تنبعث من دنياكِ الابتهالات الجامحة نحو غمائم الرُّوح،
نحوَ جراحِ الأوطان النَّازفة فوقَ خدودِ الحياةِ
دوريس خوري
(4)
دوريس خوري، أيّتها القصيدة الملازمة مروج الرُّوح منذ أن حملتِ القلم حتّى الآن، يا منارة الحبِّ والفرح والسَّلام، أيّتها القصيدة المتهاطلة من مآقي السّماء، أيّتها الكلمة الممراحة فوق رهافة الحياة، يا وهج القصيدة الغافية فوقَ أجنحةِ اليمامِ، تنبعثُ من دنياكِ الابتهالات الجامحة نحوَ غمائم الرُّوحِ، نحوَ جراحِ الأوطان النَّازفة فوق خدود الحياة، تشبهينَ الألق المندّى بأبجديّات بوح الحرفِ وأنتِ تفهرسينَ خصالها فوق أجنحةِ الطُّفولة منذ أن نقشتِ حفاوةَ الحرفِ فوقَ أحلامِ الأطفالِ وهم يتشرّبون حفاوةَ الكلمة على إيقاعِ حبورِ السّنابل. أيّتها الشّاعرة المفعمة بألقِ الحرفِ وتلألؤات حنينِ النُّجوم إلى إشراقات الرّوح نحو بهاء السّماء، نحوَ النَّسيمِ المنسابِ فوقَ مُحيَّاكِ عند انبلاجِ أوّل خيوطِ الشّمس، يا مهجة الحرف لكلِّ المجنّحين نحو عجينِ الوئام، كم من القصائد تناهت إلى ربوع دنياك! وكم من الابتهال حتَّى تبرعمت شهقات القصائد! في قلبِك ترعرع اخضرار السَّنابل بحثًا عن ألق الأغاني، كم من الشَّوق إلى ظلال البيت العتيق، إلى روعةِ الكروم ونكهةِ حبّات التّين على هفهفات هبوب النّسيم! هل رافقتك إيقاعات نصال النّوارج وهي تدرس حبيبات الحنطة؛ كي تطعم أفواه الأطفال وهم يغفون فوق صدور أمّهاتهم كأزهار السَّوسن، ينتظرونَ عودةَ الهداهد إلى ظلالِ البيوتِ العتيقة؟! هل تستمدّينَ بوحكِ الشِّعري من جبالِ لبنان وغاباتِ الأرزِ وأنتِ في أوجِ الحنينِ إلى مرتفعاتِ الرّوشة وجونيه وفي أوجِ اشتعالاتِ الشَّوقِ إلى سهولِ رميش والأزقّة الَّتي ترعرَعْتِ فيها بفرحٍ عميق، وحدَها القصيدةُ تحنُّ إلى مروجِ دنياكِ في ليلةٍ محبوكةٍ بأريجِ القرنفل؛ كي تنسجي خيوطَ بوحِ الرّوحِ فوقَ جنائن صيدنايا ومرتفعات صخور معلولا وهي تعانقُ قداسةَ الحرفِ السّرياني منذُ أن نطقَ بهِ رسولُ السَّلامِ، شوقًا إلى جذورِكِ المعرَّشة في خميلةِ الرّوحِ، هناك بينَ واحاتِ الطّينِ الأوَّل في خضمِّ عطاءاتِ الأجدادِ. أيّتها الشَّاعرة المبرعمة من حبور الشَّام، من عرين لبنان، من قداساتِ المكانِ، فارشةً مذاقَ الشِّعرِ فوقَ أجنحةِ فلسطين؛ حيثُ خميرةُ البنينِ تسطعُ شوقًا إلى المهدِ الأوَّل، هناكَ حيثُ تبرعمَتْ قاماتُ الأجدادِ شامخةً فوقَ خدودِ أوطانٍ مخضوضرةٍ بأغصانِ الزَّيتونِ، ومبلّلةٍ بندى الحياةِ. دوريس خوري أيّتها المحبوكة بطفوح دمعاتِ القصيدة، حيثُ الجراحُ تزدانُ فوقَ خدودِ الأوطانِ، أينَ المفرّ يا دوريس من شهقاتِ الحنينِ إلى مراتعِ الطُّفولةِ، إلى موطنِ الآباءِ والأجدادِ؟! أينَ المفرّ من هلالاتِ القصائد وهي تنسابُ بوحًا من توهّجاتِ خيالٍ مجنّحٍ نحوَ سماءِ بيروت، وأنتِ مشدوهة إلى جبالِ قاسيون وهي تطلُّ على دمشقَ أقدم عواصم الكون؟! كم مرّة طفحَتْ عيناكِ شوقًا إلى خدودِ الطِّينِ الأوّل، وهو ينزفُ أنينًا مفتوحًا على متاهاتِ انشراخِ مسارِ الأحلامِ؟! كيفَ تكتبينَ القصيدةَ وأنتِ متقّطعةُ الأوصالِ بعيدة عن رحيقِ عوالمِ الطُّفولةِ والصِّبا، بعيدة عن حفاوةِ الذّاكرة البعيدة، حيثُ حنينُ الرّوحِ ينسابُ شوقًا إلى أجنحةِ الحمامِ، مرفرفةً فوقَ هاماتِ القصائد؟!.
كيف حلّقَتْ طيورُ العنقاءِ على شاكلةِ تكريمٍ من أوسعِ بقاعِ الدُّنيا فوقَ مروجِ دنياكِ، حلّتْ عليكِ أجنحة العنقاء تكرّمُ رهافةَ حرفِكِ وتجلِّيات رؤاك وأنتِ تحلِّقينَ عاليًا في سماءِ الإبداعِ حرفًا مجنّحًا نحوَ غاباتِ الزَّيتون؛ بحثًا عن حفاوةِ الوئامِ بينَ البشرِ؟! كم مرّة وقفْتِ شامخةَ الرّأسِ مدافعةً عن المرأةِ، عن حقوقِ الإنسانِ، ترفعينَ الحيفَ عن أوجاعِهِ، تندِّدينَ بظلمِهِ، كم من الأسى والأنينِ وأنتِ تشاهدينَ النِّساءَ اليزيديّاتِ والآشوريّاتِ، والكلدانيّاتِ والسّريانيّاتِ وغيرهنَّ كثير في بلدِ العراقِ؛ بلدِ الحضاراتِ، يُساقونَ كالخرافِ نحوَ مصيرٍ يُندّى لهُ الجبين! تكتبينَ رؤاكِ بكلِّ جرأةٍ للتعبيرِ عن إنسانيّةِ الإنسانِ الّذي يتنامى في داخلِكِ كأزهارِ البيلسانِ؛ دفاعًا عن كينونةِ ووجودِ الإنسانِ، والعالمُ يقهقهُ ملءَ شدقيهِ كأنَّ تلكَ النِّساءَ جئنَ للحياةِ من أجلِ الذّبحِ والسَّبي وما يعجزُ اللِّسانُ عن قولِهِ في نصٍّ لا يتّسعُ بهِ المقام الدُّخول في تفاصيلِ الأنينِ. كم مرّة طفحَتْ عيناكِ دمعًا سخيًّا وأنتِ تشاهدينَ دمشقَ وبغدادَ وبيروتَ والقدسَ تشتعلُ في وضحِ النّهارِ على مدى سنينٍ وعقودٍ من الزّمان؟! حروبٌ موجعةٌ، وصراعات أودَتْ بالأوطانِ إلى منزلقاتِ الجحيم، وآلام غطّتْ خارطةَ الأوطانِ بكلِّ أنوع الأحزانِ والمراراتِ والأسى، إلى درجةٍ لا تُطاقُ. أحزانُكِ يا دوريس مبرعمة في طينِ القصيدة، مفعمة بتجلِّياتِ انبلاجِ الحرفِ في أوجِ انبعاثِ شراراتِ الأنين. وحدَها القصيدة تخفِّفُ من جراحِ وأوجاعِ الحياةِ. كم من الرّسامينِ والمبدعينِ استلهموا من دنياكِ ورؤاكِ أجملَ اللّوحات وأبهى تجلّيات الكلام، تشبهينَ صباحًا مندَّى بالخيرِ الوفيرِ. دوريس، يا صديقة القصيدة والإنسان والأوطان الجريحة، يا رحيق القصيدة المتناثرة مع إشراقة الصَّباح على ربوع الدُّنيا، يا أيّتها القامة المجنّحة نحوَ أبجدياتِ المحبّة والخير وتعاضد سواعد الوئامِ بينَ البشرِ في كلِّ مكان، بحثًا عن إحلالِ نعمةِ الخيرِ ورفرفاتِ أجنحةِ السَّلامِ وتأمينِ الخبزِ المقمّرِ للأطفالِ كلّ الأطفال في أرجاءِ العالم؛ كي يعيشَ الإنسانُ معَ أخيهِ الإنسان بعيدًا عن شفيرِ الحروبِ وجنونِ آخر زمان، طموحًا وسعيًا منكِ لتحقيقِ أرقى ما في أعماقِ البشرِ من تجلّيات إنسانيّة الإنسان!
ستوكهولم: (1/ 9/ 2019).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم المؤلِّف: صبري يوسف.
عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.- مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).
الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
دار نشـر صبري يوسف – [email protected]
Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :