حلَّقَ الشَّاعر محمَّد الماغوط عاليًا في تجلِّيات حرفه
إلى أنْ لامسَ غمامَ السَّماءِ وتربَّعَ فوقَ مروجِ الشِّعرِ الصَّافي
محمَّد الماغوط
(19)
محمّد الماغوط شاعرٌ محبوكٌ بتلألؤاتِ النّجوم، غاصَ حتّى النّخاع في روابي الأنين، حلَّقَ عاليًا في تجلِّياتِ حرفِهِ، إلى أنْ لامسَ غمامَ السّماءِ. تربّعَ فوقَ مروجِ الشِّعرِ الصّافي، كتبَ شعرًا منسابًا من رحيقِ الزُّهورِ ونكهةِ الأرضِ المكلَّلة بالسَّنابل، حاملًا فوقَ أجنحتِهِ أوجاعَ البلادِ؛ ابتداءً من شواطئِ البحرِ حتّى أقاصي الصّحارى والبوادي. امتازَ شعرُهُ بمذاقِ الحياةِ بكلِّ تفاصيلها وحفاوتها كأنّه وُلِدَ كي يكتبَ شعرًا من خميرةِ الأرضِ، من غبارِ العمرِ، من رحيقِ الدّالياتِ، من آهاتِ السِّنينَ، من عذاباتِ الآباءِ والأمّهاتِ، من أوجاعِ الأوطانِ، من شهوةِ الأحلامِ، من رحمِ الحياةِ!
رسمَ الماغوط أحزانَ اللَّيلِ والنّهارِ، جراحَ الرُّوحِ الموغلة في الأسى، متوقِّفًا عندَ أحزانِ الأزقّةِ والأحواشِ العتيقة، وأنينِ المدائن، مسلِّطًا حبرَهُ فوقَ غدرِ الصَّولجانِ. واجه قلمُهُ مساحاتِ القُبْحِ المهيمنة على صدرِ البلادِ والعبادِ، غيرَ آبهٍ ببريقِ السُّيوفِ ولا باجتياحِ لغةِ النَّفيرِ لكبحِ الرُّؤى، مدافعًا عن حليبِ الأطفالِ، وعن موتِ الأحلامِ في الصّباحاتِ الباكرة، مدافعًا عن شهيقِ الحرّيّة والأمانِ ومرامي الوئامِ.
جسَّدَ تفاقمات أوجاع الرّوحِ المستشرية في دنيا من بكاء، وكتبَ عن عذاباتِ الشُّعراءِ في عتمِ اللَّيلِ. مرارًا تساءلَ عن أسبابِ تصدُّعاتِ العمرِ في كلّ مراحلِهِ وشيخوختِهِ. قرأ انشراخات اليوم على مدى نهارِهِ وليلِهِ، وكتبَ رؤاه الشَّعريّة ومسرحيّاته من وحي وقائع الحياة بكلِّ منعطفاتِ واقعِ الحالِ، مركّزًا مبضعه على كلِّ ما هو سلبي في الواقعِ الحياتي؛ كي يستأصل الثّآليل والنّتوءات العالقة في طريقِ المظلومين والمقهورين، ولم يتردَّد أن يضعَ يدَهُ عبر حرفه على الجراحات الغائرة، مُشيرًا إلى كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وكأنّه مرآة عاكسة لواقعِ الحالِ، بأسلوبٍ سهلٍ وعميقٍ، وأعطى لقصيدةِ النّثرِ فضاءً شاهقًا كأنّه يلخِّصُ أنينَ المواطنِ والوطنِ معًا. إنّه موسوعة شعريّة أدبيّة فكريّة نقديّة لكلِّ ما رآه، ضاربًا عرض الحائط بمنعكسات ما يترتّب عن نصوصِهِ طالما تنبعُ من أعماقِ أعماقِهِ الرّهيفة الصّادقة!
