“ليس له/ لها صورة” هو عنوان معرض الفنانة العراقية هناء مال الله الذي أقيم خلال ربيع هذا العام في متحف الفن الحديث في نيويورك، وقبله في متحف زولنغن الوطني في ألمانيا. ومن خلال هذا المعرض، كما من خلال أعمالها السابقة، يستكشف المشاهد لغة فنية تستمد أبجديتها من التراث الإسلامي والشرقي القديم المدروس جيداً، تُعبّر بها الفنانة عن قيم ومشاعر وأفكار تنطلق من المحلية، ولكن خطابها إنساني عام. وهذا ما أوصل أعمالها إلى مشارق الأرض ومغاربها.
بتعمّقها في تاريخ حضارة ما بين النهرين والدراسات الشرقية ومعايشتها الواقع في العراق بين عامي 1991 و2003م، طوّرت هناء مال الله أسلوبها الفني وتقنيتها الخاصة، فمزجت التجريد والتصوير في اللوحة الواحدة. وتبلورت شخصيتها الفنية لتصبح بمثابة رسالة فلسفية عميقة مفعمة بالرموز والدلالات.
ففي خضم الحرب العراقية، اضطرّت هناء مال الله لمغادرة العراق بعد أن حازت منحة من معهد العالم العربي في باريس لمدة سنتين. لم تكن الفنانة تنوي البقاء في فرنسا، لكن استمرار الاضطرابات في العراق حال دون عودتها. وهناك، تلقت دعوة رسمية للمشاركة في معرض في لندن. وكان قبولها هذه الدعوة بداية مسار جديد في حياتها. فحصلت هناك وللمرة الثانية، على منحة بريطانية حتى عام 2009م، ضمن إطار مبادرة إنقاذ الباحثين والأساتذة العراقيين. وفي الشهر الثاني من عام 2007م، قدّمت الفنانة طلب لجوء إلى البلد الجديد وتم قبوله فوراً. ووطّدت هناء مال الله علاقتها بالمتحف الحربي في لندن الذي اقتنـى لاحقـاً واحداً من أعمالها بعنوان: “العلم الأمريكي”، وعرض الكثير من أعمالها الفنية.
استخدام الأرقام والرموز
تعتمد هناء مال الله في فنّها على أسلوب تطوّر مع تجربتها الشخصية والفنية، ليطال حتى توقيعها الشخصي في أسفل لوحاتها. فهي تستبدل الحروف الأبجدية في اسمها بأرقام ونقاط. ولهذا الشكل من التعبير عن الهوية الشخصية علاقة بفنون حضارة ما بين النهرين التي تراها مال الله خليطاً من الرموز التجريدية المفعمة بالمعاني والدلالات. والكتابة بالأرقام كما تستخدمها هناء تذكّر بحساب الجُمل، حيث يوازي كل رقم حرفاً أبجدياً. فعلى سبيل المثال، تكتب أبجد بالأرقام 1.2.3.4. وكذلك يكتب اسم هناء مال الله بالأرقام ليصبح 5.50.1.1.40.1.30.1.30.30.5.
ويعود حضور الأرقام في أعمال هناء إلى مرحلة فنية مبكرة في العراق، عندما شكلت لوحاتها الأرضية المناسبة لترجمة علم المنطق والرياضيات التي كانت تتقنه.
تعتمد هناء مال الله في فنّها على أسلوب تطوّر مع تجربتها الشخصية والفنية، ليطال حتى توقيعها الشخصي في أسفل لوحاتها. فهي تستبدل الحروف الأبجدية في اسمها بأرقام ونقاط. ولهذا الشكل من التعبير عن الهوية الشخصية علاقة بفنون حضارة ما بين النهرين التي تراها مال الله خليطاً من الرموز التجريدية المفعمة بالمعاني والدلالات.
تقنية تخريب المادة
بعد أن تركت الفنانة وطنها العراق تحت وطأة الحرب، رافقتها صور الخراب والدمار الذي ظهر في فنها وحثّها على ابتكار تقنية فنية جديدة برزت في أعمال عديدة لديها. وقد سمَّت هذه التقنية “تقنية الخرائب”. وبواسطة هذه التقنية، تعالج مال الله موضوع الخراب، وتعكس طابعاً فلسفياً على علاقة بالحرب وانسياب الزمن على الأشياء.
في تقنيتها هذه، تعمد الفنانة إلى تخريب المادة الخام بتمزيقها أو ثَقبها، وكذلك حرقها وتشويهها تماماً كما تفعل الحرب. وهذا التحوُّل المقصود في المادّة هو صورة عن التحوُّلات الناجمة عن الحروب. لكنها رغم دراميتها وتشاؤمها تعكس من زاوية فلسفيّة معيّنة جمالية مرتبطة بفلسفة إعادة الخلق والتفاؤل ما بعد الخراب. كما إن تأثير الانزياح الزمني على الأشياء هو ظاهرة حياتية تحوّل الأشياء إلى أخرى، وهذا ما تترجمه هناء مال لله عبر فنّها. إذ إنها ترى أن انزياح الزمن وانسيابه على الحجر مثلاً، يجعل منه حجراً أثرياً، له جماليته الحاضرة ومعناه التاريخي والفني.
بين مسقط رأسها العراق ووطنها الفني بريطانيا
ترى هناء أن بريطانيا دعمت فنها، وحضنت تجربتها، وتبنَّت رسالتها الفنية، وفتحت لها أبواباً عديدة أصبحت لاحقاً بمثابة بداية جديدة لتواصل فني على مستوى عالمي. وتعبّر هناء عما اكتسبته من ماضيها في العراق، والتجارب التي أرتها كيف تختفي الأشياء وتتبدل، وكيف تتحوَّل المادة إلى غبار والجسد إلى عدمه والحياة إلى موت. وإذا نسِّقت هذه الأضداد، فإنها سوف تتجلّى عبر التقاء الفن التصويري والتجريدي، والتقاء الوضوح والترميز، كما الحقيقة والمجهول. فأعمال مال الله محمّلة بالرموز التي تطرح حقائق اختبرها أجدادنا قبلنا ونختبرها نحن بعدهم كما تقول. فالتاريـخ هو المورث والوارث في هذه السيرورة التي ما زلنا نبحث عن خفاياها ودلالاتها.
المادة والرمز
في أعمال هناء مال الله يبرز عنصران أساسيان: المادّة والرّمز. فبالإضافة إلى الأشياء المستحضرة من الحياة اليومية التي تستخدمها في فنها كعبوة الزيت أو اللباس، الكرسي، والحذاء وغيرها من الأشياء التي تذكرنا بالمدرسة الأوروبية التي تستخدم الأشياء الجاهزة، والتي طورها مارسيل دوشان وجوزف بويز، فإن مادة القماش الخام تبقى أساسية في كثير من أعمالها، أو ربما كانت المادة الأولى التي تبني عليها الفنّانة عملها الفني.
في أعمالها “خرائب مضاءة” و”دراسة جمجمة” و”تمويه”، وغيرها من الأعمال التي تمتد من عام 2011م وحتى الآن، تقوم الفنانة بحرق القماش الأبيض الخام بحرارة ولمدة متفاوتتين لتحصل على الألوان المطلوبة من الأسود إلى البني إلى البيج، وذلك بجمع تدرجات الألوان من الفاتح إلى الأفتح والغامق ثم الأغمق. وتقوم الفنانة بلعبة الألوان هذه بدقة شديدة لتحصل في لوحتها على مضمون متكامل من حيث الشكل واللون، والضوء والظل. كما أن أجزاء القماش كالخيوط والرماد الناتج عن الحرق هي أيضاً عناصر مكملة لبعض لوحاتها.
أما الرموز فتتجلّى على سبيل المثال من خلال الأشكال والأرقام التي تستخدمها والتي تعكس الأبجدية القديمة كما في لوحاتها “بدون عنوان 1″ (1993)، و”بدون عنوان 2 و3” (1999) ثم لوحة “باسم الوردة” (2007).
“ليس له \ لها صورة”
في مشروعها الأخير (She/He Has No Picture) لعام 2019م، استخدمت مال الله أسلوب حرق القماش لتشكيل صور وجوه نساء ورجال وأطفال، لها من الدقّة ما يقارب الصورة الفوتوغرافية الأصلية. وهذا هو المشروع الذي عُرض هذا العام في متحف الفن الحديث في نيويورك، وسيُعرض قسم منه قريباً في عُمان.
