خطوط وألوان متناثرة.. لماذا يستمتع البعض باللوحات التجريدية؟
لماذا يُعجب بعض الأشخاص بلطخات الطلاء التي لا تصوّر أي شيء؟ يبدو هذا الأمر غير منطقي في المقام الأول، بخلاف أنواع أخرى من الفنون حيث سيبدو الاستمتاع بها مفهوما، على سبيل المثال إذا كنت تحب الأشخاص فمن الممكن أن تروق لك الصور الشخصية، وفي حال كنت تحب الأماكن المفتوحة فقد تميل إلى لوحات المناظر الطبيعية، ولكن هل تحمل الخطوط والألوان المتناثرة أي معنى؟
في تقريره الذي نشرته مجلة “سايكولوجي توداي” الأميركية، قال الكاتب أنجان شاترجي إن المتاحف تعمل على دعم هذا النوع من اللوحات، حتى أن الخبراء يمجّدون فضائلها، ويتهافت الأغنياء على شرائها، فكيف يمكننا فهم هذا الإعجاب باللوحات التجريدية؟
أدمغتنا هي السبب
في الواقع، يتلخّص أحد الاحتمالات في أن أدمغتنا تنجذب إلى أنماط مرئية معينة، وربما تحاكي هذه الأنماط المكان والإضاءة واتساق الألوان في العالم الطبيعي، وبالتالي تطورنا لنكون حساسين لهذه النظم، ويُلخص الفن التجريدي هذه الأنماط دون توضيح أي شيء ملموس في العالم.
حصد هذا التفسير بعض الشهرة عندما تبيّن أن لوحات جاكسون بولوك التجريدية تندرج ضمن نطاق ضيق من الأبعاد الكسيرية، وبعبارة أخرى يعدّ البعد الكسيري مقياسا للتشابه الذاتي، مما يعني أن الأنماط المتشابهة تظهر في مستويات مختلفة من الصورة.
علاوة على ذلك، عُثر على أنماط كسيرية في الطبيعة، كما هو الحال في السواحل والسحب والسراخس والأصداف، وتماشيا مع هذا التفكير حُلّلت الفرضية القائلة إن أدمغتنا تفضل أنماطا مرئية محددة في اللوحات التجريدية.
وبهذا الصدد دُرست المقاييس الإحصائية للتشابه الذاتي والتعقيد في 79 لوحة تجريدية بهدف اكتشاف ما إذا كانت هذه الخصائص الرسمية مرتبطة بتفضيلات الناس، وأوضح الكاتب أن الطابع المعقّد يشير إلى مقدار المعلومات البصرية التي تحتويها منطقة الصورة المرئية.
في التجربة الأولى للدراسة، أُدرجت صور تمثيلية تتضمن واجهات المنازل والمناظر الطبيعية والسيارات، وخلافا للفرضية لم يرتبط التعقيد والتشابه الذاتي بتفضيلات الناس للفن التجريدي، وعلى النقيض من ذلك فضّل الناس بنسبة أقل المناظر الطبيعية المشابهة للذات، في حين فضلوا بنسبة أكبر واجهات المنازل المتشابهة ذاتيا.
بالإضافة إلى ذلك، طُلب من المشاركين كتابة نعوت لوصف اللوحات، واستُخدِمت هذه الأوصاف لاستخلاص شبكة نظرية تمثّل “المساحة” التي تحتلها هذه اللوحات الفنية التجريدية التي يبلغ عددها 79 لوحة بناءً على تشابه كيفية وصفها.
وفي حال وصفت صورتان باستخدام صفات متشابهة من قبل العديد من الناس، تكون هذه اللوحات أقرب إلى بعضها البعض في مساحة الشبكة بنسبة أكبر من صورتين موصوفتين بشكل مختلف، وتوفر لنا هذه الطريقة تعبيرا كميًّا (درجة من التشابه بين اللوحات) عن التقارير النوعية (أوصاف الناس).
نتائج غير متوقعة
كان الناس يميلون إلى تفضيل اللوحات التجريدية المتميزة في كيفية وصفها شفاهيا، إلا أنهم لا يتأثرون بالخصائص البصرية الرسمية المتميّزة للوحات، وكشفت الدراسة عن نتائج أخرى دقيقة، على سبيل المثال تحتوي لوحات بولوك وروثكو وموندريان، وهم عمالقة الفن التجريدي، على خصائص صور رسمية مختلفة تماما.
ولكن ما الذي تعنيه هذه النتائج؟ ولماذا قد تعد مفاجئة؟ اُقترح إنشاء التجارب الجمالية من مجموعة ثلاثية من الأنظمة واسعة النطاق، والتي تتمثّل في المحركات الحسيّة والتكافؤ العاطفي وأنظمة الدلالات اللفظية.
وبصريح العبارة، لا يحتوي الفن التجريدي على محتوى تمثيلي، كما لا تشير الصور إلى كيانات أو أحداث في العالم، وبالتالي يبدو أنها لا تتصل إلا قليلاً بنظم دلالية المعنى، وكتكوينات لا معنى لها للخط واللون والشكل ينبغي أن تنبّه الخصائص الحسية الرسمية لهذه الصور نظام التكافؤ العاطفي المكلف بتقييم اللوحة.
وتعد النتائج التي توصلت إليها الدراسة مدهشة لأن العبارات التي استخدمها الأشخاص لوصف اللوحات تنبأت بشكل أفضل بتلك التي أحبّها الناس مقارنة بالخصائص الحسية لهذه اللوحات، كما يرتبط ما يختار الناس إبرازه في لوحة ما ارتباطا وثيقا برضاهم عن العمل الفني الذي يبدو بلا معنى مقارنة بالخصائص البصرية الرسمية للوحة.
من جهة أخرى، لم تكن النتائج مفاجئة للغاية على أية حال، ومن ضمن أقوى الملاحظات في علم الجمال التجريبي أن الأشخاص الجاهلين للمعنى الحقيقي للفن لا يحبون اللوحات التجريدية.
وإذا كان تفضيل الفن التجريدي مدفوعا بالآلات البصرية منخفضة المستوى، فمن المتوقّع أن يُعجب بالفن التجريدي كل من يملك هذه الآلية، ومن المحتمل أن يوجه تاريخنا الشخصي والخلفية التعليمية ومدى الاطلاع على الفنون انتباهنا إلى عناصر من اللوحات التي نختار تصنيفها.
وفي الواقع، تكشف حقيقة أن التمييز القائم على الوصف اللفظي يرتبط بمتعة الفن التجريدي، عن دور دلالات المعنى في التأثير على الأفضليات حتى على شاشات العرض التي ليس لها معنى جوهري.