يغنِّي الفنَّان حبيب موسى أغانيه
وكأنَّه في نزهةٍ دافئةٍ في حدائق بابل المعلَّقة
حبيب موسى
(7)
تُوِّجَ الفنَّان حبيب موسى ملكًا للأغنية السّريانيّة في العالم، منذُ عقودٍ من الزّمن، حيث قدَّمَ خلال مسيرته الفنّيّة أرقى الأغاني السّريانيّة وهو أوّلَ من أطلقَ الأغنية السِّريانيّة على أرقى المسارح وفي الحفلات والمناسبات، أبهجني وهو يغنِّي على مسرحِ كنيسةٍ هولنديّة معبَّقة ببخورِ الأزمنة الغابرة، وكأنَّ ألحان مار أفرام السّرياني كانت منبعثةً من تجلِّيات وشموخ هكذا كنائس ضاربة جذورها في أعماق التّاريخ. كم كانوا على صواب أصحاب الدَّعوة الّذين دعوا حبيب موسى إلى مكانٍ يشمخُ هدوءً وقداسةً؛ كي يصدحَ الفنَّان في سموِّ المكان، ويطلقَ العنانَ لصوتِهِ الشَّجيِّ المتعطِّشِ لهياكلِ ومسارحِ الأديرة القديمة، وقد بدا لي حبيب موسى كأنَّه يحلِّقُ عاليًا كنسرٍ جامحٍ فوقَ مرتفعات جبل جودي، متوجّهًا نحوَ قمَّة آرارات وكأنّهُ في سفينةٍ مماثلةٍ لسفينةِ نوح في انتظارِ حمامةِ السَّلام، بعدَ أن تفاقمَ في كنفِ الأوطانِ هديرُ الطَّوفان!
تألَّقَ الفنَّانُ وتوهَّجَ ابتهالًا كأنَّه يرتِّل تراتيل كنسيَّة في مزارِ مار كبرئيل أو دير الزَّعفران أو كنيسة راسخة فوقَ مرتفعاتِ صخور معلولا المعرّشة في أجنحةِ التَّاريخ في أوجِ العصورِ الذَّهبية للسريان.
أيُّها السّريان وأيُّها المشاهدون من كلِّ الأطيافِ في كلِّ أنحاءِ العالم، هل ترونَ ما أراهُ، هل تسمعونَ تجلِّيات صديق الأصدقاء “الملفونو” الملك حبيب موسى، وخلفه يشمخُ تمثالان لقدِّيسين كأنَّهما يشهدان على بلوغِ أحفادِ جلجامش إلى مسارحِ الخلود؟!
ارتعشَ جسمي من وهجِ التَّواصلِ معَ حفاوةِ أصالةِ الصَّوتِ والمكان، وخرّتْ من عيني دمعتان؛ دمعةُ فرحٍ، ودمعةُ تساؤلٍ على خلخلاتِ أجنحةِ أوَّل حضارة انبلجَتْ على وجهِ الدُّنيا، تتهاوى في وادي الرَّافدين، في سهولِ بيت نهرين بين أنيابِ مجانين وحيتان هذا الزَّمان، وتتالَت التَّساؤلات في أعماقِ الجراحِ الغائرة وصوت حبيب موسى يمسحُ الأسى المرسوم على شفيرِ الحزنِ المتفاقمِ على مساراتِ غربتي وغربةِ ملايين الأحبّة التَّائهين في انشطاراتِ مساراتِ غربةِ الرُّوحِ اللَّاهثة في سماءٍ من بكاء. آهٍ يا بكاء وألف آهٍ يا سماء!
حلّقَ الفنّانُ عاليًا، منطلقًا من أصالته الغنائيّة البديعة، وكأنّه في نزهة دافئة في حدائق بابل المعلَّقة في شموخِ السَّماء، هل كانت الموسيقى حزينة لِمَا آلَتْ إليه الأمور، أم أنَّها كانت تعكس انتشارَ شراسة الطُّغيان؛ طغيان الأسى على مساحاتِ حنينِ القلوبِ إلى صباحاتٍ تموجُ برنينِ النَّواقيسِ في بداياتِ نيسان؟! .. استمعتُ بفرحٍ عميق إلى روحانيّة الغناء واستمتعت بروعةِ تجلِّياتِ الأداءِ والجوّ المهيبِ لهذا الصَّرحِ الرُّوحيِّ الَّذي حلَّقَ فيه النَّورسُ عاليًا، كأنّه في مواسمِ الحصادِ الأخيرة يقطفُ الغلالَ الوفيرة. غنَّى حبيب موسى بطريقةٍ منعشةٍ للقلبِ، كأنّهُ شهقةُ نيزكٍ مندلقٍ من بسمةِ السَّماءِ.
انتعشْتُ فرحًا وأسدلْتُ ستائري؛ عفوًا، ستائري دائمًا منسدلة وجاهزٌ للرقص عندما يحين الأوان، وحانَ الأوان فنهضْتُ أرقصُ بفرحٍ كبير، موسيقى راقية وغناء أصيل ينعشُ القلب، رقصْتُ بطريقةٍ فرحيّة باذخة؛ حفاظًا على رشاقتي في جموحاتي الرّقصيّة المعهودة، رقصْتُ بانتعاشٍ على إيقاعِ موسيقى وأغانٍ مبلَّلة بالفرحِ ومنسابة مثلَ مياهِ دجلة في أوجِ عناقها معَ شهوةِ الغيومِ!
يغنّي حبيب موسى على إيقاع الألحان السِّريانيّة، مؤكِّدًا للعالم أجمع أنَّنا أحفاد أولى أرقى الحضارات، وورثة موسيقى مار أفرام السّرياني (البيت كازْ)، نعزفها ونغنِّي على إيقاعِ ألحانِها بمهاراتٍ فائقة، هذه الموسيقى المنبعثة من بخورِ الأديرة المقمَّطة بأجنحةِ المحبَّةِ وأزاهيرِ السَّلامِ وأصالةِ إبداعِ السِّريان على مدى الأزمان!
الموسيقى حالة إبداعيّة فريدة من نوعها، اقتبسها الإنسانُ من جوانح روحه عندما خفقَ قلبُهُ لزقزقةِ العصافيرِ والبلابلِ وحفيفِ الأشجارِ وهبوبِ الرِّيحِ، وهدهداتِ المطر. الموسيقى منبعها خفقان القلب وهو يرقصُ على إيقاعِ موجاتِ البحرِ وهي تعزفُ أغنية أبديّة منذُ أن أشرقَتِ الشَّمسُ أشعَّتها المفعمة بالدِّفءِ والعطاءِ على وجنةِ المياهِ، فأنشدَتِ الطَّبيعةُ أولى مزاميرها على إيقاعِ الموجِ، فرقصَتِ الكائناتُ رقصةَ الفرحِ وهي تعانقُ خيوطَ الشَّمسِ ونسائمِ البحرِ، ترحِّبُ بتحليقاتِ النَّوارسِ والطّيورِ المهاجرة نحوَ حبَّاتِ الحنطة والكرومِ المعرّشة في أكتافِ الجبالِ، حيثُ زخَّاتُ المطرِ تتهاطلُ فوقَ حنينِ الغاباتِ لتسقي لَهَفَ الطّيورِ إلى شهوةِ التَّغريدِ، هل للطيورِ شهوةُ الانتشاءِ في أرقى تجلِّياتِ الغناءِ؟ غرِّدي يا طيورَ الرُّوحِ، غرِّدي على إيقاعِ هفهفاتِ الثَّلجِ. غَنِّ يا حبيب موسى على إيقاعِ بهجةِ الرُّوحِ إلى زرقةِ السَّماءِ، غنِّ يا صديقَ البحرِ والسَّنابلِ والموجِ ونسيمِ الصَّباح!
يصدحُ حبيب موسى لأسرارِ اللَّيلِ، صوتٌ منبعثٌ من تواشيح حنينِ الرُّوح إلى مرافئ الصِّبا والشَّباب، إلى قلاعِ حضارةِ الحضاراتِ، أرقصُ فرحًا وأنا أسمعُ وهجَ الطّربِ الأصيلِ المنبعثِ من حنجرةِ حبيب موسى وهو يسلطنُ فوقَ أحلامِ غربةِ الإنسانِ معَ أخيهِ الإنسان. تنسابُ الأغاني إلى شواطئِ القلبِ كأنّها بلسمٌ معبّقٌ ببخورِ صباحاتِ العيدِ. صمتٌ يهفو لجموحِ الأزاهير. تحلِّقُ فراشات الشَّوقِ حولَ ضياءِ الضَّوءِ، يزدادُ حبيب موسى تألُّقًا، كأنّهُ استجابة فرحٍ لنداءِ غيمةٍ ماطرةٍ لعطشِ الصَّحارى، يتهاطلُ مثلَ خصوبةِ أرضٍ في أوجِ العطاءِ. غَنِّ يا صديقَ اليمامِ على إيقاعِ التَّمنّي، كم مِنَ البوحِ حتى تبرْعَمَتْ أزاهيرُ القلبِ، طرْتُ فرحًا وأنا مقمّطٌ بألحانٍ متلألئةٍ ببراعم متطايرة من خدودِ السَّماءِ. يغمرُ صوتُ الفنَّان حبيب موسى فرحًا في أجواء المكان، تنسابُ أغانيه مثلَ نضارةِ الماءِ، كأنّهُ أمواج متدفِّقة كأحلامِ شوقِ العاشقين إلى روعةِ الغناءِ، ترقصُ قلوبُ المستمعين إلى أغانيهِ مثلَ أزاهير موشّحة بأجنحةِ طيورٍ تحلِّقُ بينَ أشجارِ الجنّةِ، شوقًا إلى عناقِ هلالاتِ النُّجومِ الغافية بين أحضانِ السَّماء.
فجأةً، أراني في لبِّ الحضارةِ؛ حضارةِ الغناءِ، حضارةِ تجلِّياتِ الرُّوحِ على وهجِ الإنشادِ، حضارةِ شعبٍ منبعثٍ من رُقَيْمَاتِ الطِّينِ، حضارةِ بشرٍ حملوا الحرف إلى مرافئِ الكونِ، حضارةٍ مرتكزةٍ على نبتةِ الخلودِ، حضارةِ الأساطيرِ وما قبلَ الأساطيرِ وما بعدها، حضارةِ حبَّاتِ الحنطةِ الّتي نبتَتْ على ضفافِ وادي الرّافدينِ، بينَ تخومِ جنائنِ العمرِ، المعلَّقة في دفءِ الشَّمسِ ونعمةِ السَّماءِ. أين أنتَ يا جلجامش لترى عذوبةَ الأغاني تعانقُ طموحَ العمرِ؛ عمرِنَا التّائِهِ خلفَ انشراخِ مذاقِ القومِ؛ قومٍ على قابِ قوسينِ من نيرانِ القرنِ؟! يتماوجُ قرنُنا فوقَ قرونِ التَّنانينِ؛ قرونِ الخرافاتِ، خرافاتِ الكلامِ، خرافاتِ السَّلام.