يرتبط هذا المشروع بحادثة العامرية، الملجأ العراقي الذي تعرَّض للقصف في الثالث عشر من فبراير عام 1991م، ما أدى إلى مقتل 400 شخص كانوا فيه. فبعد أن تمّ الإعلان عن أسماء القتلى في وقت لاحق، نٌشرت صور لمئة منهم مع أسمائهم وأعمارهم. أما الباقون، فقد أُرفِقَت أسماؤهم بعبارة “ليس له \ لها صورة”، ومن هنا استوحت الفنانة عنوان مشروعها الفني.
في عملها هذا استخدمت الطريقة المذكورة آنفاً، وهي حرق القماش الخام بدرجات متفاوتة لتشكل بها الوجوه بواسطة التدرجات اللونية. وإضافة إلى ذلك، استعانت الفنانة بالتقنيات الحديثة، وأشركت برامج الذكاء الاصطناعي لخلق وجوه مفترضة بعد إدخال المعلومات الشخصية للضحية، التي من خلالها سوف يشكِّل وجهاً مفترضاً لهذا الشخص. فهذه الوجوه التي رافقت هناء في عملها كانت كما تروي الفنانة بمثابة وجوه حيّة، كانت عيونهم تلاحقها في محترفها الفني أثناء العمل. وفي الوجوه التي أحيتها هناء، ثَمَّة براعة في إقامة حوار ما بين الضحية والمشاهد، وفي استثارة المخيلة لخلق حالة معنوية ثلاثية الأبعاد.
الهدهد ورمزيته
ولا يمكن اختتام الحديث عن أعمال هناء مال الله من دون الإشارة الخاطفة إلى الظهور اللافت والمتكرر لطائر الهدهد في بعض أعمالها. ظهور يغلب عليه الطابع الرمزي للصراع من أجل البقاء، وأحياناً تُقرنه الفنانة بطائر الحمام، رمز السلام.
ومعلوم أن صورة الهدهد ظهرت في فنون وآداب الحضارات القديمة. كذلك في سورة النمل في القرآن الكريم. وفي كتابه الفلسفي “منطق الطّير” لفريد الدين العطّار يلعب الهدهد دور القائد، حيث يدعو الطيور الأخرى إلى رحلة محفوفة بالمخاطر.
هذا الهدهد المخاطر والمستكشف والرحال والقائد يظهر في عملها الفني “شيء ما تعلمته” الذي يعود إلى عام 2013م، وفي عملها المسمى “كرسي” للعام 2011م. في هذا العمل الأخير استطاع الهدهد الجلوس على الكرسي المحترق والمكسر والمفتقر لأجزاء أساسية تجعله غير قابل للاستخدام من قبل الإنسان. هذا الكرسي مكسو في نصفه الأول بقصّاصات من مخطوطات عربية، وفي نصفه الثاني تتمدد الحروق السوداء لتضيف على العمل نفحة درامية ترمز إلى الخطر والغموض.
سيرة مختصرة
بدأت هناء مال الله مشوارها الأكاديمي في معهد الفنون في بغداد عام 1979م، حيث حصلت على دبلوم في الفن الغرافيكي، وبعد عامين على بكالوريوس في الرسم من أكاديمية الفنون أيضاً في بغداد، ثم على شهادة الماجستير في الرسم عام 2000م.
وبعد خمس سنواتٍ من البحوث، حصلت أيضاً على دكتوراة في فلسفة الرسم من جامعة بغداد، وبعدها على شهادة في الدراسات العليا من جامعة الأبحاث الشرقية في لندن .
لها مشاركات عديدة في معارض جماعية في دول عربية كلبنان، الأردن، تونس، البحرين، الكويت وإمارات دبي، أبو ظبي والشارقة وطبعاً في وطنها العراق، كما في أمريكا، وهولندا وفرنسا وبريطانيا والصّين. كما برزت أعمالها في معارض منفردة في باريس، لندن، البحرين، بغداد، وعُمان.
اقتنت متاحف عديدة بعض أعمالها، ومنه المتحف البريطاني حيث تُعدُّ بمثابة ضيفة دائمة، والمتحف العربي للفن الحديث والمتحف الملكي في الأردن.
وإضافة إلى الفن التشكيلي الذي تحترفه، شغلت أيضاً منصب أستاذة في جامعة بغداد للفنون في فترة سابقة، وحالياً في الجامعة الملكية في البحرين.