جنود الاحتلال أطلقوا الرصاص على الطفل ووالده لمدة 45 دقيقة
غادرت الموقع «وقدماي ترتجفان» وأودعت الكاميرا في إحدى السيارات
* القاهرة طه محمد:
لم تكن لقطات استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي كغيرها من اللقطات التي نشاهدها عبر الفضائيات العربية والأجنبية، ولكنها كانت بمثابة اللقطات التي حركت الشارع العربي لمؤازرة الانتفاضة والتفاعل معها.
وبالرغم من مرور أكثر من عام على وقوع الحادث، إلا ان الكثير من أسراره مازالت بحاجة إلى كشفها والتفتيش عنها ولذلك كان لقاء «الجزيرة» مع المصور الفلسطيني طلال أبو رحمة صاحب لقطات استشهاد الدرة والذي قام بزيارة للقاهرة أخيراً لتكريمه.
ويكشف أبو رحمة تفاصيل جديدة خص بها «الجزيرة» حول لحظات استشهاد الطفل الفلسطيني التي استمرت 45 دقيقة، وقصة خروجه من موقع اطلاق النار، إضافة إلى جوانب أخرى ذات الصلة، جاءت في الحديث التالي:
* جديد الدرة:
* هل من تفاصيل جديدة في عملية استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي لم يسبق ان تناولته الصحف ووكالات الأنباء؟
هناك جديد بالفعل وهو ان الدرة تعرض لاطلاق الرصاص لمدة زادت عن 45 دقيقة، استقرت خلالها القذائف التي كان يتم اطلاقها عليه في جسده لدرجة ان معدته أصبحت «مصفاة» من شدة الرصاص الذي أطلق على ذلك الطفل، والذي تنوع من أسلحة ثقيلة وأخرى خفيفة.
وقبيل مغادرة القتلى لموقع الحادث، أطلقوا صاروخاً على موقع الدرة، وبالتالي فإن محمد ووالده كان يتم اطلاق النار عليهما بكثافة شديدة ومن كافة الجهات، بالرغم من أنهما لم يكونا يحملان مطلقاً أية أسلحة وكان اطلاق جنود ا لاحتلال النار يكشف أنهم لايرغبون في وجود أحياء بالمنطقة وتدمير الأخضر واليابس وإحراق ا لمنطقة بأكملها.
وقمت بعدّ الرصاص الطائش في اليوم التالي في منطقة الحادث، فوجدته حوالي 45 رصاصة، هذا بخلاف الرصاص الذي استقر في جسد الطفل وأصاب أباه في الوقت نفسه، فالمعركة التي تعرضا لها لم تكن متكافئة مطلقاً، فكنت أمام مناظر مؤثرة للغاية، خاصة وان الطفل كان ينزف من جسمه، ولم أكن أستطيع إنقاذه.
وبالرغم من كل الأقاويل التي كانت تطالبني بإنقاذه، إلا ان الواقع كان يؤكد استحالة ذلك تماماً، لأنني عندما أقوم بذلك، كان سيتم تصفية جسدي بالفعل.
والمعلومة الجديدة أيضا هي ان الدرة تم قتله تحت شعار تاريخي هو «ماأخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة» وكان مكتوبا بالدم، وكأن لسان حال الحادث يؤكد ذلك.
* وبالمؤكد ان خروجك من الموقع مازال غامضاً للكثيرين، ففي ظل الحصار الأمني المشدد لقوات الاحتلال للمنطقة، كيف خرجت من الموقع؟
نعم قصة خروجي هذه مثيرة أيضاً، وربما تحمل جديداً عبر صفحات الجزيرة، فبعد ان خف اطلاق الرصاص قليلاً، جاءتني سيارة إسعاف، ولكن قائدها أكد انه مستعد فقط لقبول المصابين نظرا لصعوبة الموقف وصعوبة الحالات التي كانت تحملها هذه السيارة، فقلت للقائد انني لست مصاباً، فتركنا وذهب إلى حال سبيله.
وبعد فترة ليست قصيرة وجدت سيارة «سوبر» كانت بعيدة عنا، وبالتالي كانت رؤية قوات الاحتلال لها صعبة للغاية، حيث كان يحوطها شجر اللوز، وعرض صاحب السيارة ان أصعد إليها لنغادر الموقع، ولكنني حرصا على الفيلم الموجود في الكاميرا، أردت ان اعطي له الكاميرا، واتحرك انا بطريقة أخرى.
وبالفعل تحركت السيارة ومعها الكاميرا، وقلت في نفسي انني إذا قتلت، فسيبقى شيء يتم تداوله بعد رحيلي يكشف عنصرية جنود الاحتلال وممارساتهم اللا إنسانية، ثم طلبت من صاحب السيارة ان يتركني لحال سبيلي، وينصرف هو.
وفي محاولة للبحث عن كيفية الخروج من الموقع، قررت ان أغادر المكان، واتحرك ناحية الخط الشرقي ليكون ظهري من على بعد لقوات الاحتلال، ويكون المخرج أمامي، وذلك على خلفية انني إذا قتلت، فسيكون قتلي من الخلف وليس من الأمام.
وكنت في كل سنتيميترات اتحركها، كانت قدماي ترتجفان، وأشعر في كل همسة ان جنود الاحتلال سيطلقون الرصاص عليّ، وكنت أشعر أيضاً ان النفس الذي سيخرج مني لن يعود ثانية، إلي ان وصلت إلى بر الأمان، وعندها أحسست ان الروح عادت إليّ من جديد، وكأنني مولود جديد في الدنيا.
* ذكرت ان جنود الاحتلال كانوا يطلقون النار على جميع من كان في الموقع، فبماذا تفسر عدم اطلاقهم الرصاص عليك في اثناء محاولتك للخروج؟
نعم.. هم بالفعل كانوا يطلقون النار بكثافة على جميع من كان في الموقع، وظل اطلاق الرصاص حتى حلول الظلام، وكان يتجه من وقت لآخر ناحية المعسكر الفلسطيني.
وبالرغم من هستيرية اطلاق النار هذه، لم أدر لماذا لم يطلقوا النار عليّ، ربما لم يعلموا بمروري في الطريق وبالمؤكد انهم لو علموا لأطلقوا الرصاص عليّ في الحال.
* الرصاص .. ليس عشوائياً:
* وهل كانوا يدركون في أثناء اطلاقهم للرصاص ان أمامهم طفلا هو محمد الدرة ووالده؟
نعم.. كانوا يدركون ان أمامهم طفلا، حتى ان الأب جمال أكثر من مرة كان يشير لهم بالتوقف عن اطلاق الرصاص ولكن دون استجابة، مما يؤكد ان اطلاق الرصاص لم يكن بشكل عشوائي على الطفل محمد ووالده، ولكن هناك تعمد كما ذكرت بالقضاء على جميع الأحياء في المنطقة.
* هل شعرت انك حققت مكاسب مادية بالتقاطك لاستشهاد الدرة، وتناقل جميع الفضائيات العربية والعالمية لهذه اللقطات؟
صدقني، إذا كان البعض يرى ان ذلك نجاحاً لي، فأنا لا أراه كذلك، لأننا بشر، لقد رأيت طفلا يتعذب ويتلوى من شدة اطلاق الرصاص، فكانت هذه اللحظات من أشد وأصعب اللحظات على نفسي.
وأتساءل، كيف للفرحة ان تأتيني، وأنا تتملكني في نفسي مشاعر من الحزن والألم لطفل يقتل في حضن أبيه، هذه تركيبة صعبة للغاية، فلايمكن للفرحة والحزن ان يجتمعا في قلب واحد في آن واحد.
* وماذا فعلت في اليوم التالي لاستشهاد الدرة؟
قمت في اليوم التالي بالذهاب إلى جمال والد الطفل وهو في المستشفى، وقبيل مغادرته إلى الأردن بساعتين، أجريت معه أول حديث صحفي، وكان الحزن والغضب يتملك الجميع من عائلة الدرة، التي توافد معظمها على المستشفى للاطمئنان على حالة الأب.
كما قمت بالعودة إلى موقع الحدث وعاينته من جديد، وقمت أيضاً بتصوير الرصاص الموجود على الحائط وحول الشعار الذي استشهد اسفله الدرة.
* هل تعرضت للتهديد من جانب قوات الاحتلال بعد بث التلفزيون الفرنسي للقطات استشهاد الدرة إلى جميع الفضائيات؟
أؤكد ان التلفزيون الفرنسي أعطاني الحماية الكاملة، وعاملني معاملة الصحفيين الفرنسيين المقيمين في فرنسا، وحاول الإسرائيليون الاتصال بي بالفعل مرتين تقريبا، وكنت في كل مرة أرفض الحديث معهم إلا بعد العودة إلى التلفزيون الفرنسي.
* اتصال مفقود:
* وكيف كانت محاولات الاتصال بك من جانب قوات الاحتلال؟
في إحدى المرات، وجدت ضابطاً إسرائيلياً يتصل بي في أثناء متابعتي لوقائع اطلاق الرصاص، فذكرت له انني في خطر حاليا، وقلت له تسمع بالطبع الرصاص، وبعدها انتهى الحديث، ولم يحاول الاتصال بي مرة أخري.
وأؤكد انه لم تمارس ضدي ضغوط مباشرة من قبل قوات الاحتلال، وان كان ذلك لم يمنعني من ممارسة عملي بحذر شديد شأني شأن أي صحفي يتابع الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة، فنحن نرى الموت في كل لحظة.
* وهل ترتدي الواقي من الرصاص اثناء متابعتك للانتفاضة؟
نعم.. أرتدي الواقي، كما يفعل جميع الصحفيين في اثناء المتابعات الصحفية، بالرغم من الصعوبة التي يمكن ان يحدثها هذا الواقي في الحركة. وأؤكد ان اللقطات التي يتابعها المشاهدون عبر الشاشات لايتم تصويرها بشكل عشوائي، ولكنها تأتي على حساب أرواحنا ودمائنا وعائلاتنا.
* وهل قمت بتصوير مشاهد أخرى لاحقة وأحدثت دويا مشابهاً؟
نعم قمت بالتقاط كثير من المشاهد عقب استشهاد الدرة وكان أبرزها تلك الصورة التي رصدتها الكاميرا على سيارة فلسطينية كانت تسير في«ميت سارين» ولم تدرك السيارة ان جنود الاحتلال قاموا بحفر خنادق في الشارع الذي تسير فيه السيارة، وبمرورها سقطت في احد الخنادق، فظهر المشهد وكأنه انفجار قنابل تطايرت في الجو تنم عن بشاعة ممارسات الاحتلال.
وكذلك صورة لشاب فلسطيني يطلق الحجارة على أحد الجنود في بيت حانون، وإذا بالجنود يطلقون عليه النار، فأصبح كالعصفور يطير في الهواء، إضافة إلى مشاهد أخرى كثيرة.
ولديّ كثير من المشاهد والصور التي لم أكن أتصور أنني سأقوم بتصويرها نظراً لبشاعتها، وتعارضها مع أبسط حقوق الانسان، فضلا عن تأثيرها القوي على المشاعر.
وأذكر انني لم أستطع تصوير مقتل مجموعة من الشباب الفلسطينيين في المسرحة على أيدي قوات الاحتلال على حاجز محفوظة في خان يونس، فليس هناك أصعب من خلط المشاعر.
* هل ترى ان الشارع العربي بحاجة إلى لقطات مماثلة لكي يتفاعل مع الانتفاضة كما حدث في لقطات استشهاد الدرة؟
لا أعتقد ان الشارع العربي بحاجة إلى صورة مشابهة لاستشهاد الدرة، وان كان هذا الطفل قد حرك الشارع العربي منذ البداية، ولكن مايحدث حاليا ان الشارع العربي اعتاد مشاهدة صور مكررة يوميا لما يحدث في فلسطين عبر شاشات الفضائيات.
وأؤكد ان الوضع الحالي في الأراضي المحتلة بحاجة إلى دعم أكبر مما هو مقدم حاليا، وأعني ان الدعم ينبغي ان يكون شاملاً ومتنوعاً.
حين تُناط المسؤولية في غير أهلها …
عذراً ” أبو رحمة ” .. خجلاً أقول لك : أننا لا نستحقك !!!
مَن منا لا يتذكر المصور الفلسطيني الشجاع طلال أبو رحمة الذي وثَّق مشهد الطفل محمد الدرّة لحظة استشهاده بعد تعرضه لرصاصات الغدر الاسرائيلية يوم الثلاثين من أيلول العام 2000 ، تلك الرصاصات المجرمة الحاقدة التي اختطفت محمد من بين أحضان والده ليرتقي شهيداً عند مليك مقتدر ، وليرسل نداء استغاثة للإنسانية جمعاء تجاه ظلم الصهاينة واستهتارهم بحياة طفل بريء كل ذنبه انه يعيش على أرضه وأرض أجداده ؟ .
منذ عشرة أيام قررتُ البحث عن المصور البطل أبو رحمة ، ومنيتُ النفس بالحصول على رقم هاتفه للسؤال والاطمئنان عليه ، والتحدث معه حول بعض التفاصيل الصحفية التي أحتاجها لكتابة بعض مقالاتي التي أواصل انجازها ، ولكي نستذكره أيضاً من خلال تكريم ولو بشكلٍ بسيط لتخليد أسمه رمزاً من رموز الضوء العربي ، وعرفاناً بما قام به من موقف بطولي هزَّ وجدان الملايين ، واستفز ضمائرهم ، فخرجوا يومها بتظاهرات غاضبة مستنكرة تلك الجريمة البشعة ، في جميع انحاء العالم المتحضر .
تواصلتُ مع فرع اتحاد المصورين العرب في فلسطين ، وطلبتُ من رئيس الفرع وعضو الامانة العامة فيه تزويدي برقم هاتف المصور طلال ابو رحمة ، وبعد غياب طال ثلاثة ايام فوجئتُ باعتذارهما ، احدهما قال لي انه في فرنسا ، والآخر قال انه مقيم في تونس ! . يا إلهي كم كانت صدمتي موجعة ، فهذا مصور فلسطيني شجاع لا يسأل عنه أحد ، ولا يعرف عن مصيره أحد ، ويترك ويهمل بهذه الطريقة ؟. انه لأمرٌ مؤسف حقاً ، بل هو خطيئة ، وموقف مشين نتحمله جميعاً ، وانا في المقدمة .
فكرتُ طويلاً لعلي أجد وسيلة تقودني للوصول إليه ، ثم أستقر رأيي على الاتصال بأخي الاستاذ رمزي حيدر الذي يرأس فرع اتحاد المصورين العرب في لبنان ومن مؤسسي الاتحاد ، فضلاً عن عمله السابق مصوراً في وكالة الصحافة الفرنسية ” فرانس برس ” وما هي إلا نصف ساعة تقريباً ، واذا بالزميل رمزي حيدر يرسل لي رقم هاتف أبو رحمة في فلسطين . ومن دون انتظار اتصلت به فورا ، كانت نغمة الهاتف تعلمني أنه مشغول تارة ، أو أن الهاتف يرن من دون جواب تارة أخرى ، فتوقفتُ عن الاتصال شاعراً باليأس من التحدث مع أبي رحمة . لكن ماهي إلا دقائق ، حتى فوجئت وأنا أتصفح ” الواتساب ” بوجود رسالة كبصمة صوتية قادمة لي من ذات الرقم الذي حاولتُ الاتصال به ، استمعت بلهفة للرسالة الصوتية وهي تحمل كلماته : ” السلام عليكم ، عفواً أنا طلال أبو رحمة ، انتَ متصل بي ، مين حضرتك ، تعذرني أنا لا استطيع الرد على الارقام الخارجية “!.
كانت سعادتي لا توصف ، بعد أن تكللت جهودي الطويلة بالنجاح في التواصل معه ، عرّفته بنفسي عبر رسالة صوتية مقابلة سائلاً ومستفسراً عن احواله ووضعه ، ليجيبني برسائل صوتية متبادلة ، ستكون وثائق مهمة في مادتي الاعلامية القادمة ، عوضاً عما نفكر فيه من تكريم لهذا المصور الشجاع ، الذي شكى بألم ومرارة معاناته من الاهمال الذي تعرض له ، وعدم السؤال عنه ، معبراً عن سروره العميق بهذا التواصل معه .
لا أخفي عليكم ان هنالك الكثير من التفاصيل التي تحدث بها طلال أبو رحمة ، احتفظ بها لمناسبة أخرى ، مشيراً إلى الضغوطات التي تعرض لها من قبل الكيان الصهيوني وملاحقته ، ألا ان انتماءه العقائدي لوطنه ، ولقضيته العادلة ، ولدم الشهيد محمد الدرة ، ودماء جميع شهداء فلسطين على أرض الانتفاضة المباركة ، جعلت منه المصور البطل الذي أبى أن يرضخ لتلك الضغوط ، مهما كانت طبيعتها وقساوتها .
إلى من أعنيهم في فرع اتحاد المصورين العرب في فلسطين الحبيبة ، أقول : ” من لا خير يرتجى منه لزملائه ، لا خير له في مكانه وموقعه ، ولا عزاء للمتفرجين ” .
وقريباً سنسرد لكم قصة توثيق جريمة العصر، يرويها المصور البطل طلال أبو رحمة بالصورة والفيديو والكلمة ، عن لحظة استشهاد الطفل محمد الدرّة .