رأى الماغوط أنَّ الرّوحَ تتلظَّى تحتَ سياطِ القهرِ والتَّسلُّطِ، فنهضَتْ روحُه من بين الرّمادِ؛ كي تعبِّرَ عن آفاقِهِ وتجلِّياتِهِ، فكتبَ برهافةٍ عالية عن اشتعالاتِ الرّوحِ والقلبِ، فجاءتْ كلمته معبِّرةً أحسنَ تعبير دون أيّةِ رتوشٍ، صافيةً مثلَ حبّاتِ المطرِ. تمتّعَ بجرأةٍ نادرةٍ في بوحِ رؤاه، غير مكترث لأيّةِ رقابة، طالمًا تنبعثُ كلمته من مشاعرِهِ الصَّادقة كما يرى ما يكتبُهُ حرفًا حرفًا، فكتبَ عن الواقعِ الشّرقي العربي والسُّوري بكلِّ مراراتِهِ وآهاتِهِ وانشراخاتِهِ، وكأنّهُ يعاينُ الواقعَ بمجهرٍ دقيق ويسجّلُ وقائع الأحوال. كان لكلمته صدى كبير في قلوب القرّاءِ والقارئات إلى أن غدا شاعرًا له قامته الشِّعريّة الشّامخة وكاتبًا مسرحيًّا بامتياز؛ ممّا دفع الفنّان الكبير دريد لحّام الاشتغال على مسرحيّاته وقدَّمها مع فرقته فوق أرقى المسارح، إلَّا أنَّ الماغوط حلَّق عاليًا في تجلِّيّاته الشّعريّة ورفع من شأن قصيدة النّثر العربيّة إلى أرقى فضاءاتها الخلّاقة.
فاجأني عندما صرّح في لقاءاته أنَّ ما كتبه في بداياته، ما كان على علمٍ أنّه يكتبُ شعرًا، بل كان يكتب ما يجيش في صدره وعوالمه من مشاعر وأحاسيس، وإذ بها رحيق الشّعر، وأكثر ما تميّزَ به الماغوط هو صدق مشاعره وأحاسيسه النّابعة من أعماقه، وطاقته المدهشة في صياغة نصّه بسخرية عميقة هادفة ولها مدلولات إبداعيّة راقية، ومع أنّه كان كتلة متواصلة ومتتالية من الأحزان والهموم، مع هذا تميّزَ بروحِ الدُّعابة والفكاهة والسُّخرية من كلِّ شيء؛ حتَّى من ذاته وكل ما يتعلَّقُ به، وهكذا جابه كلّ شيء بحرفه وشعره وكتاباته؛ كي يحوِّل كل هزائمه إلى إبداع خلّاق، وأدهشني عندما سمعته يقول في إحدى حواراته التِّلفزيونيّة “قصّة حلم”: “أنا منذ تعلَّمْتُ الحروف الأبجديّة، لم أتوقَّف عن الكتابة وعن العطاء، وبحب الخسارة، بحب دائمًا أخسر”! حقيقةً أدهشني حبُّه للخسارة وليس للربح، وبرأيي أن نزوعه نحو الخسائر ناجم عن أنّه لم يرَ حوله ما يربحه إلّا الكتابة، لهذا فكل ما كان يخسره ما كان يغيظه؛ لأنّه ما كان مهتمًّا على ما يبدو بالرِّبح المادِّي، بقدر ما كان يهتمُّ بالرِّبح الإبداعي، ولهذا عاش طوال حياته مكرّسًا نفسه للكلمة الخلّاقة والإبداع، معتبرًا ابنتيه شام وسلافة كنزه الّذي لا يضاهيه كنزٌ آخر في العالم، وبهذا ممكن أن نعتبرَ الماغوط شاعرًا كونيًّا في رؤاه وعالمه الإبداعي، زاخرًا بآفاقٍ عالميّة من حيث الأفكار والرّؤية الفسيحة على مدى رحلته في الكتابة، منذُ أن حمل القلم حتّى آخر لحظة في حياته، وكان متمرّدًا منذ طفولته وصباه على الطّغيان والتّسلّط، وظهر هذا واضحًا في فضاءات شعره، وعبَّر عنه بسخرة مريرة، وجرأة غير مسبوقة، ومع كلِّ ما كان يعانيه من أحزانٍ ومراراتٍ، فقد كانَ متفائلًا يضحكُ مقهقهًا في وجهِ الأحزانِ، ويحوِّل كلّ أحزانه بجرَّةٍ قلمٍ إلى فرحٍ ومرحٍ أثناءَ لقاءاته من أصدقائه ومعارفه.
جمح الشَّاعر المبدع محمَّد الماغوط في متون شعره نحو فضاءات السّرياليّة الرُّومانسيّة برهافةٍ باسقة، مستخدمًا ترميزات بديعة؛ فكاهيّة تارةً وساخرة مريرة تارةً أخرى، كما كتب بواقعيّة مدهشة، كأنّه يسجّل وقائع ما يراه وعاشه في الحياة، وهكذا مزج ما بين الرُّؤية الواقعيّة لمشاهداته ومماحكاته في الحياة وتجلِّياته الشِّعريّة الخلّاقة نحو فضاءات التّرميز والعمق الرُّومانسي والسّريالي، حيث كان يرتئي أحيانًا أن يتوارى خلفَ صوره الشّعريّة بحذاقة وحرفيّة عالية، ليس خوفًا من الرّقيب؛ وإنَّما رغبةً منه في الغوصِ عميقًا في انبعاثاتِ حبقِ الشِّعرِ، كم كانت صداقاته مع المبدعين والمبدعات بديعة! وفيها قفشات طريفة ومصارحات بديعة، ومع كل ما كان يحصل من اختلاف في وجهات النّظر، كان ودودًا ومحبوبًا من قبل أغلب الأصدقاء الّذين عرفوه وعاشوا معه، وأحبّهم هو الآخر حبًّا صافيًا عميقًا، كما أحبَّ دمشق كأنّها قصيدته الأزليّة المفتوحة على جراح الرّوح، وأنسنَ الأشياء والأمكنة الّتي أحبّها، فكتبَ لدمشق شغفه وحبّه العميق لها كما كتبَ أجمل القصائد عن حواريها وأزقّتها ومقاهيها وفضائها السّاحر وعن قاسيون وبردى.
