”، وصلابةِ الكوردِ وهم يتوغَّلون في أعماقِ الكهوفِ، يُفكِّكُون طلاسمَ العبورِ في تجاويفِ اللَّيلِ، موجّهين أنظارهم نحوَ خبايا الكهوفِ المحصّنة في أعالي الجبال. “دلشاد”، تدفُّقٌ على إيقاعِ هفهفاتِ المطرِ؛ رحلةٌ مفعمةٌ بالطَّلاسمِ والولوجِ في تكويرةِ الأسرارِ المنقوشة فوقَ جلدِ الغزالِ!
يغوصُ الرِّوائي عميقًا في الانتقادِ؛ فمن المعلومِ أن يكونَ الفقهاء فقهاء التَّنوير، إلَّا أنَّ بركات يراهم يسيرون في دكنة اللَّيل؛ لهذا أطلقَ على إحدى رواياته عنوان: “فقهاء الظَّلام”، وكأنّه يريد أن يقول لنا: رؤاهم مظلمة للغاية، بلغةٍ محبوكة وسردٍ ثريّ في بناء عوالم الرِّواية، حيثُ نتلمَّسُ لغةً متدفّقة بحفاوة أسطوريّة في كيفية سبكها وبنائها وربطها في حيثيات الحكايات الَّتي تتوالد في أجواءٍ مدهشة، لغةٌ ساحرة، بمضامينها، بتراكيبها، يخلق جوًّا فريدًا، يتخلَّله رؤية تنويريّة، من خلال تجسيد شخصيّة محوريّة باسْمِ “بيكَس” والَّتي تعني لُغويًا: لا أحد لديه؛ لا أهل لديه!
يتطرَّق الرِّوائي المبدع سليم بركات عبر روايته “فقهاء الظَّلام” إلى تجسيد أنين الكورد وأنين الإنسان، بأسلوبٍ عميق ولغةٍ مجبولة بآهاتِ السِّنين، فارشًا فضاءات روايته في ربوع القامشلي وبراريها، مركّزًا مهاميزه على الكثيرِ من الأغلاطِ والعذاباتِ الّتي تتفاقمُ يومًا بعد يوم في الذَّاكرة والحياة الَّتي يعيشُ فيها أهل الشَّمال، متسائلًا: متى سيحلُّ السّلامُ والأمانُ في هذه الرّقعة العابقة بالحميميَّة، المحفوفة بذاكرة معتّقة بالحنينِ إلى رائحةِ الكرومِ والسَّنابلِ والبيادرِ الَّتي أغدقَتْ علينا خبزَ التنّور المقمَّر؟!
يعود بركات استكمالًا لرواية: “كهوفِ هايدراهوداس”، يكتبُ لنا روايةً بأبعادٍ ملحميّة رحبة، متشرّبة بكهوفِ هذه العوالم بعنوان: “حوافر مهشَّمة في هايدراهوداهوس”، تحملُ بين طيّاتها غرائبيّة بديعة في تقنيّات السَّرد، عبر حكايات جسّدها بطريقةٍ أسطوريّة؛ حيث يمنحُ عبر روايته طاقات بشريّة وطاقات حيوانيّة لشخصياته الَّتي يبتكرها بأسلوبٍ مدهش، ومختلف عمّا تطرّقت إليه ملاحم أخرى، ويُسقِطُ على ملاحمه رؤاه وأفكاره وتطلُّعاته بطريقةٍ مُشوِّقةٍ، وبلغةٍ خارجة عن المألوف العربي، وكأنَّه متخصِّص بإبداع لغة تتجاوز اللُّغة العربيّة في بنائها الفنِّي والسَّردي والإبداعي!
يتميَّز المبدع سليم بركات بلغة مكثّفة؛ عميقة، غنيّة بالمفردات واصطلاح الصّياغات الجديدة، وكأنّنا إزاء عاصفة لغويّة هائجة بشهوةِ سُبورِ أعماقِ ما في اللُّغةِ من طاقاتٍ كامنةٍ في خيالِ المبدعين؛ لغّة متعانقة في أجواءٍ سرياليّة، رمزيّة، تجريديّة، تحملُ بينَ جوانحِها انبعاثات ملحميّة، ومطلسمة في الكثيرِ من فضاءاتِها بتدفُّقاتِ خيالٍ شعري في إيقاعٍ سردي غريب ومدهش، لغةٌ عاجّة بالألغازِ والأحلامِ الوارفة، يبحرُ عميقًا في اقتناصِ هواجسه المنسابة على نصاعةِ الورق، وكأنّه حالة حلميّة لغويّة متدفِّقة من تضاريس معرّشة في جموحاتِ الخيال؛ حيثُ نراهُ يغوصُ عميقًا وينبشُ من خصوبةِ براري الخيالِ أشهى ما في مذاقِ اللُّغة من شهقةِ الاندهاشِ، لينقشَ عبرَ قوافل مهاميزه السَّابرة في دهاليز لا تخطر على باللغةً مخضّبةً بأكسيرِ الحياةِ فوقَ عوالم أرضٍ بكرٍ، فيتلقّفها القارئ بمتعةٍ غريبةٍ ولذيذةٍ، فاتحًا محجريه بذهولٍ واندهاشٍ كبير! تقطرُ نصوص وقصائد سليم بركات بطاقاتٍ فنّيّة خلَّاقة؛ حيثُ نراهُ يتألَّق في بنائِه الشِّعري، مثلما يتألَّقُ في ملاحمِهِ الرِّوائيّة الشّامخة شموخَ الجبال. أديب بديع تَرَهْبَن لشهوةِ الحرف والنَّصِّ والقصِّ والسَّرد، موغلًا في تقنياته اللُّغويّة المذهلة نحوَ المرافئ الصَّافية، يعجن حرفه بمذاقات باهرة، ويحلِّق عاليًا نحو بحبوحة الشِّعر، مغترفًا من مخياله المفتوح على رؤى إنسانيّة رصينة راقية في خلق عوالم شعريَّة خصبة، معشوشبة بلغةٍ مجنّحة نحوَ صفوةِ الشِّعرِ الزُّلال.
منحَ الأديب المبدع سليم بركات للشعر مذاقًا شهيًّا طازجًا، وبُعدًا شامخًا في بوحِ تدفُّقاتِ الخيالِ، بأسلوبِ شاعرٍ خلَّاقٍ في بناءِ أجنحةٍ جديدةٍ للغةٍ تطيرُ على شساعةِ التَّاريخِ، ملامسًا كهوفَ الجنِّ، كأنّه يستمدُّ جموحاته الشِّعريّة من ملاحم شعريّة متشرّبة في كيانِهِ منذ آلاف السِّنين حتَّى الوقتِ الرَّاهن.
توقَّفتُ طويلًا عند شعره الأخَّاذ، الفريد، المكتنف بالأحاجي الشِّعريّة والمكتنزِ بالطَّلاسمِ والرّموزِ والصُّورِ السُّورياليّة. يصيغُ نصَّه بغرائبيّة باذخة عبر تدفُّقاتِ شهقاتِ الخيال، يلتقطُ صورَهُ الشِّعريّة بطريقةٍ تفوقُ جموحات الخيال وغير قابلة للفهم في بعض الأحيان. يحوّل الخيال إلى واقع عبر لغة متمرِّدة تحملُ بين تجاعيدها الكثير من الأحلامِ الغابرة، كأنّه في رحلةٍ خياليّة نحو عالمٍ غير مرئي، وكانّه يريدُ أن يستعيدَ أمانيه وتطلُّعاته وآفاقه المبدَّدة عبر اللُّغة؛إنقاذًا لرغباتٍ مقموعة خلال مراحل انكسارات عمره عبر محطّاته المتشظِّية من بؤرةِ اشتعالاتِ المكان، فتنَقَّلَ من مكانٍ إلى آخر؛ بحثًا عن قلمٍ يغلّفُهُ قليلًا من الهدوءِ؛ كي ينقشَ لنا أحلامَهُ الشِّعريّة الهادرة كالبركان!
سليم بركات؛ وشمٌ مبهرٌ في اخضرارِ مروجِ القصيدة العربيّة، حالة شعريّة عجائبيّة؛ لغةً، بناءً، سردًا، وجموحًا في الخيال. يكتبُ شعره بشراهةٍ مطريّة معتّقة بحنينِ الرُّوح إلى اكتشافِ خفايا أسرار الدَّهاليز. يتداخل نصّه الشِّعري مع عوالم سرده البديع، فيشكِّلا حديقة مكتنفة بأشجارٍ باسقة، متداخلة فيما بينها، تمرحُ في حدائقِهِ أغرب الكائنات والأعشاب والطُّيور من كافّة العصور، مجسِّدًا لنا أدبًا صافيًا يعكس سيرورة شاعرٍ وروائيٍّ معجونٍ من شهقةِ إنسانٍ، يستأنسُ مؤانسةَ الإنسان؛ لهذا نراه ينظر أبعد ممّا يتيحُ له المداد من فسحةِ التَّأمُّلِ، فيبني عبر خياله ممالكَ الإنسانِ المنهارة، ومن خلالِ هذه الرُّؤية يبدو وكأنَّه غيرراضٍ عن واقع الحال؛ حاله وحال إنسان هذا الزّمان؛ لهذا يصنعُ لنفسه عالمًا خياليًّا بديعًا، بعيدًا عن تصدُّعات ما يراه من خرابٍ في تطلُّعاتِ ما يمورُ في أعماقِ إنسان هذا الزَّمان!
ستوكهولم: (2016).