اسم المؤلِّف: صبري يوسف.
عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.
الجزءالأوَّل.
مقالات نصوص أدبيَّة.
الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).
الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).
تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.
صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.
حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
دار نشـر صبري يوسف
Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)
الإهداء:
إلى روح الأديب اللّبناني جبران خليل جبران
إلى الأديبة والنّاقدة والمترجمة المغربيّة د.أسماء غريب
إلى روح الأب الشّاعر العراقي د. يوسف سعيد
إلى الأديبة والباحثة الفلسطينيّة اللّبنانيّة دوريس خوري
إلى الشَّاعر السُّوري القس جوزيف إيليّا
إلى الفنّانة اللّبنانيّة د. جاهدة وهبة
إلى ملك الأغنية السّريانيَّة الفنَّان والملحّن حبيب موسى
إلى الرِّوائيَّة السُّوريّة لينا هويان الحسن
إلى الشّاعر السُّوري الكردي جميل داري
إلى الشّاعرة اللّبنانيّة حياة قالوش
إلى النّحَات السُّوري د. إلياس نعمان
إلى روح المهندسة المعماريّة العراقيّة د. زها حديد
إلى الفنّان التَّشكيلي العراقي الكردي صدر الدِّين أمين
إلى الأديب والروائي التّونسي د. كمال العيادي
إلى الأديبة والشّاعرة المصريّة د. فاطمة ناعوت
إلى الفنّان التّشكيلي السُّوري الكردي عنايت عطّار
إلى الفنّان والملحّن العراقي الكردي عدنان كريم
إلى الشّاعرة والإعلاميّة اللّبنانيّة جمانة حدّاد
إلى روح الشّاعر السُّوري محمّد الماغوط
و إلى روح الشّاعر الهندي طاغور.
مقدِّمة
صبري يوسف في فردوس الخَيالِ الكونيِّ الخلَّاق
د. أسماء غريب
كلُّ مَنِ اخْتارَ الحرفَ رفيقًا لرحلةِ الحياة القصيرة جدًّا، يعرفُ جيِّدًا ما معنى أنْ تُصبِحَ الكلمةُ خبزَهُ اليوميّ، ويعرفُ أيضًا كيف أنّها حقيقةٌ لا مجاز، النّجمةُ التي تُضيء كلّ عتمةٍ أو ظلامٍ قبل الخُلود إلى سرير السّرّ. ولأنّني مِن أهل الأبجديّةِ؛ فلا بدَّ للحروفِ أنْ تَصحَبني كلَّ يومٍ إلى أن أستسلمَ لسُلطانِ الموتِ الأصغر؛ وذلكَ لأنّي بهَا أكشِفُ العديدَ مِنْ أسرارِ الكُتُبِ التي اختارُها بعنايةٍ فائقةٍ، ولا بدَّ أن يكونَ للحرفِ المُنَزَّلِ مِنها نصيبٌ، وحينما تكتملُ دورةُ النَّهارِ، ويُقبلُ اللّيلُ ليُضيءَ خلوةَ العاشقين أقرأُ ما تَيَسَّرَ مِن القُرآن، وبضعَ آياتٍ مِنْ كُتب مُقدَّسة أخرى، وقد يحدثُ أيضًا أنْ أقرأَ بعضَ الكُتُبِ ذات الطّابعِ العرفانيّ؛ سواء باللّغة العربيّة أو الإيطاليّة أو الفرنسيّة أحيانًا. وأذكرُ أنَّه في الأيّام الثلاثة الأولى من شهر آذار (2020) وقعَ بَيْنَ يديَّ كتابٌ للسّيّد حسن الأبطحيّ؛ وهو بعنوان (معراجُ الرّوح) (1)، وبينما كنتُ أقرأُ بشغف كبيرٍ حكايتَهُ عن الكمال الإنسانيّ وكيف أنّ الإنسانَ لا يتوقّفُ أبدًا عن الترقّي لبلوغ أعلى مدارج الصّفاء مادامتْ روحُه لا نهائيّة البقاء، لا أدري كيف تذكّرتُ في تلكَ اللّحظة صديقًا آخر لي في الحرف هو النبيُّ النّائم إدغار كايس، كنتُ قد قرأتُ في العام الماضي عن سيرة حياتهِ الكثير، لقد شعرتُ وكأنّي بدأتُ أستوعبُ أكثرَ فأكثرَ بعضَ التفاصيل عن حياة إدغار الرّوحيّة من خلال أحاديث السّيّد حسن عن تجاربهِ المعمَّقة في عوالم الرّؤية والبصيرة والكشف الربّانيّ. ابتسمتُ وأنا أرى عظمةَ الخالق في مخلوقاتِه، وفيْضَ هباته وعطاياه التي يوزّعُها عليهم بدون أدنى تمييز أو استثناء، وقلتُ وأنا أغلقُ كتاب السيّد حسن: لا بدّ لي مِنْ أن أختمَ ليلتي هذه كما العادة بقراءة سورة ٍمن سُوَر القرآن الكريم، وحينما فتحتُ صفحاتِ الذّكْرِ الحكيم، إذا بي مباشرة أمامَ سورة (ق)، بدأتُ أُمعنُ النّظرَ في آياتِها الواحدة تلو الأخرى، وفجأةً، وجدتُني أتوقّفُ عند المقطع الذي يقول فيهِ ربّ العزّة والجلال: ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ))، فبدا لي وكأنّني أقرأُ هذا المقطع لأوّل مرّة في حياتي، فقد بزغَ منه نورٌ باهرٌ جَعَلَني أعود للآيات الأولى من السّورة لأقرأَها مرّات ومرّات، وفي كلّ مرّة كانت تتولّدُ أمامي معانٍ ساميةٌ جديدةٌ إلى أنْ تجلّى لي الـ (ق) كما هُو؛ قلبٌ كونيٌّ ضخمٌ يشعّ بالنّور وتتلألأُ كلّ خليّة فيه تلألُؤًا عجيبًا، ويصدرُ منها صوتٌ كأزيز الطّائرات، وكلامٌ قادمٌ من مكان بعيدٍ جدًّا فيه هديرٌ يُشبهُ هديرَ شلّالاتٍ عنيفة من الماء مصحوبة بأصواتٍ تُشْبهُ أصواتَ الأبواق الصّادحة في المطارات، أو داخل محطّات السّككِ الحديديّة وهي تُعلنُ للمسافرين أوقاتَ الذّهاب والإيّابِ، وعلمتُ حينئذٍ أنّ قلبَ الإنسانِ مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بهذا القلب الكونيّ العظيم، الّذي أقسَم الخالقُ بالحرف الأول من اسمه؛ لأنّهُ العرشُ الّذي يتربّعُ عليهِ، ومنه يتنزّلُ الحرفُ والنّبوءة والحكمة ليتخلّقَ العقلُ الوجوديّ الأكبَر المُسمّى بالقرآن الكامل، والّذي منه وبه يتحرّكُ كلُّ كائن فيه روحٌ ليصبحَ من أصحاب الاستعداد الأوليّ لتلقّي تفاصيل الوجود. ومنْ هذا القلبِ الكونيّ وجدتُني أقفُ متأمّلةً باندهاش كبير الصُّورَ التي قرنَ بها اللهُ طريقةَ خلقهِ للسّماء والأرض، وخلقِهِ للإنسان وكيفيّة عودةِ هذا الأخير إلى عالم البرازخ ومنها إلى عوالم الملكوتِ الأكبر، عندئذٍ وجدتُني أقول: ((يا إلهي، كيف يحدثُ هذا؟! هل تريدُ أن تقولَ لي: إنّنا نهطلُ على الأرضِ كحبّات المَطر، ثمّ ندخلُ إلى عمق ترابِ الأرحامِ بذورًا تحمل كلّ خصائصها التكوينيّة، ونظلُّ قابعين في عتمة الاختمار والتّبرعم والنموّ، إلى أن نظهرَ كما تظهرُ النباتاتُ والأزهار والأشجار فوق سطح الأرض لكلٍّ منها مهمّتُها السّامية في الوجود، وحينما تكتملُ دورَتُهَا البيولوجيّة تسقطُ فوق الأرض وتعود ثانيةً في دورة أخرى جديدة؟! أهذا حقًّا ما عنيتَه حينما قُلتَ: “كذلكَ الخروج”؟! إذا كان الأمرُ هكذا؛ فيالكَ يا إلهي من بُستانيٍّ عظيم! واسمح لي أن أقول لكَ: إنّهُ قد اكتملتِ الصّورةُ أمام عينيّ الآن؛ فكلّنا زهرُ الأرضِ ووَردُها، لكلّ زهرة ووردة عطرٌ معيّن، ولونٌ معيّن، وأنتَ ترعى كلّ وردةٍ باستمرار وتسهرُ على نشأتها إلى أن تصلَ بها إلى دار السّلام والأمن والأمان!)) بهذه الفكرة خلدتُ إلى نومٍ عميق وقلبي يُردّدُ قصيدتَهُ التي قُلتُ فيها ذات بوحٍ:
((في البدءِ كانتِ النُّقطَة
وكُنَّا أنتَ وأنا معًا
داخل بيضة فضيّة كبيرة
تتلألأُ بين الأقمار والنّجوم
كُنَّا نُغنِّي
ليتكَ تدري
وكانت بنا لهفة عظيمة
للخروج من العتمة
إلى النّهار المُشِعّ المُضيء
وفجأة، فوق شاشة بحر التّخليق العظيم
رأينا نجمَ الشّمالِ يَحلُم بنا
كان في الحُلم يغنّي
ويرقُصُ بنشوةٍ وسعادة كبيرة
وبقي كذلك لوقتٍ طويل
إلى أن سمعناه يقول ذات فجرٍ:
غدا سأكْسِرُ البيضةَ
فتخرجُ منها المرأةُ
ومن المرأة يولدُ الرّجلُ
ومعًا سيعيشان
ويموتان
ثم يُولدان
ويموتان
ولن يتوقّفا معًا أبدًا عن الولادة
فالموتُ يا أحبّتي
كذبة كبيرة!)) (2)
وفي صباح اليوم التّالي، وبينما أنا منهمكة في العملِ على كتابي النّقديّ الجديد عن الأديب صبري يوسف، إذا بي أتذكّرُ سورةَ اللّيلة الماضية (ق)، وتحضرُ أمامي صورةُ البستانِ الإلهيّ والنّاسُ فيه ورود وأشجار وأزهار وكواكبُ ونيازك وأنهار وكائنات أخرى لا تعدُّ ولا تُحصى، ووجدتُني أقولُ هاتفةً وأنا أرى صبري يُواصلُ نشرَ كتاباته عن نجوم ساطعة في سماء الأدب والفنّ على صفحته الرسميّة في الفيسبوك: ((لا شكّ أنّ هذا الرّجلَ استوعبَ درس المطَرِ والخروج بامتياز، إنّه بُستانيّ من طرازٍ رفيع، وكيف لا يكون كذلكَ وهو هنا في الفردوس الأرضيّ ينظرُ إلى كلّ إنسانٍ على أنّه بذرة في طور النموّ والإزهار، وحينما يراهُ قدِ اكتملَ وتوهّجَ بريقُه يكتبُ عنه ليؤرْشِفَهُ في لوحِ الله، حتّى تَطَّلِعَ وتتعرفَّ عليه الأجيال القادمة، وإنّي لأجدُه في عمله هذا يشبه الملائكة المتحدّثِ عنهم في سورة (ق)، يُسجّلُ بماء الذّهب كلّ شيء يخصُّ أهل النّور والحكمة!…))، وقبل أن أختمَ استنتاجيَ هذا إذا بي أجدُ في بريدي رسالةً منهُ يقترحُ فيها عليَّ تحريرَ مقدّمة عن كتابه (تجلّيات الخيال)، فقلتُ في نفسي: ((يا إله الحرف، أيّة مهمّة هذه التي يكلّفُني بها هذا البستانيّ؟! كيف سأقوى على استيعاب كلّ هذا العطر المتدفّق من أبجديّة النّور؟!)).
وضعتُ الكتابَ في قارئيَ الإلكترونيّ، وبدأتُ أتصفّحُ أوراقه بتأمّلٍ شديدٍ، فكان أوّل ما لاحظتُ هو طريقته في اختيار الأسماء التي كتبَ عنْهَا؛ إنَّها كلّها منتقاة من ملكوت الإبداع والفنّ، وهذا الاختيار ليس له سوى مبرّرٍ واحد لا غير: إنّ صبري يوسف يؤمنُ إيمانًا عميقًا بأنّ البتوليّة الحقّة لا تُدرَكُ إلّا عبر الإبداع بكلّ تجلّياتِه وتدفُّقاته في شتّى الميادين الفنّيّة والعلميّة والأدبيّة والموسيقيّة والرياضيّة وما إليها. وإذ أقولُ البتوليّة؛ فإنّي أعني بها حالةَ الاستنارة الكاملة للإنسانِ الحقّ؛ أيْ حالة التحرّرِ من عبوديّة الجسد وجبروتِ العقل المادّي للوصول إلى العروج الكامل نحو سماوات الخيالِ الإلهيّ، ومن هُنا جاء عنوانُه لكتابه هذا (تجلّياتُ الخيال)، فهو لا يعني بها بشكل محدود تجلّياتَ الأدباء والفنّانين الّذين تناولَهُم بالاهتمام والعناية، وإنّما تجلّيات الخيالِ الخلّاق للذّات الإلهيّة العليا التي تكشفُ عن نفسِها بذاتِها عبر مخلوقاتها، وهو الكشفُ الّذي لا يتمّ إلّا عبر الخيال المُطلق اللّامشروط، والتميّز بالوجود الخفيّ من خلال إظهار الذّاتِ بكلّ ممكناتها وأسمائها وصفاتها وأعيانِها الثّابتة، ممّا يعني الانتقالَ من حالة الكمون إلى حالة النّورانيّة والظّهور؛ وذلك لأنّ كلّ العوالمِ التي يراها صبري يوسف هُنا من خلال كتابه هذا هي في الآن نفسهِ مظهرٌ من تمظهرات الحَقّ المتكَشِّفِ في الأشكال، فيكونُ بهذا المحدودَ الذي لا يُحَدُّ، والمرئيَّ الّذي لا يُمكنُ رؤيتُهُ؛ لأنّ هذا الظّهور هو غير قابلٍ للإدراك ولا للتّحقيق بواسطة الملَكَات المحسوسة، والعقلُ البشريُّ يُنكره، ولأجل هذا فإنّ الأسماءَ التي اختارها صبري يوسف في كتابه هذا هي ممّنْ تُبدِع وتكتبُ وترسُم وتلَحِّنُ وتُغَنّي وتُهَنْدِسُ الأشياءَ التي تُملى عليها عبرَ العقل الإلهيّ الخلّاق؛ لأنّ أصحابَها هُم أنفسهم صورةٌ من تجلّي الخيالِ الإلهيّ المحض، ولعلّ هذا هو السّبب الذي يجعلُ صبري يوسف يستخدمُ قاموسًا تعبيريًا لا يخرجُ عمَّا هو سماويٌّ خالص وفردوسيٌّ محض؛ انظر إليه كيفَ يتحدّثُ عن جبران خليل جبران، وزُها حديد والأب يوسف سعيد، ثمّ حبيب موسى وصدر الدّين أمين، هؤلاء كلّهُم من أهل التنوّر والإزهار والبتوليّة الحقّة. وانظر إلى ما كتبهُ عن طاغور مثلًا وسَتَعِي للعُمق أنّ اختياراته ليست بالعفويّة بتاتًا، وإنّما هي مقتطفةً من الفردوس بدقّة شديدة، وليسَ ما يقولُه عن مبدعٍ ما تجدُه عندَ مُبدع آخر، بل على العكس من ذلك تمامًا؛ إنّ كلّ اسمٍ عند صبري له خصوصيّته وصفاته وبَصْمَتُه التي لا تتكرّرُ أبدًا، لكنّهم يشتركونَ جميعًا في شيءٍ واحد: إنّهُم يسكنون الفردوسَ الإلهيّ، ويتنعّمون بمطره النقيّ البهيّ، ويتجدّدونَ فيه حياة بعد حياةٍ، وإلّا فما معنى أن تكون بينهم عازفة السّيتار الهنديّة أنوشكا شنتر، والأوبراليّة هبة القوّاس، والفنّانة جاهدة وهبة، أليسَ ذلك لأنّ الموسيقى هي اللّغة الرّسميّة للسّماء؟! صبري يوسف يعرفُ هذا جيّدًا، ويعلمُ أنّ الموسيقى كامنة في كلّ العلوم والمعارف الإنسانيّة، وقد قالَ عنْها في أكثر من مقام إنّها: ((هي الحياة بعينها، تُطهِّر الرّوح من منغصّات الحياة، بلسمٌ شافٍ من آهاتِ السِّنين، تناغي القلبَ بأحلام الغد الآتي، تهدهدُ القلبَ بسطوعِ القمر وهو يعانقُ حنينَ عاشقة في ليلةٍ قمراء[…] فالموسيقى صديقةُ حلمه المفتوح على مروجِ الدُّنيا، لا يستطيعُ أن يتصوَّر الكونَ بدونِها، فهو يُسبغُ عبر إيقاعاتها حبورَ الكلمة المنسابة من حنينِ الرُّوحِ إلى فضاءاتِ ذاكرةٍ معبّقة بخيوطِ الشَّوقِ إلى محطّاتِ العمرِ، تنسابُ الكلمة معَ بهجةِ انبعاثِ أنغامِ الموسيقى ضمنَ إيقاعِ تجلِّيات القصيدة وهي تسمو نحوَ أحلام وارفة بوهجِ الانتعاش!)) (3)، نعم؛ فالموسيقى وحيٌ أُنزلَ على الإنسان من سماوات الصّفاء والنّقاء ليُعَرِّفَهُ بخالقه، ويُسْعِفَهُ بلغة جديدة يتواصلُ بها معهُ، تكونُ ترتيلةً من تراتيل الرّوح، وترنيمةً من ترانيم الفؤاد، وحبلًا سرّيًّا يُغذّيه بمصلٍ كونيّ ليس له مثيل. إنّهَا كالعشقِ تُفتّتُ بمائِها الزّلالِ قلبَ الصّخر، وتغسلُ همومَ النّفس وأحزانَها. وكالقنديلِ تطردُ العتمة من وجه النهار، وتفتحُ ذراعَيْها لمعانقة كلّ البشر مهما اختلفت لغاتهم وعاداتهم وانتماءاتهم. إنها الفنّ الذي يُجسِّدُ في أحسن صورة سرَّ الخلقِ والخليقة، وهيَ لهذا لصيقة بأهمّ الحالات والتجارب الرّوحيّة التي يمكنُ أن يمرَّ بها كلّ كائنٍ في حياته؛ وأعني بها تجربةَ العشق، ثمّ تجربةَ الموت والفقد، وكذا تجربة التعرّفِ إلى اللّه، وهي أمُّ التجاربِ كلّها التي منها انطلقَ كلّ شيء (4)، والتي بها دخل الإنسانُ إلى عوالم المعرفة الحقّة، كما فعلتْ كلّ هذه القامات السّامقة التي كتبَ عنها صبري يوسف في كتابه هذا بجزأيْه الأوّل والثّاني بمَن فيها طاغور الّذي كان حينما يأتيه وحيُ الكتابة يُغلق على نفسه في غرفته لأربعة أيّام أو ربّما أكثر، ولا يخرجُ إلى أن تتحوّلَ طاقتُه إلى إبداع نورانيّ خلّاق، يُصبحُ معه وجهُه مُحاطًا بهالة من النّور وجسدُه فوّاحًا بعِطر القداسة، كوردةٍ صوفيّةٍ في فردوس الله، مثله في هذا مثل كلّ هذه الورود التي يقفُ بقُربها صبري يوسف ليعاينَ ألوانَها الخلّابة وجمالَها الآسر، ويقرأَ الحروفَ المرتسمة فوق جبينها، ويسكر بشذا عبيرها الفوّاح، كدرويش يدُور بسرعة البرقِ في فلكِ البهاء إلى أن يدخل حال الغيْبة فيتجلّى لهُ كلّ اسمٍ على حقيقته: نقشًا في خيال العقلِ الكونيّ الذي أظهرَ الوجودَ بسرّ “كُنْ فيكونْ”!
الهوامش:
(1) السّيّد حسن الأبطحيّ، معراج الرّوح، ترجمة إبراهيم رفاعة، ط2، دار البلاغة، بيروت، (1993).
(2) د. أسماء غريب، قصيدة (كذبة كبيرة) ضمن ديوان (ڤـتامين سي)، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، (2020)، ص(51-52).
(3) صبري يوسف، حوار مع الذّات؛ ألف سؤال وسؤال، الجزء الخامس، سؤال رقم (425)، دار صبري يوسف، ط1، ستوكهولم، (2017)، ص (32).
(4) د. أسماء غريب، أنا رع، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، (2016)، ص (62).
الهوامش:
(1) السّيّد حسن الأبطحيّ، معراج الرّوح، ترجمة إبراهيم رفاعة، ط2، دار البلاغة، بيروت، (1993).
(2) د. أسماء غريب، قصيدة (كذبة كبيرة) ضمن ديوان (ڤـتامين سي)، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، (2020)، ص(51-52).
(3) صبري يوسف، حوار مع الذّات؛ ألف سؤال وسؤال، الجزء الخامس، سؤال رقم (425)، دار صبري يوسف، ط1، ستوكهولم، (2017)، ص (32).
(4) د. أسماء غريب، أنا رع، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، (2016)، ص (62).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جبران خليل جبران
(1)
عندما أقرأ جبران خليل جبران؛ أتحوَّل إلى طائرٍ يحلِّقُ في أعالي السّماء، كي أعانقَ أزاهيرَ الفرحِ المبرعمةِ في زهوةِ الإبداع. جبران خيالٌ منساب من وهجِ الشّمس، كلمةٌ منبعثة من جنانِ السَّماء، حرفٌ مندَّى بثمار الجنّة، رؤية محبوكة من أحلامِ الطُّفولة، من شموخِ شاعرٍ مبرعم من رحيقِ الأشجار. عندما أقرأ جبران؛ يخفق قلبي فرحًا، وأشعر كأنّي أقرأ فصولًا من انبعاثاتِ نفسي، يجتاحني ألقٌ فرحيٌّ. أقرأ كتاباته بشغفٍ عميق ومتعةٍ منعشة تبهج الرّوح والقلب، أتماهى مع نصوصِهِ كأنّها منبعثة من أعماقي الخفيّة في حالة انسيابيّة باذخة، تغمرُني فضاءاته السّاحرة بتجلّياته الشّاهقة، وتلامسُ بَوحي المنبعث من وهجِ الأحلام، وأنا في أوج تجلِّياتي وجموحي لأشهى حالاتِ التَّأمُّل. يكتبُ جبران حرفه بتفرُّدٍ بديع كأنّه مفطور على انبعاثِ الكلمة الخلّاقة منذ أن تبرعمَ في أحشاءِ أُمِّهِ، حاملًا بين مرامي حرفه طاقة إيجابيّة حافلة بالخير والمحبّة والوئام، طاقة مبلَّلة بيراعِ الحلم المجنّح نحو هلالات الغمام السّاطع في شهيقِ السّماء. ينثرُ هذه الطّاقة المنبعثة من تجلّيات حرفه فوقَ نصاعةِ الحياةِ؛ كي يموسقَ جمالَ الأرضِ والسَّماءِ، ويصالحَ الإنسانَ معَ أخيهِ الإنسان عبر نداءِ المحبّة المعشّشة في كينونتِهِ منذُ أن تدلّى على طينِ الحياةِ على شاكلةِ إنسان، فهو طاقة علويّة مسكونة في حبورِ الكلمة الخلّاقة، تنسابُ نصوصُهُ فوقَ ظلالِ الرّوحِ كما ينسابُ أريجُ الفرحِ في أوجِ تجلّياتِ هدهداتِ العشقِ. يجمحُ حرفه عاليًا عبر تدفُّقات خيالٍ فسيح ومفتوح على رحابةِ حنينِ الأرضِ للسماءِ، وتلامسُ شغافَ الرُّوح بأريحيّة طيّبة، كأنّه خلال انبعاث حرفه في حالةِ ابتهالٍ مع الأعالي وأبهى تجلّياتِ الأحلامِ. ينسجُ وميضَ حرفه بحبرٍ مندَّى بحليبِ الحنطة ورحيقِ الزَّنبقِ، يستلهمُ انبعاثاته من اخضرار الغابات المفروشة على رحابةِ شهقاتِ الخيال، كأنّها متهاطلة أريجًا متناثرًا من مآقي الزّهور، من شهوةِ المطر، من غمامِ الرّوح، من إشراقةِ الحنين إلى حبورِ الأطفال، من منعرجاتِ الرّحيل إلى أقاصي غربةِ الرُّوح؛ بحثًا عن كلامٍ يغدقُ ألقًا كعذوبةِ أمواجِ البحرِ، فيحلِّق عاليًا فوقَ الأمواجِ الهائجة، مهدهدًا نوارسَ البحارِ وهو في أوجِ حنينه إلى شواطئِ المحبّة والأحواش العتيقة، المحاطة بأشجارِ التّينِ والرَّمان والدَّاليات المعرّشة فوقَ نوافذِ البيوتِ حتّى نهاياتِ سطوحِ المنازل.
يتأمَّلُ المدى البعيد، وهو يمخرُ سفينة حروفهِ في أعماقِ عبابِ البحرِ، حاملًا فوقَ أجنحتِهِ أسرارَ انسيابِ دندناتِ الكلمة، ينسجُ حلمًا طافحًا بهواجسِ البحرِ، ويقطفُ من هديرِ الرِّيحِ أسرارَ العبورِ في أشهى مروجِ الحياةِ .. فتتوالدُ الكلمات من رحمِ عذوبةِ البحرِ، ويغدو حرفه كأنّه مستولدٌ من ظلالِ النَّعيمِ!
جبران خليل جبران قصيدةُ عشقٍ معبَّقة بأزهى أهازيجِ السَّماءِ، خيالٌ معبَّقٌ بوهجِ القرنفل، ينسج حرفه على إيقاع نبضات القلب وهفهفات الرُّوح، لا أرتوي من قراءةِ فضاءاته الفسيحة وهو يغوصُ ألقًا في مناراتِ عرينِ القصائد، حرفٌ مسبوغٌ من لدنِ المحبّة، من مناغاةِ زخّاتِ المطرِ، يتهاطلُ حرفه حُبًّا شهيًّا رهيفًا كأنغام النّاي المنسابة في بؤرةِ الأحلامِ على امتدادِ كلّ الفصول، يتدفَّقُ خياله ألقًا وفرحًا ووئامًا فوقَ صدرِ الأرضِ، كأنّه يكتبُ حرفه من نضارةِ آلهة الماءِ السّاطعة في مآقي السّماء، فيروي عطشَ البراري المستكرشة بملوحة متناثرة فوق وهادِ الأرضِ، ويسقي حنينَ اللَّيلِ إلى بسمةِ الصَّباحِ، يناغي خريرَ السَّواقي المنسابة من منحدراتِ الخير، وكأنّه يناجي عبر حرفهِ شوقَ الرُّوحِ وهي في أوجِ سموِّها إلى ضياءِ الأعالي، عابرًا بشغفٍ عميقٍ عبر مسارات حرفه إلى قبَّةِ السَّماءِ، مُهدهدًا توهُّجاتِ الكلمة المكلَّلة بغبطةِ الغمامِ. يسمعُ برهافةٍ شفيفة إلى خشخشاتِ هديرِ الرِّيحِ، طموحٌ مفتوحٌ على بساتينِ حلمٍ مترعرعٍ فوقَ أعشابِ القلبِ، يكتبُ بفرحٍ غامرٍ كلّما غفا اللَّيلُ على أهدابِ القصيدة، كلّما ابتسمَ القمرُ لبهاءِ حدائقِ العشقِ وهي تظلِّلُ بهجةَ العشّاقِ، خيالٌ منسابٌ على إيقاعِ هدهداتِ نُجيماتِ الصَّباحِ، يموجُ حرفهُ مثلما تموجُ غيومُ الحنينِ إلى خدودِ الأطفالِ، يزغردُ قلبُهُ شوقًا إلى عناقِ الدّالياتِ وهي تغدقُ علينا أشهى عناقيدِ دفءِ الرّوحِ. ينثرُ بعذوبةٍ انسيابيّةَ الحلمِ فوقَ أزاهيرِ الحياة،ِ كأنّهُ موجة عشقٍ متناثرة فوقَ خميرةِ الأرضِ، ينامُ بحبورٍ عميقٍ على إيقاعِ هدهداتِ الكلماتِ الوارفة بأزهى طفوحِ الابتهالِ، شوقًا إلى باكورةِ البراعمِ. يرسمُ بشغفٍ براعمَ الحلمِ من نسغِ حرفٍ مندلقٍ من سقسقاتِ العصافير وهي تلهو جذلى معَ البلابلِ في الهواءِ الطّلقِ. يزدادُ تجلِّيًا كأنّه في حالةِ ابتهالٍ طافحٍ بشهوةِ الإبداع، وفي أوجِ عناقِهِ لنعيمِ السّماءِ.
أزهرَتِ البحارُ في قلبِ جبران أبهى المحار، وأغدقت الطَّبيعة عليه أغنى كنوزِ الدّنيا وكأنّه صديق البحرِ وعاشق الجبال وموغل مثل النَّسيمِ البليلِ في عناقِ سكونِ اللَّيل. جبران شجرة وارفة بمذاقِ ثمارِ المحبَّة بكلِّ نكهاتها الطَّيِّبة. كلّما عبرْتُ فضاءاته الرّحبة؛ شعرْتُ وكأنّني أقرأُ ما كان يراودني قبلَ أن آتي إلى مرافئِ الحياةِ، فهل تواصلَ مع روحي التَّوّاقة إلى مهجةِ القصيدة قبلَ أن أعبرَ مروجَ الدُّنيا، أم أنّه وهج عشقٍ متطايرٍ من هلالاتِ الرُّوحِ؛ هذه الرُّوح المرفرفة فوقَ جبينِ الحياةِ منذُ أن تبرعمَ فوقَ أديمها اخضرارَ الكائنات، وتنامَتْ خمائل الطّبيعة بكلّ بهائِها فوقَ أغصانِ المحبّة، تسربلُ وجهَ الأرضِ ألقًا بديعًا، متوغِّلةً بينَ أحضانِ البحارِ، ترتوي من طفوحِ خيراتها؟!
جبران حلمٌ مفتوح على مساحات كركرات الطّفولة، يحلِّقُ مثلَ النُّسورِ فوقَ هاماتِ الجبالِ، حرفٌ مجبول من شموخِ مرتفعاتِ “بشرّي” المكتنز بعيونٍ صافية صفاءَ القصيدة البكر، صوتٌ صادحٌ على أنغام النّاي، تنشده فيروز في صباحٍ مُبلسمٍ بهواءٍ يهبُّ من جهةِ البحرِ نحوَ جبالِ لبنان، نسيمُ فرحٍ منسابٍ فوقَ بتلاتِ الزّهورِ في أوجِ الرّبيعِ، لغةُ عاشقٍ منبثقة من تلألؤاتِ النُّجومِ، ينبوعٌ صافٍ متدفِّقٌ من دموعِ القصائد، رحلةُ شاعرٍ مجنّحٍ نحوَ إشراقةِ حرفٍ من لجينِ الأحلامِ المعرّشة في غبطةِ خيالٍ محبوكٍ بيراعٍ مشرئبٍ بأريجِ النّرجس والتِّين البرِّي.
كتبَ جبران أناشيدهُ كشغفِ ناسكٍ، ملتقطًا في أوجِ تجلِّياتِهِ وميضَ القصائد، كأنّه في غمرةِ نشوةٍ عارمة مبحرًا في محرابِ الشِّعرِ، يغترفُ أعذب الكلامِ وهو في أوجِ تأمُّلاته، مستلهمًا الكلمة الممراحة من حفاوةِ المطرِ، من نقاوةِ النّدى، من أنغامِ قيثارةِ الرُّوحِ، من بساتين جنّاته المفتوحة على رحاب الدُّنيا. صاغَ تراتيلهُ المتدفِّقة من زرقةِ السّماءِ كأحلامِ عاشقٍ مجنّحٍ نحوَ ضياءِ شموعِ الأديرة المعبّقة ببخورِ المحبّة.رسمَ حرفًا معجونًا بخميرةِ نارٍ مقدَّسة، كأنّه يُعِدُّ لنا مائدة لذيذة من نكهةِ الخبزِ المقمَّرِ. كم يبدو حرفه شهيًّا كأنّه محبوكٌ بإشراقةِ هلالاتِ السّماءِ، حرفُه من لونِ الأملِ المبرعمِ من قبلةِ الشَّمسِ وهي تغدقُ دفئًا من نكهةِ انبلاجِ القصيدة.
نثرَ جبران خلال رحلة البوحِبذورَ حروفهِ فوقَ خصوبةِ الحياةِ، فوق خميلة الأحلام المعرّشة في شهيقِ السّماء؛ كي ينعشَ القلوبَ المكلومة، وقلوبَ العشّاقِ العطشى لأزاهير الخير، ورفرفات أجنحةِ اليمام المحلِّقة فوقَ منارةِ المحبّة المعبّقة بالسّنابل الشّامخة فوقَ جبينِ الحياة، ماسكًا ريشته كي ينقشَ فوقَ أمواجِ البحارِ أسرارَ انهمارِ المطرِ في أوجِ حنينِ الأرضِ العطشى إلى بركاتِ السَّماءِ كي تروي عطشَ الصِّغارِ والكبارِ، وتغدقَ خيرات الأعالي فوقَ أجنحةِ الكائنات كلّ الكائنات!
تنمو الكلمة في قلبِ جبران كزنابقِ الحقولِ، كأجنحةِ البلابلِ وتغرِّدُ تغريدةَ فرحٍ في كلِّ الفصول، وتنبعثُ من ظلالِ روحهِ الظّمأى إلى نورِ الحياة! وحدَها الكلمة تزرعُ بذور المحبّة فوقَ وجهِ الدُّنيا، وحدَها القصيدة تنسجُ اخضرارَ الحياةِ فوقَ جفونِ اللَّيل، وحدَها الرّوح تعانقُ مايماثلها من أرواحٍ على مدى انبعاثِ شهقاتِ العصور!
جبران روحٌ فيَّاضة معرّشة بينابيع بوحِ القصائد، منذُ أن تبرعمَ فوقَ طينِ الحياة، وسيبقى مبرعمًا كأنشودةِ عشقٍ تدندنُها فيروز بألقٍ كبير على أنغامِ النّاي، لتبقى روحُهُ مرفرفةً عبرَ أناشيدِهِ الصّادحة فوقِ وجنةِ الحياةِ إلى أمدٍ طويل!
ستوكهولم: (2018) صياغة أولى.
(2019) صياغة نهائيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صبري يوسف Sabri Yousef
*أديب وفنان تشكيلي سوري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يليه بالنشر مجموعة القسم الثاني بعد أول مجموعة:
التعليقات مغلقة.