موسيقى من وَرَعِ السَّماءِ، موسيقى منبعثة من مرتفعات قمم جبل جودي، حيثُ سفينةُ السُّفنِ رَسَتْ هناكَ فوقَ قمّةِ آرارات، تنتظرُ عودةَ أغصانِ الزَّيتونِ، يتأهَّبُ حبيب موسى في ليلةٍ حافلةٍ بالحنينِ أن ينثرَ أغصانَ السَّلامِ فرحًا، رقصَ قلبي طربًا وأنا أسمعُ ملكَ الأغنية السِّريانية يفتتحُ تألّقه الغنائي بالسَّلام والوئام بين الأحبّة، ينثرُ علينا سلامًا من بوحِ أغاني العشقِ الجامحِ فوقَ قبَّةِ الأحلامِ؛ أحلامِنا المضرّجة بأجنحةِ اليمامِ العابرة في عتمةِ اللَّيلِ؛ ليلِنا المفتوح على مدارِ اشتعالاتِ الرُّوح منذُ أمدٍ بعيدٍ، كيفَ فاتنا أن نستنهضَ قلاعَ موسيقانا اللّائذة في بواطنِ الذَّاكرة البعيدة، ذاكرة مكتظّة بنداوةِ المطرِ ووداعةِ الحنطة؟! كيفَ فاتنا أن نلملمَ الزُّؤانَ المتناثرَ بينَ حبَّاتِ الحنطة ونرميهُ بعيدًا عن نعمةِ الخصوبةِ؟! موسيقى دافئة بوهجِ الشَّمسِ، من لونِ روعةِ الكرومِ. هل تنحني أزاهيرُ دوَّارِ الشَّمسِ لوهجِ تدفُّقاتِ الموسيقى، لألحانٍ منبعثة من ضياءِ الرُّوحِ الملفّحة بخيوطِ الشَّمسِ؟ موسيقى متماهية معَ هبوبِ نسيمِ ديريك وهوَ يتغنّجُ معَ وردةٍ متفتّحةٍ على إيقاعاتِ نوارجِ الفلّاحين، تبدو لي أغنية شامُوْمَرْ كأنّها منبعثة من تراقصاتِ باقاتِ السَّنابل. هل كانَ حبيب موسى وهو يلحّنُ ألحانه هائمًا في براري سهولِ القمحِ، أم أنّهُ كانَ متعرِّشًا بين عناقيدِ الكروم، باحثًا عن أنكيدو الغائص في متاهاتِ البحثِ عن جلجامش، عابرًا البراري بحثًا عن نغمةِ الخلاصِ؛ خلاصِنا من دوائر مغلقة، شائخة بين تلافيف أزمنة من غبار؟ إلى متى سيتفاقمُ فوقَ جفوننا هذا الغبار؟! إلى متى سنظلُّ نجترُّ انزلاقاتِ دوائرِ العبورِ، بعيدين عن نغمةِ الخلاص؟!غنِّ يا فنّان السِّريان غنِّ، غنِّ على إيقاعِ الحصادِ، على إيقاعِ زغاريد الأمَّهاتِ، على إيقاعِ وهجِ العشقِ في ليلةٍ قمراء، غَنِّ على إيقاعِ مهودِ الطّفولةِ وانفتاحِ براعمِ الحنين، مهودٍ مبرعمةٍ بنكهةِ البابونج وأريجِ النِّعناعِ. أرواحنا عطشى إلى أغانٍ تسمو عاليًا مثلَ تلألؤاتِ النُّجومِ، تنضحُ أصالةً مثلَ نضوحِ روعةِ الكرومِ؛ كرومٍ معلَّقةٍ في بحبوحةِ ذاكرةٍ مخضّبةٍ بولعِ الاشتعالِ؛ اشتعالِ وهجِ الأغاني ينسابُ لحنًا دافئًا بتساؤلاتٍ مرهفة تقودُنا إلى القول بكلِّ ما لدينا من عُمقٍ وبُعْدٍ حضاري، إلى أين نسيرُ، وأينَ سينتهي بنا المسيرُ؟!
يغرِّدُ الفنَّانُ الملكُ؛ ملكُ السِّريانِ، فوقَ مرافئِ غربةِ الحضاراتِ، ينسابُ الفرحُ على مدى شواطئِ الرُّوحِ، ينثرُ أهازيجَ الطّيورِ المهاجرة فوقَ موجاتِ البحرِ. تقفزُ إلى جموحاتِ حبيب موسى حدائقُ بابل المعلَّقة في صدرِ السَّماءِ، فيحلِّقُ بألحانِهِ البديعةِ عاليًا معانقًا بكلِّ ألَقٍ نجمةَ الصَّباح!
ستوكهولم: (2017) صياغة أولى.
(2018) صياغة نهائيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم المؤلِّف: صبري يوسف.
عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.- مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).
الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
دار نشـر صبري يوسف – [email protected]
Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :