يبني الأبُ يوسف سعيد قصيدته كَمَن يترجم مشاعره
بتوهُّجات حلميَّة باذخة في التَّأمُّلات
الأب يوسف سعيد
(3)
يبني الأب يوسف سعيد قصيدته كمن يترجم مشاعره الدَّفينة ضمن توهّجات حلميَّة باذخة في التَّأمُّلات، كأنَّه يبني برجًا شاهقًا من الدُّرَرِ والأحجار الكريمة، يبنيها من خلال تدفُّقات عفويّة منبثقة من خياله وذاكرته وخبراته وتأمُّلاته وأفكاره وأحلامه، مستنبطًا جملته الشِّعريّة من كلِّ هذه الرُّؤى والمسارب المتعدِّدة بإيقاعٍ انسيابي، مركزًا على تأمُّلات روحيّة علميّة أدبيّة فنِّية مدهشة، حيث يشيدُ عوالمه من ينابيع رؤاه المتشكِّلة من هذه الرَّوافد المتعدِّدة ومن تجربته العميقة في الكتابة، معتمدًا على خبراته ومشاهداته وخياله السَّيَّال، كأنّه تدفُّقات شلّالٍ، تتهاطلُ رذاذاته بانتعاشٍ لذيذ من أعالي الجبال، لينثر لنا حروف قصيدة شعريَّة من مذاقِ التفَّاحِ ورحيقِ الحنطة.
يلملم الشَّاعر المبدع مفرداته ويموسقها ضمن سياق طفولي راقص، متَّخذًا أحيانًا من كلمةٍ ما، ذات دلالات معيّنة ويسقطُ عليها أفكاره وجموحات خياله،ويعيد تكرار العبارة عدّة مرّات بأشكالٍ وصورٍ مختلفة، وأحيانًا يلتقطُ حالة مشاعريّة ويصيغ منها بناء شعريًّا يتداخل مع عوالم رحبة بعدَّةِ طرقٍ وكأنّه فنّان يرسم مشاعره وهو متوهِّج في بناء جملته الشِّعريّة، حيثُ خبرته في الكتابة تطوّرَتْ، فأصبح كلّ ما ينطقُ به شعرًا؛ لأنَّ إبداعه يولدُ من خلالِ حالات وتجلِّيات صافية، فلا يكتبُ إلّا من منطلق حاجة الرُّوح والقلب والفكر، لترجمة ما يختلجُ في ذهنه، وكأنّه في رحلة حلميّة؛ لأنَّ طابع البناء الفنّي قائم على هذه الانسيابيّة الحلميّة المصهورة في مرايا الشَّاعر، حيثُ تعكسُ مرامي روحه، أفكاره، خياله، طموحه، أمانيه، كلّ ما يتراءى له في لحظات الإشراقات الشِّعريّة.
هناك انصهار وتفاعل بديع بينه وبين نصّه الشِّعري، وهو متوفِّز وجاهز للكتابة في كلِّ آن، لهذا تراه يكتب أينما كان، فلا يوجد عنده طقوس معيّنة، بل هو جاهز للكتابة في كلِّ الأمكنة، حتَّى ولو كان في القطار، في حديقة، في استراحة، في مقهى، في الطَّائرة، في رحلة مع بهاء القصيدة وهو في طريقه لزيارة الأحبَّة الأصدقاء والأهل. إنَّ هذه القابليّة المفتوحة للكتابة وهذا الاستعداد الدَّائم لاحتضانِ القصيدة، إنَّما يدلُّ على مخزون عميق في جوانيّة روح وعقل وخيال الشَّاعر، حتَّى أنَّه عدَّة مرّات أشار إلى أنَّه كتب ديوانًا شعريًّا، (مخطوطًا) بعنوان، “مدن باطنيّة”. ولو أمعَنَّا النَّظر في عنوان هذا الدِّيوان الَّذي أشار إليه أكثر من مرّة في حواراته التّلفزيونيّة، نجد أنّه توغَّل عميقًا في بواطنه، مجسِّدًا شعريًّا ما يعتري في أعماقه من عوالم ومدن باطنيّة الَّتي حلم بها طويلًا، ونقلها بكلِّ دلالاتها إلى حيِّز الشِّعر ولكنّها تبقى باطنيّة بحسب العنوان الَّذي أطلقه على الدِّيوان!
حبذا لو أطَّلِع على هذا الدِّيوان المخطوط، وهل هو مخطوط، أم أنّه مجرّد أحلام معرَّشة في “مدنه الباطنيّة” الَّتي ترعرعت وغدت باسقة في أحلامه الوارفة؟! وربَّما كتب هذه المدن الباطنيّة؛ لأنَّ الأب يوسف سعيد يكتب أحلامه ويترجم عوالمه الباطنيَّة بانسيابيّة كبيرة؛ فهو حالة شعريّة صافية، كأنَّه جاء إلى الحياة خصيصًا كي يكتب لنا شعرًا مصفَّى من “ذهب الجنّة”؛ هذه الجنّة الَّتي يراها مسترخية فوق مآقي الشِّعر، ومتهاطلة من حنينِ السَّماء إلى مروج القصيدة.
إنَّ الأب بوسف سعيد يبني نصّه الشِّعري من خلال صداقته مع الكون، مع الحياة، مع السَّماء، مع التُّراب، مع الشِّعر، مع الكلمة، مع موشور الأحلام المتدفِّقة من خيوط الشَّمس، حتّى أنّه أحيانًا يكتب عن ذاته كأنَّه جزء من الطَّبيعة، من هذه العوالم الَّتي يستمدُّ منها جملته الشِّعريّة وعلى ضفافها يبني نصّه الجميل! وأجمل ما في أدب وشعر الأب يوسف سعيد، أنّه لا يخضع ولا ينتمي إلى أيَّةِ مدرسة أو تيّار أدبي أو فنِّي معيّن، وممكن أن نطلق عليه “تيار سعيدي”؛ نسبة إلى كنيته من جهة؛ ولأنّه يترجم شعرًا سعيدًا مفرحًا يصبُّ في الوئام والمحبَّة والسَّلام، فلِمَ لا نطلقُ عليه التَّيار السَّعيدي، المنبعث من رؤاه الفرحيّة النَّقية السَّامية الصَّافية، مثل صفاء سموّ السَّماء الَّتي ترجمها بيراعه الشِّعريِّ الفيَّاض؟! لهذا لا يمكن أن ندرجه في سياق منهجي معيّن لدراسته نقديًّا؛ فهو أشبه ما يكون بانبعاثاتٍ فرحيّة، شأنه شأن الفنّان الَّذي يتدفَّق ألوانًا رائعة، وشأن الملحِّن الَّذي يتدفَّق ألحانًا بديعة ولا يعلم النقَّاد كيف يموسقونها ضمن تيَّار معيّن؛ فهي سيمفونيّة ناضحة بتجلِّيات روحيّة، إنسانيّة، عفويّة، شوقيَّة، وكأنَّ المبدع يكتب لذاته التوّاقة إلى متعة العطاء، متعة الإبداع، متعة التّأمُّل، متعة التَّجلِّي، فهل ممكن أن نسبر أغوار شاعر كهذا، في الوقت الَّذي يرى هو ذاته أنّه في حالة حلميّة راقية، ولا يشعر بالضَّبط كيف بدأ وكيف انتهى من بناء نصِّه الشِّعري، حتَّى أنه يُخيَّل إليَّ أنَّه ممكن أن يضيف إلى شعره ما لا نهاية من الإضافات؛ لأنَّ نصوصه مفتوحة، ولا يمكن أن نصل إلى نهاياتها حتَّى عندما يضع النّقطة الأخيرة؟! إنَّ نصوصه تشبه حالة النّشوة القصوى؛ نشوة التَّأمُّل، نشوة الحياة في أرقى بهائها، نشوة الرّوح في أرقى تجلِّياتها، نشوة العناق العشقي العميق، فهذه النَّشوة الإبداعيّة في حالةِ عطشٍ مفتوح إلى آمادٍ لا نهائيّة.
من هذا المنظور، أرى الأب يوسف سعيد حالة شعريّة خلّاقة، يكتبُ بطريقةٍ لا تخطرُ على بال؛ فهو كشاعر وإنسان منسجم مع ذاتِهِ الشَّاعريّة الانسانيّة، فقد عاش الحالتين؛ شاعرًا وإنسانًا، متصالحًا مع ذاته إلى أقصى درجات المصالحة؛ فهو الشَّاعر الإنسان المبدع بدون أيّة تزويقات أو رتوش؛ لأنَّه عاش شاعرًا، وترجم كلّ ما يعتريه شعرًا بديعًا وخلّاقًا، نظرَ إلى الحياة بمنظورِهِ العميق كأنَّها قصيدة معرَّشة بأزاهير الخميلة! لهذا لم يقلقه أي شيء على وجه الدُّنيا، حتَّى الموت نفسه لم يقلقه؛ حيث قال منذ يفاعته في إحدى مقاطعه الشِّعريّة: “لا أنا ولا أنت نموت!”.