يعدُّ المبدع محمّد الماغوط ظاهرة أدبية شعريّة، خارجًا عن المألوف، وخارجًا عن السّرب، أطلقَ العنان لخياله وكتبَ ما يجول في خاطره بكلِّ مصداقيّة وأريحيّة لا رقيب لديه إلّا حرفه وقلمه. كان شاعرًا حلميًّا، وأكّد في كتاباته ولقاءاته أنه سيظلُّ يحلم ويكتب عن أحلامه وأمانيه؛ كي نوفِّرَ للإنسان العربي والشّرقي لقمته وكرامته، وكأنّه بقوله هذا يؤكِّد أن لا كرامة للعربي ولا لقمة عيش كريمة له، فلِمَ لا نسعى إلى تأمين الكرامة ولقمة العيش له.
قرأتُ كل دواوين الماغوط، وأغلب مسرحيّاته وولدَ معي نصّ من وحي فضاءاته الرّحبة، أدرجته في الجزء العاشر من أنشودة الحياة، تحت عنوان: “ماغوط، حزنكَ ينبعُ من آهاتِ البشرِ”، وتمَّت ترجمة هذا الجزء مع الأجزاء العشرة إلى اللّغة الإنكليزيّة عن طريق المترجم سلمان كريمون وصدرَ في واشنطن عن دار صافي للنشر والتّرجمة والتَّوزيع في مجلّد خاص، قبل أن يصدر المجلّد بالعربيّة كتابًا ورقيًّا!
وفيما كنتُ أقرأ دواوينه، انتابني مرارًا أنّني عثرْتُ على كنزٍ شعريٍّ ثمين؛ لِمَا كان لحرفه وقعٌ على رؤاي وأفكاري وخيالي وعالمي؛ لأنَّ الماغوط يخاطب القلب والرُّوح عبر شعره ونصوصه وكتاباته، فهو شاعر الكلمة الصَّافية صفاء النّسيم المنبعث من غابات الحنين، وأجمل ما في عوالم الماغوط أنّه لم يخطِّط أن يكونَ شاعرًا، بل جاء إلى الشَّعر؛ لأنّه شاعرٌ بالفطرة؛ ولأنّه ترجم مشاعره وانكساراته وأحزانه بطريقته الخاصّة، وإذ به يكتب شعرًا راقيًا دون أن يدري أن ما يكتبه هو من رحيق الشّعر الصّافي؛ لأنّ قصيدة النَّثر –آنذاك- ما كانت منتشرة، لهذا كتب قصيدة النّثر على السّليقة وبحسب ما تمليه آفاقه ومشاعره، وغاص شيئًا فشيئًا في فضاءات الشِّعر إلى أن أصبح شاعرًا طافحًا بعطاءات شعريّة خصبة، تضعه في مصاف الشّعراء العالميين؛ لما في عالمه الشّعري من جموحات وآفاق شعريّة رحبة، قلّما نرى في دنيا الشّرق والعالم العربي مَنْ عبَّرَ عنها الشُّعراء مثلما عبَّرَ عنها الماغوط؛ لأنّه ترجم مشاعر ملايين النّاس عبر نصوصه، حاملًا همومه وهموم الإنسان أينما كان؛ خاصّة هموم المواطن الشَّرقي والسُّوري، فجاء نصّه مفتوحًا على أحلام ملايين النّاس؛ لهذا أحبّه الملايين ووصل إلى أعماق قرّائه وقارئاته، وسيبقى الماغوط شاعرًا سامقًا ومسرحيًّا باهرًا، تصلُ كلمته وشعره وأدبه إلى قلوب الملايين على مرِّ الأجيالِ القادمة!
ستوكهولم: (12/ 9/ 2019).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم المؤلِّف: صبري يوسف.
عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).
الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
دار نشـر صبري يوسف – [email protected]
Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :