حوار صبري يوسف مع الشّاعرة العراقية فيفيان صليوا
(بعد اعتكافٍ وانقطاع طويل للشاعرة العراقية فيفيان صليوا عن مواقع التّواصل الاجتماعي بكل أنواعها، تخرجُ الشّاعرة عن عزلتها الطّويلة وتطلُّ علينا عبر صفحتها الخاصّة على الانستغرام لتتواصل مع قرّائها وقارئاتها والأصدقاء والصديقات والمتابعين والمتابعات على العنوان التالي: vivianneslioa@
وأودُّ بعودتها أن أنشر الحوار الّذي أجريته معها أثناء زيارتها إلى ستوكهولم من لندن).
حوَّلني إلى طائرٍ يحلِّقُ عالياً في السماء من دون خوف من السقوط في حفرة من الغيوم
صبري يوسف – ستوكهولم،
نبتَت الشاعرة العراقيّة فيفيان صليوا في أرضٍ شعرية عراقيّة خصبة، من أسرةٍ تهتمّ بالأدب والثقافة والإبداع، من أحفاد حضارة مابين النهرين، أحفاد كلكامش، ظهرَت ميولها في كتابة الشعر منذ أن كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وتمكَّنَت أن تحقِّقَ حضوراً على الساحة الشعريّة خلال فترة قصيرة. صدر ديوانها الأوّل ( أحزان الفصول ) عن دارا لمنفى في السويد عام 1997، وقد هيمن على أجواء هذا الديوان، أطياف من كل أنواع الحزن، واستطاعت أن تترجم أحزانها عبر مقاطع شعرية مكثفة، تعبّر عن أوجاعها الجاثمة فوق تلال الذاكرة بأسلوب جديد، وإن الإعدام الذي تمَّ تحت التعذيب لكلّ من جدّها وجدّتها وعمّاتها الأربع وعمّها وزوجته وأطفاله من قبل فرقة الإعدام الصدامية في العراق الوطن الأم، وبعدها توارت فيفيان من بين أيدي الجلادين، وهي طفلة يانعة، وبقي هذا الموت التراجيدي ملتصقاً في ذاكرتها، وربمّا يبقى إلى الأبد، موتٌ يرعب الجبال، فكيف بصبيّة في مقتبل العمر، وعندما انتهى بها المطاف إلى السويد لم تجد الشاعرة أمامها سوى الكلمة، تشهرها في وجه الطغاة، فولدَت القصيدة من رحم الأحزان المتدفِّقة على مساحات روحها وقلبها، فجاءت نصوص الديوان الأول محفوفة بالأنين والألم، إنّه قدر الشعراء أن يحملوا بين أجنحتهم أحزاناً تهزُّ كاهل الجبال، وأمّا ديوانها الثاني ( أطيان ) فقد أخذ بعداً جديداً، تناولت فيه الشاعرة قضايا إنسانيّة عديدة إضافة إلى قضايا وطنها المخبّأ بين تعاريج أحلامها وقلبها، وهناك تقنيات جديدة وبناء فني مكثَّف في غاية الشفافيّة والإبداع في نصوص ديوانها الجديد، ممّا جعل عدد غير قليل من الشعراء والنقّاد الوقوف مليّاً عند تجربتها الشعرية، أمثال الناقد حاتم الصكر الذي أكّد على ( فرادة تجربتها الإبداعيّة، وتميّزها في المشهد الشعري التسعيني).. كما أشاد بعض الشعراء والقصاصين والنقاد وتناولوا نصوصها بالدرس والتحليل أمثال الشاعر عبدالكريم الكاصد والناقد غالب الشاهبندر والقاص إبراهيم أحمد والأب الشاعر يوسف سعيد وآخرين..
مخيّلة فيفيان زاخرة بالعطاء والإبداع، ولا تتسرّع في نشر قصائدها ودواوينها، تشتغل بحرفيّة دقيقة، وهي شديدة الحساسية والتركيز على المقاطع والنصوص التي تختارها، تكتب كثيراً لكنها تختار الأجمل والأفضل، فهي حريصة أن تقدّم أبهى وأعمق ما لديها من نصوص للقرّاء..
تقيم الشاعرة الآن في لندن، وفي زيارتها الأخيرة إلى ستوكهولم، التقيناها وكان الحوار التالي:
– ماذا تعني كلمة شعر بالنسبة للشاعرة فيفيان صليوا؟
الشعر بوّابة خصبة، غيّر مجرى حياتي كلها، أشعرُ وكأنَّ الشعر اختطفني من الظلمة إلى النور، لكنّ النور لم يبهر عيوني. أحسُّ وكأنَّ الشعر أشبه ما يكون بكوكب حنون، يحمل أحزاني المحبطة ومتاعبي المرهقة، وعندما أدخل في عالم هذا الكوكب أشعر بالفرح والراحة، والشعر حوَّلني إلى طائرٍ يحلِّقُ عالياً في السماء من دون خوف من السقوط في حفرة من الغيوم.
– تكتبين نصّاً مكثَّفاً وعميقاً، كيف تكتبين نصَّكِ من الناحية التقنيّة، أي من ناحية البناء الفنّي للنص؟
بعد ديوان ” أحزان الفصول ” تريّثتُ فترة من الزمن، اندهش بعض الأصدقاء الشعراء عن تريّثي وانقطاعي، لكنّي فجأةً عدتُ أكتب من جديد، أفجِّر ما في داخلي من تراكمات أحزان ما بعد الفصول، وكأنّ مقطعاً يتوالد منه مقطعاً آخر. وحول موضوع تقنية النص، تأتي بشكل عفوي، البناء الشعري عندي منبعث من تدفقات الوهج الشعري، لأنّ الشعر صديقي الحميم، يدفّئ حزني وشوقي، لهذا أراه مطواعاً للعبور في خباياه العميقة.
أحبُّ الطين لأنَّ بيتنا القديم كان فيه غرفة من الطين. كان جدّي وجدتي يناما فيها، وكنتُ أنام معهم في غرفة الطين، فتصالب الطين مع كياني، وبعد إعدام أغلب أفراد أسرتي بما فيهم جدّي وجدّتي، تهدَّمَت غرفة الطين، لكنّها لم تتهدّم في داخلي، بقيت شامخة في الذاكرة، وربّما منها انبثق فجأة تسمية ديواني الثاني “أطيان”!
– هل ما تكتبينه تنشرينه، تحتفظين به، أم أنّكِ تغربلي ما تكتبينه، ولهذا تأتي نصوصكِ في غاية الكثافة والتماسك والانبهار؟
لا، لا أنشر كلّ ما أكتبه، ولا أحتفظ بما لا أنشره، فعندما كتبتُ “أطيان”، وجدتُ في النصوص صوراً غزيرة وعديدة، فأنا أكتبُ وأعيد صياغات المقاطع ثمَّ أعود بعد فترة وأنتقي من المقاطع ما يشدُّني ويهزُّني كما هزّني لحظة ولادته!.. والنص الّذي أشعر أنّه عادي ولا يتركُ في نفسي أثراً عميقاً، غالباً لا أنشره ولا أحتفظ به، فأنا شديدة الحساسيّة بانتقاء ما أقرِّر نشره وظهوره إلى النّور. فأكتب أولاً لنفسي ومن ثمَّ أقدِّمه للقارئ/للقارئة، نصّ مكثّف لأنني أحب الاختزال والصور الجديدة غير المطروقة..
– في ديوانكِ الأوَّل “أحزان الفصول”، تقولين في قصيدة فرحي: (فرحي وردة/ لم ينبت بعد)، متى سينبتُ هذا الفرح؟
ينبتُ فرحي بشكل مؤقّت، مؤقَّت جدّاً!.. وسبب حزني العميق يعود إلى الموت التراجيدي المؤلم جدّا ( إعدام أغلب أفراد أسرتي تحت التعذيب)، والحزن أشبه ما يكون قدر العراقيين، لهذا نادراً ما أجدني فرحانة، وحالما أعبر في عوالم الفرح، أجدني أخترق جدار الحزن دونما استئذان من حالاتي الفرحيّة المؤقّتة!.. وآمل أن ينبتَ لي فرحاً عميقاً في المستقبل.. لستُ أدري.
– تقولين في قصيدة “مرّتين”، من أحزان الفصول: “متُّ مرَّتين/ مرَّة داخل الوطن/ ومرّة خارج الوطن/ هل يموت الإنسانُ مرّتين؟”.
نظراً لأني عشتُ فترة كابوسيّة في العراق، ثمّ جئتُ إلى منفاي السويدي، أحسُّ وكأنّي متُّ مرّتين، مرّة داخل وطني المعذب، ومرّة لأنّني بعيدة عنه، وهناكَ مَنْ يشعرُ أنّه مات مئات المرّات، فنحن العراقيين نحملُ موتنا على أكتافنا ونرحلُ في سماء الموت.. فرَرْنا من الموت في الداخل للبحث عن الحياة، فوجدنا موتاً آخر ينتظرنا، وهكذا يتكرَّر موتنا مرّات ومرّات.
– هناك مفارقات بين نصوصكِ وانتقال من حالة إلى أخرى، لا تمتُّ بصلة للتي قبلها، كيف تصوغي هذه المفارقات والحالات الشعريّة بطريقةٍ انسيابية؟
أحبُّ أن يعالجَ النص مواضيع عديدة، غنيّة وجديدة، فلا أريد أن أكتب نصّاً طويلاً عن موضوعٍ واحد، فهو يبعث في نفسي الملل، لهذه أكتب نصّاً ذو مقاطع عديدة، كل مقطع يتضمَّن فكرة ما، موضوع ما، صورة ما، فتأتي المقاطع أكثر غنى وأكثر شمولية!.. وتولد المقاطع بشكلٍ تلقائي وعفوي وانسيابي دون التخطيط لها مسبقا.
– ما هي طقوسكِ في الكتابة، هل تكتبي نصوصكٍ بطريقةٍ ما، أو بطرقٍ عديدة، كيف ومتى تكتبين نصوصكِ الشعريّة؟
عندما أكتبُ شعراً، أكتبه على ورقٍ معيّن وبقلمٍ معيّن، وإذا انتهى حبر القلم ( تضحكُ ) أشتري قلماً من نفس النوع ونفس الدفتر!..
أقاطعها: هل تمزحين؟!
لا، لا أنا جادّة، أنتَ تحاورني وأنا أجيبكَ، فهل وجدتني أمزح مثلاً؟
لم ألاحظ هذا ولكن، ردّكِ أذهلني، فأنا أكتب بأيّ قلمٍ قريب منّي.
هذا أنتَ وأمّا أنا فلا.. فإذا كنتُ مثلاً في مكانٍ ما وخطر على بالي فكرة لنص أو مقطعٍ، أدوّن فقط الفكرة، ليس كصياغة شعريّة، على أن أعود فيما بعد إلى قلمي وأوراقي وغرفتي وأكتب النص شعريّاً، لأنّني أكتب نصوصي دائماً بين أربعة جدران، هناكَ مَنْ يكتبُ على أنغام الموسيقا أو في المقهى، وأمّا أنا فلا!.. أكتبُ نهاراً، وتحديداً في غرفتي،.. الوحيد الذي يزور خلوتي هو الضوء الطبيعي، لأنني أتوائم مع ضوء الشمس، هذه طقوسي وهكذا أكتب نصوصي، ونادراً ما أكتب ليلاً، لكن أحياناً تبهرني فكرة ما فأدوّنها قبل أن تتغلغل في صمت الليل، وأعود إليها نهاراً لأكتبها على ضوء طقوسي.
– تكتبين نصوصاً تحمل أحياناً بعداً فلسفيّاً وتساؤلات كبيرة، ما هي الحديقة التي تقطفين منها رؤاكِ عندما تترجمي مفهومكِ للموت مثلاً؟
الحديقة التي أقطف منها رؤاي هي الأفكار التي تراودني وتتلألأ مثل الشهب في ذهني، فألتقطها وأكتبها ضمن سياق شعري فتأخذ أبعاداً فكريّة وفلسفيّة لا أقصدها أثناء الكتابة، بقدر ما أقصد تجسيد حالة ورؤية شعريّة لها مدلولاتها وأبعادها كما يراها القارئ، وغالباً ما تحمل هذه المقاطع إسقاطات عديدة، فمثلاً لدي مقطع قصير وخاطف أقول: “يجمعنا شيء، أهو الموت؟” فهذا الموضوع ومواضيع أخرى وجوديّة كالموت والميلاد وما بينهما من أفراح وأحزان، كلّها تولد عفو الخاطر ولا يوجد مواعيد بيني وبين نصوصي، هكذا تأتي وتعبر عالمي، وأشعر أنني أتوحّد مع عوالم نصوصي، فأكتب بمتعة عميقة، غائصاً في حالات ولحظات صوفية نادرة ومنعشة.
– هناك بعد إنساني في نصوصكِ، كيف تفجَّرت عندكِ هذه الواحة الإنسانيّة وأنتِ شاعرة عراقية غارقة في آلام وجراح العراق؟
الألم والحزن ليس له هويّة معيّنة، أنا إنسانة وأتواصل مع الإنسان المهموم كائناً مَنْ كان، فلا أكتبُ فقط عن آلام العراق، بل أكتب عن أحزان وهموم الإنسان الآخر أيضاً.. فمثلاً فيما كنتُ أنظر إلى أبراج واشنطن تتهاوى، تخيّلتُ نفسي إحدى هؤلاء المشتعلين بالنار، بعضهم خرجَ من النافذة، يختار موته في الهواء، فيرمي نفسه خارجاً.. أَلَمْ عميق انتابني، تواصلتُ معهم بحزنٍ وأنين، فأنا كشاعرة، إنسانة أولاً وأخيراً. أحزاني تنبع من أحزان الحزانى كائناً مَنْ كانوا، بعيداً عن الأجناس والقوميات.. إضافةً إلى حزني كشاعرة عراقية فنحن العراقيين توصّلنا إلى مرحلة احتضان حزننا وأحزان الآخرين أيضاً، احترفنا الحزن!
– ستوكهولم، ماذا قدّمَت لكِ؟
قدَّمت لي الشئ الكثير، لها مكانة خاصّة في قلبي، يكفي أنني كتبتُ أوَّل قصيدة شعريّة في ستوكهولم، منها انطلقتُ، هي قدَّمتني كشاعرة، وقدّمت لي الحرية والهدوء والسلام. إني أحنُّ إليها كثيراً، رغم ثلجها البارد.
– لندن، ماذا تعني لكِ، وبغداد هل هي الحلم القادم؟
( تهزُّ رأسها مبتسمةً،….. )
يبدو أنّها تريد التوجّه مباشرةً إلى بغداد..
– ماذا تعني لكِ بغداد، هل هي فعلاً الحلم القادم؟
عشتُ ببغداد بعضاً من الوقت، لكنها سكنتني طوال الوقت!.. وُلدتُ في بغداد، إنّها مسقط رأسي، لهذا لدي حنين عميق لبغداد والأماكن التي ترعرعتُ فيها. تشدُّني إليها كثيراً. الوطن يبقى دائماً ـ رغم الخراب والدمار ـ ولكنّ الأنظمة دائماً إلى زوال، خاصّة إذا كانت طاغية على رقاب الشعب. نحن الشعب العراقي، عانينا من الاضطهاد والقمع وعشنا محرومين من الحريّة والديمقراطيّة، والنظام الذي كان يحكم العراق، حوَّل بلدنا العراق إلى سجنٍ كبير، إنْ خرجتَ منه تموت وإنْ بقيتَ فيه تموت. نادراً ما تجد شعباً عانى معاناة الشعب العراقي، حيث يخرج من حربٍ ليدخل في حربٍ أخرى، محاصر من الداخل والخارج!.. وأقول للعراق الجديد، أن يختار حاكمه الجديد بحيث أن يكون ذات أفق ديموقراطي وعلماني، يحقِّق طموحات الشعب العراقي من الجنوب إلى الشمال، بعيداً عن التعصُّبات الدينيّة والعرقيّة والمذهبيّة والطائفيّة والقوميّة، لأنَّ العراق لكلّ العراقيين وحان الوقت أن يعيش العراق في أمان وسلام بعيداً عن الخراب والدمار الّذي عانى منه سنيناً طوال!
– وأخيراً، العراق!.. أين تخبّئينه؟!
العراق طفل صغير برئ، لا أحد يسأل ماذا يريد هذا الطفل ـ العراق، الكلّ يريد أن يخطفه ويربّيه كما يريد هو لا كما يريد العراق، أنا لا أخبِّئ العراق في أي مكان، أريده حرّاً.. أنا كلّي عراق!
ستوكهولم 2003