مقهى ريش
على مر السنوات، عرف المصريون عددًا كبيرًا من المقاهي التي كانت بمثابة «منصات سياسية وثقافية» .
مقهى ريش ( تأسس عام 1908م ) بالقاهرة هو أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين في المنطقة العربية.
على مقاعدها صاغ الأدباء والمفكرين تاريخ مصر الثقافي تجمع أعظم أدباء مصر والعالم العربي , وعلى نكهة القهوة تبادلوا الأحاديث حول مستقبل الوطن
الأماكن تبقي تفاصيلها وألوانها ورائحتها باقية عبر السنين..
يقع قرب ميدان طلعت حرب، تأسس عام 1908 م،وسط البنايات المصرية العريقة ، وقد بنيت العمارة التي يقع بها المقهى عام 1908م علي يد عائلة يهودية تسمي “عادا”.
أما المقهي فقد تأسس علي يد رجل الأعمال النمساوي “بيرنارد ستينبرج” وفي 26 أكتوبر عام 1914 م، باعه لرجل الأعمال الفرنسي هنري بير أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطى له اسم “ريش” ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس التي ما زالت قائمة إلى الآن،وتسمى “كافيه ريش”..
وعندما تزور مقهى (ريش) ستكتشف أنك أمام تحفة معمارية، وستبهرك الديكورات واللوحات التي تملأ المكان، وستقف طويلاً أمام اللافتة التي تعلو الباب الرئيسي، والتي تشير إلى أنه تأسس عام 1908م.
وستعرف أن هناك الكثير من الاختلاف بين هذا المقهى وأي مقهى آخر في أشهر ميادين القاهرة الحديثة التي أنشأها إسماعيل باشا على غرار مدينة باريس الفرنسية، وجلب لها المهندس الفرنسي هوسمان ليخططها كما خطط باريس.
وكما هو الحال بالقاهرة توجد في مدن بتونس وبالجزائر و”الدار البيضاء” بالمغرب
مقاهٍ تحمل اسم “ريش”، وتتشابه مع مقهى القاهرة وباريس في كونها تقع في أحد الميادين الكبيرةوبنفس طراز العمارة والديكور والوظيفة أيضا.
وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 قام “ميشيل بوليدس” بشراء المقهى من صاحبه الفرنسي،وكان ميشيل من أشهر التجار اليونانيين بالقاهرة،وظل المقهي ملك لليونانيين حتى عام 1960م ثم انتقلت ملكيته إلي “عبد الملاك خليل” صعيدي مصري وما زال يملكه حتى الآن.
وكان المقهي في ذلك الوقت ممتدا إلي ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) وكان بجانب، المقهى مسرح غنائي غني عليه عمالقة الغناء وقتها وعلى رأسهم صالح عبد الحي وزكي مراد، وبجوار المقهى تم إنشاء صالة مصارعة ومكان للعب الطاولة.
ومنذ ذلك الوقت أصبح لمقهى ريش بُعد ثقافي، وتحول من مجرد مقهى إلى مكان يتجمع فيه أبناء الطبقة الأرستقراطية والفنانون والمثقفون والأجانب.
وفي الأربعينيات من القرن العشرين احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية،وكان على رأسهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانت نتيجة هذا التجمع أن تم الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين بمصر بل وفي العالم العربي.
مقهى ريش من الداخل بمثابة ألبوم يحكي تاريخ القاهرة، فتجد صور للأهرامات الفيضان في مصر.. وصور لميادين القاهرة قديما.
أما المكان نفسه فعندما تدخله تشعر براحة غريبة وإحساس فريد، وتخرج من صخب الشارع لتستريح أذنك على صوت محمد عبد الوهاب يشدو علي “الجرامافون” كان نجيب محفوظ يعقد ندوته الثقافية صباح كل يوم جمعة بمقهى ريش فنجد صور اشهر الفنانين والكتاب اللذين كانوا يجلسون في هذا المكان معلقه علي حوائطه علي رأسهم طه حسين.. يوسف إدريس.. أم كلثوم.. نجيب الريحاني.. مأمون الشناوي.. نجيب سرور.. يحي حقي.. أحمد فؤاد نجم.. أنور وجدي.. حسين رياض.. نجيب محفوظ ومن داخلها غنت أم كلثوم أولي حفلاتها وهي ترتدي الثياب البدوية وغيرهم، فلا يكاد يوجد اسم واحد لمع في الحياة السياسية والثقافية والفنية لم يجلس علي ريش.
ويروى أحد العاملين بمقهى ريش إن شخصيات مسلسل “ليالي الحلمية” من زبائن حقيقة لريش فشخصية “سليم البدري” الذي جسدها “يحيي الفخراني” مقتبس من شخصية حقيقية هي “محمد عفيفي باشا”، كما أن رواية “الكرنك” التي كتبها نجيب محفوظ كانت عن ما تعرض له المثقفون وطلبة الجامعة من اعتقالات في قهوة ريش.
ولم تقتصر حكاوي ريش على الفن استطاع المقهى على مدار تاريخه ومعاصرته للعديد من الأحداث أن يلعب دورًا هامًا وبأشكال عدة، وأن يكون القاعدة التي تنطلق منها الحركات الوطنية.
ففي عام 1919م كان المقهى مكانًا تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة،وكان مكانا سريا يجتمع فيه دعاة الثورة،هذا ما تؤكده “المطبعة” التي تم العثور عليها داخل بادروم المقهى.
ففي عام 1992 ضرب زلزال القاهرة أصاب المقهي بشروخ، وعندما بدأت عملية الترميم اكتشف دهليز صغير يؤدي إلي مخزن قديم وجدت به براميل كحول فارغة وماكينة طباعة يدوية تدل علي إن المنشورات كانت تطبع في المقهى”.
كما خرجت من ريش مظاهرة بقيادة “يوسف إدريس” و”إبراهيم منصور” احتجاجا علي معاهدة كامب ديفيد .
كما كانت جزءً من حياة شاب عراقي جاء يدرس بالقاهرة وهو الرئيس “صدام حسين”، وكان يرأس المكان الذي يتجمع فيه اللاجئون السياسيون مثل الشاعر العراقي “عبد الوهاب البياتي” و”قحطان الشعبي”.
فبعد كل هذا الإبداع الذي خرج منها، وبعد كل الشخصيات البارزة التي كانت تجلس فيه يتبادلون الحوار والفكر، نجده اليوم خالي من الزوار فلا يجلس عليه أحد من الكبار إلا قلة قليلة من المفكرين والصحفيين..
وحسب ما جاء في جريدة «المقطم» في عددها الصادر في مايو ١٩٢٣، فإنه حدث يومًا أن اصطحب الشيخ أبوالعلا محمد تلميذته النابغة «أم كلثوم»؛ و كانت لاتزال طفلة؛ ولما سمع صاحب المقهى و رواده صوتها تعاقد معها المقهى على تقديم حفلات في يوم الخميس من كل أسبوع.
تم وضع إعلان لشد انتباه المارة كتب عليه “هلموا لحجز محلاتكم من الآن كرسي مخصوص بـ١٥ قرشًا، والدخول العمومي بـ١٠ قروش”.
وقد ظلت «أم كلثوم» تحن للمقهى حتى بعد شهرتها، وشوهدت يوماً ما في الأربعينيات تجلس هناك على طاولة تضمها مع أحمد رامي ، سليمان نجيب و كامل الشناوي بينما كان القصبجي يعزف بأنامله أعذب الألحان.
وفي هذا المقهى نسجت أجمل قصص الحب، والتي كللت بالزواج، فهناك تعرف محمد عبد القدوس على زوجته روز اليوسف عندما التقاها أثناء مشاركتهما في إحدى مسرحيات فرقة عزيز عيد، والتي تم عرضها في بهو المقهى.
وشهد المقهى أيضًا قصة حب جمعت بين أمل دنقل وزوجته فيما بعد عبلة الرويني، وأيضًا أحمد فؤاد نجم وزوجته صافيناز كاظم.
وعن مقهى ريش، كتب شاعر العامّية المصري المعروف أحمد فؤاد نجم قصيدةً مشهورةً وساخرةً في الوقت نفسه بعنوان “التّحالف”يقول فيها:
“يعيش المثقّف على مقهى ريش .. يعيش يعيش يعيش..
محفلط مظفلط كتير الكلام .. عديم الممارسة عدو الزّحام.
يعيش المثقّف .. يعيش يعيش يعيش”.