يسعى الفنان التشكيلي عيسى زيدان من خلال أعماله إلى إبداع لوحة تتفاعل مع روح المشاهد وتخاطب الجمال الراقي والفن بالنسبة له تعبير عن تهذيب الإحساس ووسيلة بناء للإنسان والمجتمع الصحيح.
رافق حب الرسم الفنان زيدان منذ صغره ليدفعه شغفه بالفن إلى إكمال دراسته في هذا المجال لأن الموهبة وحدها لا تكفي إذا لم تصقلها الدراسة وفقا لوجهة نظره.
واعتبر زيدان في تصريح لوكالة سانا أن اللوحة هي حصيلة تاريخ فني طويل وعبارة عن تراكم ثقافي بصري ومعرفي منذ أن خط الإنسان البدائي أول خط على جدران الكهوف مبينا أنه يتأثر بأي ثقافة أو منتج إنساني راق ويميل إلى الأعمال الجميلة من انطباعية أو تعبيرية أو تجريدية وكل ما يمس الروح.
وأشار إلى أنه لا يسبق إنجاز الفنان لأعماله مرحلة تخطيط بالمعنى التقني للكلمة إلا أن هناك تصورا عن اللوحة يتغير ويتطور حسب الحالة الانفعالية وعلى عدة جلسات يكتمل العمل بعد اضافة أو حذف لخروج اللوحة بالشكل النهائي.
وتتجسد لغة التواصل بين رؤية الفنان ورؤية المشاهد كما يقول زيدان عندما يحاول كل شخص قراءتها بحسب ثقافته الفنية البصرية فكلما كان المشاهد قادرا على سبر أغوار اللوحة وقراءتها بشكل صحيح كانت اللوحة أغنى فلا وجود للوحة جيدة بدون قارئ جيد لها.
وبين زيدان أن كلا من الفنان واللوحة يتأثران بحالة الحرب لكن ليس بشكل ميكانيكي أو مباشر فاللوحة هي عمل فني بعيد عن المباشرة ويختلف ما ينعكس فيها حسب كل فنان وبالنسبة له فإن الحرب التي تتعرض لها سورية غيرت من طبيعة لوحاته فأصبحت أكثر قتامة وزادت التضادات اللونية وظهرت الدراما فيها بشكل أوضح.
وكان زيدان قد انشأ صفحة على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك بعنوان “آرت إن هاوس” هدفها التعريف بالفن في حمص وتوثيقه حيث تتضمن صورا للكثير من الأعمال الفنية لفنانين غادروا هذا العالم في محاولة لتعريف الأجيال الشابة على القامات الفنية الكبيرة.
وللفنان التشكيلي زيدان عدة معارض فردية في حمص ودمشق وطرطوس ومعارض مشتركة بحمص ودمشق إضافة إلى مشاركته في العديد من المعارض خارج سورية ومنها “مهرجان المحرس..تونس عام 2004” ومهرجان “جوال” في فرنسا عام 2009 ومهرجان “فاس” الثامن للفنون التشكيلية في المغرب عام 2010 ومهرجان “إهدن” في لبنان والثقافة الثاني في مصر.
يذكر أن الفنان زيدان من مواليد طرطوس 1958 وهو عضو اتحاد الفنانين التشكيليين في سورية وفى نادي التصوير الضوئي وفى الاتحاد الدولي للتصوير الفوتوغرافي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكاية صغيرة عن حلم فني سافر من حمص إلى أماكن بعيدة…
يفاجئك وجود سوريّ في معرض “آرت دبي” الذي أقيم منذ أشهر قليلة. كان من الصعب توقع هذا الوجود في أحد أهم المحافل الفنية في العالم العربي، بالتوازي مع الحرب التي تمزق سوريا. لكن ركناً سورياً كان هناك في شهر مارس، زينت جدرانه السوداء بلوحات قديمة لفنان دمشق الشعبي، أبو صبحي التيناوي. بينما سردت ثلاثة جدران أخرى تاريخ الفن التشكيلي في سوريا. يقف المارة، يتفحصون الركن بفضول، ويكتشفون جوانب لم يعرفوها عن بلد اقترن اسمه خلال السنوات الخمس الأخيرة بعكس كل ما يرونه أمامهم. الركن “لمؤسسة أتاسي غير الربحية“، التي تأسست في سويسرا عام 2014. على بعد أقل من 50 متراً في المعرض نفسه، ركن آخر “لغرين آرت“: غاليري معاصر في دبي، تديره صبية شقراء، تخالها أوروبية، إلى أن تحدثك بلهجة حِمصية. يعرض الغاليري أعمالاً حديثة لفنان سوري، وآخر إيراني، وأخرى تركية. يختلف الركنان بالشكل والمضمون. لكن يجمعهما مدينة وماض وشقيقتان.
البدايات: المكتبة
ورثت شقيقتان مخزناً لا تتعدى مساحته الثلاثين متراً، في مدينة حمص وسط سوريا. هناك، في قلب مركز تجاري منقط بمحالّ تتشابه بها البضائع: أحذية، ملابس، ألعاب وأكسسوارات، قررتا بيع بضاعة مختلفة: الكتب. كان ذلك عام 1986. مكتبتهما التي حملت اسم مغنية معبد عشتار “أورنينا”، كانت، ومن دون قصد، نواة لمشروع عاش عمراً أطول من المكتبة. بدأ هذا المشروع صالة عرض للأعمال الفنية (غاليري)، وتحول إلى مساحة ثقافية متفردة في حمص. ثم انتقل إلى دمشق. ومنه انبثق غاليري آخر في دبي ليعمل المكانان على إخراج الفن السوري لأبعد من حدود سوريا، عبر كُتب ومطبوعات ومشاركات وصلت إلى أهم معارض العالم للفن المعاصر. أما الشقيقتان، فهما منى وميلاء الأتاسي. منى الأكبر، قامتها أقصر، في جعبتها أفكار لا تنتهي. ميلاء الأصغر، قامتها أطول، تعرف كيف تخطط وتنفذ.
من مكتبة إلى معرض…
فتحت المكتبة باباً جديداً لمنى وميلاء، يقبع وراءه عالمٌ بعيد بعض الشيء عن دائرتهما الاجتماعية. ففي مدينة صغيرة، مشاريعها الجديدة قليلة، كان الفضول والرغبة في التعرف على المكتبة الجديدة كبيراً لدى المهتمين بالثقافة. “كان يزورنا في مكتبتنا الجديدة مثقفو المدينة وفنانوها، تعرفت عليهم وعلى عوالمهم التي لم أكن أعرف عنها شيئاً”، تقول منى الأتاسي وهي تستحضر خطواتها وخطوات شقيقتها ميلاء في عالم الفن. انكبت على قراءة كل ما وقعت يدها عليه من كتب فنية. تطلب من أصدقائها الجدد، فناني المدينة، أخذها إلى المراسم. تنتظر منشور “الحياة التشكيلية في سوريا”، الذي تطبعه وزارة الثقافة كل ثلاثة أشهر. تسافر إلى دمشق بحثاً عن كتب تاريخ الفن. كل ذلك لتتعرف وتقترب من عالم استهواها هي وشقيقتها. قررت الشقيقتان تحويل الطابق العلوي لأورنينا، أو السقيفة، إلى منطقة لعرض ما توفر لديهن من أعمال فنية: بطاقة تهنئة عليها رسم جميل، لوحة صغيرة أهداها لهم صديق، أعمال فنان تردد على المكتبة ليشتري كتباً. ثم قررتا افتتاح صالة عرض كاملة في الطابق الثاني من البناء نفسه. سمتاها: غاليري الأتاسي. كانت هذه النقطة المفصلية الثانية في مشوارهما.
المدينة
يسترجع ثلاثة من فناني المدينة عالمهم في تلك الحقبة بشغف وحماس، عون دروبي وعبد القادر عزوز وعيسى زيدان.
“نحن لسنا الجيل الأول من الفنانين” يقول عزوز، الفنان السبعيني، الذي عرضت أعماله في الأردن ولبنان والشارقة. “سبقنا أساتذة في الستينات وجاء بعدهم جيل ثانٍ، ما يجعلني أنا وزملائي أبناء الجيل الثالث من فناني حمص التشكيليين”، يتحدث عبر سكايب، وهو يحتسي قهوته في حديقة منزله بحمص. حين يصمت، تسمع أصوات عصافير. على ضفاف المدينة الخارجية، بقرب طريق السفر من حمص إلى دمشق، أنشأ رجل اسمه فدعان الدندشي صالة عرض صغيرة، قبل عشرين عاماً على ولادة مكتبة أورنينا. عرضت لبعض فناني حمص أعمالهم، ثم أغلقت أبوابها. لم ترٓ المدينة أي صالة عرض خاصة منذ ذلك الوقت، حتى الثمانينيات. لكن بقي فيها صالة عمومية. فعلى بعد أمتار من المكتبة، يقف بناء مهم في حياة كل فنان تشكيلي في حمص. الطابق العلوي منه هو مركز صبحي شعيب لتعليم الفنون التشكيلية، الذي تأسس عام 1962. يحمل المركز اسم فنان سوري ولد في دمشق لكنه عاش في حمص، وعلم في مدارسها. مر بهذا المركز معظم فناني المدينة، إما كأساتذة أو كتلاميذ، لا يقلون أهمية عن تلامذة كلية الفنون. أما الطابق الأرضي في حديقته، فكان مركزاً ثقافياً لنقابة الفنون الجميلة. هناك كانت “صالة الشعب” التي عرضت بشكل دائم أعمال فناني المدينة، على تفاوت مستويات أعمالهم. لا توفر الصالة أي تسويق لمعارضها أو دعوات لفنانين من مدن مختلفة، للاطلاع على ما تنتجه حمص من أعمال، لكنها توفر المساحة المجانية والقريبة من شارع يعج بالمارة. ستصبح حديقة المركز على مر الزمن مركزاً للقاء فناني حمص ومثقفيها، لا سيما اليساريين من أهل البلد. ستشهد حفلات موسيقية صغيرة، جلسات لنقاشات ودية، مكان لاحتساء الشاي والقهوة والبيرة، التي أصرت الحديقة على تقديمها رغم امتناع معظم المقاهي في حمص عن ذلك في نهاية التسعينيات. لنعد إلى نهاية ثمانينيات وأول تسعينيات القرن الماضي في سوريا، الفترة التي يتحدث عنها الفنانون، والتي ولد وعاش فيها غاليري الأتاسي في حمص. هي أيضاً السنوات الأشد ضيقاً في حياة أهل البلد. انقطاع دائم لتيار الكهرباء، تضييق أمني، اعتقالات ونقص في الكثير من المواد الأولية. رغم ذلك فإن الانتاج الفني لم يتوقف. لم يكن بقدر إنتاج فناني العاصمة دمشق مثلاً، أو العاصمة اللبنانية بيروت، على الرغم من اندلاع الحرب فيها. لكنه إنتاج مستمر، وملتزم وجدي، بحسب زيدان، الفنان الخمسيني الذي لم يغادر حمص. في صالة صبحي شعيب دروس الرسم المجانية مستمرة، ومتاحة للجميع. عشرات الفنانين ينتجون لوحات: أحمد دراق سباعي، محمد طليمات، رضا حسحس، غسان نعنع، غياث الأخرس، غسان السباعي وغيرهم. لم تكن فكرة تسويق أعمالهم هذه وعرضها بغرض البيع مطروحة بعد في حمص. وكان سعر اللوحات لا يكفي أحياناً لشراء طلاء وأدوات لرسم لوحة جديدة، فيضطر الفنان للعمل في التدريس وفي مجالات أخرى. “أذكر أنني أقمت معرضاً شخصياً في الثمانينات في صالة الشعب، ثم نقلت المعرض إلى دمشق للمركز الثقافي أو المسمى بالسوفياتي آنذاك”، يقول قندقجي. ويضيف: “قمت بتركيب اللوحات وحضور الافتتاح ثم عدت لحمص ليتصل بي المركز في اليوم التالي مستغرباً: أين لائحة الأسعار؟ لربما دمشق كعاصمة كانت سباقة بموضوع تسويق الغاليريات لأعمال الفنانين، أما نحن في حمص كفنانين، كنا نبيع أعمالنا للمهتمين القلائل، كل من مرسمه الخاص”. من هنا نشأت الحاجة لإقامة صالات خاصة.
الغاليري وصالات العرض الخاصة
“كل الأشياء تحدث في لحظة. تلك اللحظة التي نقف ونبحث فيها عن شيء ما. من أنا؟ ماذا أريد؟ ماذا علي أن أفعل؟”، تقول الأتاسي وهي تمسك السيجارة الإلكترونية في محاولة جادة للإقلاع عن التدخين. تضيف: “لم أكن أعرف شيئاً عن الفن. لكن كانت هذه اللحظة”. وتبتسم الأتاسي التي أمضت وشقيقتها حياتهما تعملان في مجال الفن بعد هذه اللحظة. تحدد موعد افتتاح الغاليري الجديد، كان بعد عام من تأسيس المكتبة. أشرف على تصميم مساحته المتوسطة مهندس ديكور. اختيرت الإضاءة المناسبة، صمم شعار (لوغو) للغاليري، طُبعت بطاقات الدعوى والملصقات والمنشورات، دهنت الجدران. وبدأ فنانو المدينة بتجهيز أعمالهم للمشاركة. كان من ضمنهم عون الدروبي، عبد القادر عزوز، بسام جبيلي، عبدالله مراد، وعراب فناني حمص آنذاك، أحمد دراق سباعي، الذي لعب دوراً في تأسيس مركز صبحي شعيب. “بدأت الأعمال تصل إلى الصالة تباعاً من الفنانين المشاركين”، تقول الأتاسي عن يوم الافتتاح، وتذكر وصول الفنان عبدالله مراد حزيناً، قلقاً وهو يحمل لوحتين بتأن وحذر. كانتا لوحات دراق السباعي، الذي أصابته نوبة قلبية بعد إتمام الأعمال، لينقل إلى المستشفى ويتوفى فيها لاحقاً. “كان علينا حمل اللوحات بانتباه لأنها ما زالت رطبة”. لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته ظروف منى وميلاء المادية في خوض التجربة من دون خوف. كان لديهما الكثير من الفضول والحماس والرغبة في خلق شيء جديد ذي قيمة ثقافية، لا شك في ذلك. لكنهن امتلكن المكان والقدرة على تمويل مشروعهما. وهو ما لم يتوفر للفنانين آنذاك. “هاد كُلو بدو مصاري! والفنان يلي مثلنا منتوف (فقير)، دوبو يلُم حق البويا (الطلاء والألوان)”، يقول زيدان ضاحكاً بلهجته الحمصية. كان لا بد من أن يجتمع الشغف مع الإمكانية المادية لخلق هذه المساحة.
يتذكر زيدان الندوات والنشاطات التي نظمها الغاليري. ترتفع نبرة صوته حماساً، وهو يتذكر زيارة فاتح المدرس، عميد الفنانين السوريين آنذاك وأشهرهم، لمدينتهم الصغيرة. “لم نصدق حين اقترحت منى اسم فاتح المدرس، جفل زملائي…لا يمكن أن تتخيلي حجم المسؤولية والسعادة التي شعرت بها، كأن تكون كاتب قصة قصيرة ويأتي أديب كزكريا تامر أو حنا مينا (كاتبان سوريان) ليرعى أمسيتك الصغيرة”.
استمرت أنشطة الغاليري على مدى ست سنوات في حمص بالتوسع، ليعرض أعمال فناني حمص وأعمال فناني مدن سورية أخرى، أتبعتها بندوات ومحاضرات مختلفة. “لم تهتم ببيع الأعمال الفنية فقط بل كانت مشروعاً ثقافياً. وقد شكل هذا كله حراكاً كبيراً في الوسط الفني. نقل اللوحة الفنية من حضور الخاصة المهتمين إلى شريحة أكبر في المجتمع”، يقول قندقجي. يصف عزوز تلك الفترة “بالزهرية”، وقد ازدادت انتعاشاً بعدما افتتح الفنان وليد الشامي قاعة عرض أخرى سماها “غاليري الشامي”. ليصبح في حمص لأول مرة ثلاث صالات عرض. “لا أستطيع ان أجزم هل كانت غاليري الأتاسي سبباً للحراك المكثف، أم كان هناك حاجة لوجودها، ولكنها كحراك ميزت مدينة حمص عن بقية المدن في سوريا”، يقول قندقجي.
خارج المدينة – دمشق ودبي
وصلت الأتاسي إلى مكان شعرت فيه أن الأفق في حمص أصبح ضيقاً، وأن الانتقال إلى العاصمة بات شرطاً للتوسع. “كان لا بد من السعي والاطلاع على ما هناك في الجوار، وتحديداً بيروت القريبة الحافلة، وعمان والقاهرة ولاحقاً أوروبا”، تقول الأتاسي. هذا ما شعر به عدد من الفنانين أيضاً كمراد ونعنع وحسحس، فنقلوا مراسمهم من مدينتهم حمص إلى دمشق. أغلقت الصالتان، الشامي وأتاسي، أبوابهما في حمص. انتقلت ميلاء إلى دبي، لتؤسس أول غاليري فني في المدينة على الإطلاق: غرين آرت غاليري. هناك، بدأت بعرض أعمال فناني سوريا لأول مرة في دول الخليج. “كانت شفافة، ورقيقة”، يقول عزوز واصفاً ميلاء وذاكراً عرضها لأعماله في صالتها. في دمشق، أكملت منى ما بدأته في حمص على نطاق أوسع. أصدرت عدة كتب فنية: كتاب عن فاتح المدرس، وآخر يجمع سلسلة من جلسات الحوار الحميمة بينه وبين الشاعر أدونيس، عن الحياة والحب والموت، وكتاب يعتبر الأول والوحيد الذي يوثق الفن التشكيلي السوري المعاصر.
الدولة الأمنية…
بقي هناك حاجز ضخم أمام حركة الفن والثقافة في سوريا. حاولت الأتاسي، وغيرها من المهتمين بالفن والثقافة رفعه، حاولوا تجاوز السقف في دولة بقيت في جوهرها دولة أمنية. كل معرض، كل تجمع، كل مناسبة فيها بحاجة لموافقة. “لدينا حقيقة ثابتة وهي أن حزب البعث حاول احتكار الثقافة في سوريا. والفن بحاجة لتراكمات. بحاجة لانفتاح وحرية حقيقية”، تقول الأتاسي. تذكر مثلاً تعرضها للمساءلة بعدما نظمت معرضاً للفنان الفلسطيني كمال بلاطة في صالتها. تضمن العرض ندوات حضرها الأديب اللبناني إلياس خوري، الذي كان قد أسس حينها قسم الملحق، في جريدة النهار الذي عرف بمواقفه المعارضة لنظام الحكم في سوريا. وعرضت فيلم عن عودة بلاطة إلى فلسطين، يظهر في أحد مشاهده علم إسرائيل. وقد كان هذا المشهد مدخلاً لرحلة استجواب في فروع أمنية متعددة، تخللها استنكار لدعوتها خوري إلى المدينة.
الألفية…
مع دخول الألفية، بدأت صالات جديدة بالظهور، وصفها الفنانون بالتجارية. كانت تؤمن للفنانين دخلاً ثابتاً يكفيهم ليتفرغوا لرسمهم. وقد نقلت هذه الصالات الفن السوري إلى مزادات عالمية، لكنها في الوقت نفسه حولت الفنانين لموظفين، يتطلب منهم إنتاجاً معيناً بكمية معينة، ما يتنافى برأي عزوز مع جوهر الفن. بقي بعض الفنانين في حمص، عادوا إلى مركز نقابة الفنون الجميلة، يثابرون على الإنتاج. يسافرون إلى دمشق ليعرضوا أعمالهم فيها. يترددون أحياناً على غاليري الأتاسي في حي الروضة بالقرب من وزارة الثقافة، يحضرون ندوات عن تاريخ الفن السوري وعلاقة الشعر بالرسم. ثم يعودون إلى مدينتهم. يعرضون أعمالهم في بعض الكنائس، وفي صالة الشعب العامة، يجلسون في الحديقة ويحتسون القهوة والشاي والبيرة التي لم تنقطع. لكن عالمهم هذا تهدد حين وصل مشروع “حلم حمص” الذي طرحه محافط المدينة، محمد إياد غزال، إلى مركز “صبحي شعيب” عام 2006. الهدف من المشروع هو جعل حمص مدينة “حضارية، متطورة ومزدهرة”. لكن سرعان ما جز أشجار “الآكاسيا والكينا في شارع الغوطة”، كما كتبت الصحافية السورية سعاد جروس آنذاك في مدونتها. وامتد ليصل إلى البناء القديم الذي يضم المركز وحديقته. أراد المخطط أن يهدمه ليقيم مكانه مبنى جديداً من سبعة طوابق. حرّك المساس بهذا المكان المقدس كل ما كان ساكناً لدى الفنانين. أعلنوا، وبحزم، رفضهم للمشروع. حركوا الصحافة المحلية والرأي العام. استطاعوا أن يشكلوا ضغطاً على المحافظ، واجتمعوا به في مركزهم. وعدهم بتأجيل المشروع الذي توقف لاحقاً بسبب الحرب. ما زال البناء حتى هذا اليوم في مكانه بين عمارتين حديثين، قديماً مسوداً كحجار المدينة.
العودة للمدينة
توفيت ميلاء منذ ثمانية أعوام. استلمت ابنتها، الصبية الشقراء التي رأيناها في ذلك الركن من معرض آرت دبي، إدارة الغاليري. تعرض أعمالاً لفنانين من سوريا ومن الشرق الأوسط وشرق أوروبا. أما منى، فاضطرت لترك دمشق بعد 2011، وإغلاق باب الغاليري هناك. لكنها أنشأت مع زوجها مؤسسة “أتاسي غير الربحية للفنون والثقافة”، التي تعمل على رعاية معارض وحلقات بحث ودراسات عن الفن في سوريا، وتأمين منح وإقامات لفناني البلد. كان ذاك الركن في “آرت دبي” أول مشاركة عامة للمشروع الجديد. تريد أن تعود إلى حمص وتحلم بإنشاء متحف للفن السوري المعاصر هناك. “بدي ارجع على حمص، وبدي جن هنيك”، تقول الأتاسي بلهجتها الحمصية. أما دروبي وعزوز وزيدان فلم يغادروا المدينة. يلتصقون بها، يخشون من زوال ما تبقى لديهم من جماليات. يبحثون عن هوامش صغيرة ليتنفسوا من خلالها. “نحاول الحفاظ على ذائقتنا الفنية والبصرية من الضياع”، يقول زيدان. استأجروا الطابق العلوي في مقهى اسمه “خارج النص”، ونظموا تكريماً لزميلهم الأكبر سناً، عزوز. أرادوا الاحتفاء به وعرض أعماله. بالتزام وشغف، يدير زيدان صفحة فيسبوكية أنشأها لتوثيق الفن في حمص. نظم ألبوماً لكل فنان، جمع فيه صور أعماله. يحاول أن يُعرف الناس على الفن في مدينته التي غادرها معظم فنانيها. “لسا البني آدم مننا عم يبحث عن رصيف لأحلامه، عم يحاول أن يعمل في مجال الجمال ليواجه الكثير من القبح،” يقول زيدان. كلاهما، زيدان والأتاسي، يعمل على حفظ ذاكرة فنية من النسيان. كلاهما يعمل، بما لديه من وسائل، على لملمة أعمال المدينة ورسم صورة جميلة عن سوريته. ملاحظة الكاتبة: أرفض في العادة الكتابة عن أشخاص تربطني بهم قرابة، كأصحاب الغاليري في هذا المقال. لكن من الصعب إيجاد أشخاص لا تربطني بهم قرابة أو علاقة ما حينما يكون الحديث عن مدينتي، حمص. حرصت وبذلت كل الجهد أن أكتب بموضوعية ومهنية.