استلهم الأب يوسف سعيد أبهى نصوصه من أوجِ حنينه إلى طفولته الرّحبة؛ طفولة محفوفة بالسَّنابل وأغصان الدَّوالي والبراري المبرعمة بالطّيور والأزاهير والنَّباتات البرّيَّة! كم يبهرني في بنائه الفنِّي وفي تدفُّقاته وصوره الخلّاقة! وتدهشني لغته المبنيّة على بوحٍ طازج، والعصيّة عن الفهم أحيانًا وصعوبة الولوج إلى مغاليقها الخفيّة أحيانًا أخرى! ومع كلِّ هذا الغموض، أجد متعةً كبيرة عندما أتوغَّل في فضاءات نصوصه؛ خاصَّة القصائد الَّتي تنساب بإيقاعٍ ملحمي، حيث يكتبُ بنَفَسٍ طويل كأنّه في سباقٍ مع الفرح، مع هبوب نسيم الصَّباح؛ لما يمتلكُ من قدراتٍ راقية في بناء خيوط النَّصّ الَّذي يغوص في متاهاته بعفويّةٍ باهرة، مع أنّه لا يهتم بخيط القصيدة، ومع هذا ترى قصيدته كأنّها معبّقة بنكهة الحنطة، منسابة كأغنية تنشدها جوقة الفلّاحين على إيقاع المناجل وهم يحصدون باقات السَّنابل بمتعةٍ غامرة وشهيَّةٍ مفتوحة!
أخَذَتْ قصيدة الطُّفولة للشاعر الأب يوسف سعيد وقتًا مطوَّلًا منّي، وكلَّما قرأتها؛ وجدتُ شيئًا جديدًا، وما وجدْتُ نفسي إلّا وأنا أزدادُ توغُّلًا في عوالم هذا الشَّاعر المتدفِّق شعرًا شفيفًا، مستمِدًّا رحيق أشعاره من عوالم طفولته الرَّحبة تارةً، ومن تجاربه الغنيّة في الحياة تارةً أخرى. أيُّ عالم شفَّاف هذا الّذي يغرف منه الشَّاعر توهُّجات شعره المتلألئ في الذَّاكرة البعيدة؟! قصيدة الطُّفولة أشبه ما تكون بترتيلة الحياة؛ حياة الشَّاعر نفسه، إنّه يرغب عبر نصّه الشِّعري العودة إلى نقاء الطُّفولة، إلى الماضي الحميم؛ رغبةً منه في تجسيد هذا العالم المكتنـز بالصَّفاء ونزوعه إلى الحرّية، رغم قساوة الحياة الّتي عاشها!
يسقطُ الشَّاعر في ثنايا نصّه دلالات فكريّة وحياتيّة واجتماعيّة ورؤاه الكثيفة في الحياة وموقفه منها دون أيِّ تحفُّظٍ، وكأنّه يتلو في حالة انتشاء ترتيلته المفضّلة من أخصب وأنقى محطّات عمره، حيث يبدو واضحًا أن الشَّاعر كتب قصيدته بكلِّ مشاعره وأحاسيسه وأحلامه ودمه وأعصابه؛ فهذه القصيدة هي أنشودته الرُّوحانيّة الشَّفَّافة، والّتي انبثقَت من نقاط دمه؛ حيث يقول:
“أتركُ نقاط دمي على جوانب محبرة، بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، ….
أشيِّدُ أعشاشًا لطيورٍ مصنوعة من دم الكلمات” ..
وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى أنَّ الشَّاعر ملتحمٌ بكلِّ مشاعره وأعصابه ودمه مع بناء القصيدة، فيعلنها صراحةً ويقول: “هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر، …”
يربط الشَّاعر هذا العالم الَّذي نعيشه بالشِّعر، ويعتبر أعصاب العالم ودماء العالم متأتِّية من وداعة وانبعاثِ الشِّعر، وبهذا يضعُ الشِّعر في مقام جوهر الحياة، ومحرّك الإنسان والكائنات كلّ الكائنات، وحالته هذه أشبه ما تكون بحالة النّيرفانا، عندما تتحوَّل الذَّات إلى حالة انصهاريّة متوحِّدة ومتماهية في الموضوع الَّذي تتوق إليه، كحبِّ الإله أو حبِّ أيّ شيء إلى درجة ذوبان الذَّات فيه، فالأب يوسف سعيد عَشِقَ الشِّعر والحرف والإبداع إلى درجة الذَّوبان فيه، فيراه جزءًا لا يتجزَّأ من كيانه، بل يعتبر كلّ ما في الحياة منبعثًا من دماء الشِّعر ومن أعصابه. لقد التحمَ في الشِّعر خلال سنين حياته، ولهذا يعتبر الشِّعر بمثابة كائن بديع فيه تصفو القلوب وفيه ومنه ترتقي الحياة إلى أرقى تجلِّيات العطاء! وعندما نتوغَّل في فضاءات ورحابة الشِّعر الَّذي كتبه الشَّاعر، نجد موضوع الحرّية ساطعًا، يتلألأ في أوجِ نصوصه، ويبدو أنَّ الشَّاعرَ يتوقُ توقًا عميقًا إلى الحرّية والتَّسامي والارتقاء والتَّأمُّل، وهذه الخصائل تشتركُ مع بعضها في مسألة صفاء الرُّوح ونبلها وسموِّها؛ حيث يقول:
“نفسي وهي في انتعاشتها المتسامية تحتسي شوقًا من مياه ينابيعها”.
“جدائل ليلي قرب ساقية تروي شجرة التَّأمُّل” ..
“نسوةٌ قرب سريري يحدثنني عن هلاكي المؤجّل، بينما أراقبُ كوكبًا كبيرًا، متمنِّيًا الارتقاء إلى دياره،
هل في أحواضه السَّماويّة زنابق من نوع ٍآخر؟!” ..
هناك توق شديد لدى الشَّاعر للارتقاء والسُّموّ نحو أحضانِ السَّماء، وقد تلوَّنت شفافية روحه بهذا النّزوع نحو عالم السُّموّ والارتقاء؛ ربّما لكونه أبًا روحيًّا، عمل أكثر من نصف قرن من الزَّمن في عالم الكهنوت، جنبًا إلى جنب مع عالم الشِّعر، المتعطِّش إلى سماء القصيدة، سماء الرُّوح، سماء الإبداع، سماء الأب يوسف سعيد. وسماؤه لها نكهة خاصّة، نراها مطرّزة برحيق الكلمة، المتطايرة من تعاريج الحلم!.. مستمدًّا من رحاب رؤاه الحلميّة بناءً مختمرًا في ذاكرة الشَّاعر التوَّاقة إلى مزج الواقع بالحلم والخيال فتأتي القصيدة متفرِّدةً في بنائها وأسلوبها وألقها.
إنَّ ما يميِّز أسلوب الأب يوسف سعيد عن غيره من الشُّعراء هو عفويَّته في الكتابة ودمج نزوعه الصُّوفي الشَّفّاف مع رؤاه السُّورياليّة النَّابعة من تراكمات الحالات الحلميّة، ورؤاه المستمدّة من تجربته الفسيحة في عالم الكلمة؛ حيث يقول:
“يخرجُ حلمُ المجدليّة من أحلامي”، “ترشقني سهام الأحلام”، “وحدُها الفراشات تستريحُ على أجنحةِ البرق”.
هذه الصُّورة الشِّعريّة الأخيرة تحمل بُعدًا عفويًّا مجنّحًا في عالم الإبداع! .. مع العلم أنّ الفراشات لا يمكن أن تستريح على أجنحةِ البرق، ولكن طالما ارتأى الشَّاعر أن يقول ذلك، فما علينا إلا أن نسمعَ إليه، دونما أن نناقشه في كيفيّة بناء هذه الصُّورة الغرائبيّة؛ لئلا نجرح أحاسيس (فراشات) الشَّاعر؛ لأنّه كما أنَّ للشاعر حساسيّة أدبيّة من نوعٍ خاصّ، كذلك لفراشاته استراحات من نوعٍ خاصّ!
ولو أمعنّا النَّظر في هذه الصُّور المدهشة، نرى في ثنايا تجلِّياتها وكأنَّها لوحات فنّية؛ حيث نراهُ يفرش سورياليته ورمزياته وصوره المدهشة في خمائل القصيدة، فتأتي القصيدة معتّقة بنكهة الحياة وكأنّها خلاصة تجربة فنّان عشق الحرّية، واللَّون، والحرف، والسَّماء المستوطنة فوق مهجة السموِّ والارتقاء، كل هذا ينثره الأب يوسف سعيد ببراعة فائقة من خلال براعم مستنبتة من وهج الكلمة!
وبالرُّغم من أنَّ الشَّاعر أبٌ روحي، كاهن عمل طوال حياته في سلكِ الكهنوت، فمع هذا نرى بين ثنايا قصيدته حضورًا قويًّا للمرأة، مؤكِّدًا عبر نصِّه على أهميّة المرأة في حياة الإنسان من جهة، وإلى حاجة الإنسان للمرأة عبر كلِّ العصور من جهةٍ أخرى، وقد طرحها عبر تساؤلات:
“هل ستأتي امرأة الحيّ إلى ديارنا؟ وهل في سلّةِ أحلامها عناقيد من عنبٍ أو تفّاحٍ أخضر؟
هل سترقصُ قربَ سريرٍ من الجوز؟” ..
مركِّزًا على المرأة كمرأة وعلى المرأة كعمل، كما أنّه يشطح نحو عوالم البهجة الَّذي تقدِّمه المرأة من خلال الرّقص وما يرافقه من فرحٍ غامر، حيث يراه حاجة كيانيّة حياتيّة وارفة.
وللشاعر موقف جليل تجاه الشُّعراء ويعتبرهم حكماء هذا العالم، قائلًا:
“.. أيُّها الشُّعراء، أنتم حكماء العالم”.. “مَنْ يقتلُ شعراءنا؛ يحذفُ مليون حكمة من دفاتر الشَّرائع” ..
ويعتبر الشَّاعر أنّ الشِّعر هو بمثابة روح الحياة التي تدبُّ فينا، حيث يشبِّه العالم بإنسان، وهذا الإنسان (أعصابه من دماء الشِّعر)، وهكذا، فإنَّ حبَّ الأب يوسف سعيد للشعر والشُّعراء، جعله يضع الشَّاعر في مصافّ الحكماء والمشرِّعين، واعتبر الشِّعر عصب الحياة في هذا العالم:
“أعلنها صراحةً: هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر” ..
ونستشفّ من هذه الأمثلة أنَّ الشَّاعر لديه موقف تجاه نفسه كشاعر واتجاه الحياة كوجود، وموقفه تجاه نفسه هو أن يكون حكيمًا يحمل بين جناحيه رحيق الشَّريعة والحكمة ليقدِّمها للحياة والوجود، وكأنَّ لدى الشَّاعر نزوعًا ورغبة داخليّة في أعماق كينونته للالتحام في الحياة، في هذا العالم الّذي عاش فيه.
حملت قصيدة الطُّفولة بين ثناياها هموم الغربة وهموم الحياة، وهذه الهموم هي اِمتدادات لعذابات الطُّفولة وتشرُّدها؛ فقد عاشَ الشَّاعر طفولةً قاسية، ذاق خلالها مرارات التَّشرُّدِ والفقر، لكنّه مع كلّ هذا حافظ على نقاوته منذ الطُّفولة؛ حيث يقول:
“لا شيء في حياة هذه الطُّفولة، سوى ممارسة التَّشرُّد، ماشيًا بلا زوجين من الأحذية، ومن فرط الانشقاقات في قميصي، الشَّمس تغزو جسدي ..” ..
إلا أنَّ الشَّاعر (الطِّفل) ما كان يهتمُّ بمسألة الفقر، وما كانت الانشقاقات في قميصه تشكِّلُ له مشكلةً حتّى ولو غزَت الشَّمس جسده .. لقد كان يوسف سعيد (الطِّفل) كما يرسمه الشَّاعر، يحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن، ولكنَّه كان أكثر سعادةً منهم (أي من الأغنياء)؛ لأنّه كان يستمدُّ سعادته من حرّيته وتجواله في غابات المدينة ويصوِّر لنا الشَّاعر هذه المواقف بوضوح في قصيدته؛ حيث يقول:
“الموصل العذراء تعرف جيّدًا كم كنتُ أعاني الفقر. مرارًا مارستُ طقوسه في سبوتي اليتيمة، أمخرُ في عباب مياهِ الكنائس، ومع هذا كنت أحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن، لكنّني في تشرُّدي كنتُ أكثر سعادةً منهم، كنـتُ حرًّا في الظَّهيرة المحرقة، أسوح في غابات المدينة” ..
إنَّ يوسف سعيد (الطّفل)، يحمل خصائص يوسف سعيد الشَّاعر، ويبدو من خلال تصوير الشَّاعر لطفولته، أنّه كان ينـزع نزوعًا عميقًا نحو الحرّية وهو طفل، وكان يحبُّ السُّموّ فوق المادّيات، مفضِّلًا مشاهدة الطُّيور في الحديقة عن لذائذ الطَّعام، وكلّ هذا يشير إلى أنّ نفسيّة يوسف سعيد (الطّفل) كانت راقية وسامية بالرَّغم من الفقر الذّي كان يعانيه، وهذه إحدى الدَّلالات الّتي تشير إلى أنَّ الشَّاعر ما كان يهتم بمادّيات الحياة منذ نعومة أظفاره، مفضِّلًا التَّمتُّع بمشاهدة الطُّيور عن لذائذ الطَّعام، وتبدو لنا مواقفه مجسّدة من خلال المقطع التَّالي:
“.. ربّما تلك القيلولة عادة مكتسبة في الظَّهيرة، تناول الأغنياء غذاءهم الدَّسم من مقاصفهم. أغزو موائدهم ببراثن جوعي، أحيانًا أنظر خلسةً، آكلُ سريعًا من مقاصفهم، أتناول فتاتهم فقط، ثمَّ أهرع إلى برّيَّة المدينة، راكضًا وملاحقًا أسراب القبّرات وأعودُ أدراجي، وقد نسيتُ لذائذ تلك المناسف، مراقبًا الطُّيور في الحديقة الوحيدة ..” ..
إنَّ تفضيل يوسف سعيد (الطّفل)، مراقبة الطُّيور على لذائذ الطَّعام، ينمّ عن وجود خصوصيّة مزاجيّة تقترب إلى عالم فضاءات الشِّعر والحرّية منذ أن كان طفلًا. ولو اهتمَّ منذ الطُّفولة بالمادّيات؛ لأصبحت هذه الاهتمامات في مقتبل الأيام على حساب حساسيته الشِّعريّة، ولكنّه لم ينجرف إلى عالم المادّيات رغم قساوة طفولته، لهذا حافظ على نقاوة ذاته الشِّعريّة، ويبدو لي أنّ يوسف سعيد (الطّفل)، كان في داخله شاعرًا، وذلك من خلال سلوكه وتوقه إلى عالم الطُّيور والبراري الفسيحة، تاركًا خلفه لذائذ الطَّعام ومادّيات الحياة، مركِّزًا ومستمتعًا بمباهج الطَّبيعة. وعندما شبَّ الشَّاعر عن الطَّوق، وبدأ يمارس رسالته الكهنوتيّة، نراه يمارس (نزوعه الطُّفولي النَّقيّ)، حيث لم يجده أحد طوال عمله في رسالته الكهنوتيّة الّتي امتدّت أكثر من نصف قرن، أن قَبِلَ عرضًا ماليًّا خلال قيامه بأعمال أكاليل الزّفاف، والعماد ومراسيم التَّأبين والدَّفن، على عكس رجالات الدِّين الآخرين، الّذين ما كانوا يتوانون دقيقة واحدة عن استلام الهبات الّتي كانت تُقدَّم إليهم، بل غالبًا ما كانوا يبدون امتعاضهم لو كانت الهبة المقدّمة إليهم قليلة، لا يضعون بالاعتبار فقر الآخرين أو ظروفهم القاسية، لهذا نرى أنّ الأب يوسف سعيد حالة استثنائيَّة نادرة في عالم اليوم، حيث تحوَّلت العلاقات إلى عالم مادّي بغيض، إلا أنَّ الأب الشَّاعر كان بمنأى عن هذا العالم، ترك لذائذ الطَّعام منذ الطُّفولة، واتّخذَ من القلم رايةً له، غير مبالٍ بمادّيات هذا العالم على الإطلاق!
فهل نجح في حمل القلم؟
نعم، نجحَ إلى حدٍّ بعيد!.. حيث لم ينقطع الأب يوسف سعيد عن الكتابة منذ أن مارسها حتَّى نهايات العمر؛ لأنَّه وجدَ في الكتابة متعةً لا تضاهيها متعة على الإطلاق، وكلَّما كتب نصًّا جديدًا، اتّصل بأصدقائه الشُّعراء وقرأ لهم نصّه عبر الهاتف بفرحٍ عميق كأنَّه عثر على درَّةٍ ثمينة، كلّ هذا يدلّ بوضوح على نجاحه واستمتاعه بحمْلِ القلم.
ستوكهولم: (2012).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم المؤلِّف: صبري يوسف.
عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.- مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).
الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
دار نشـر صبري يوسف – [email protected]
Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :