ارتبط اسم الباحث والمؤرخ الدكتور محمود حريتاني، المدير السابق لآثار ومتاحف سوريا الشمالية باسم مدينته حلب، وتحديدا حلب القديمة، عاش فيها عشرات السنين معانقا حجارتها وآثارها وتقاليد سكانها وحواريها وشوارعها وأزقتها العتيقة.
له مع كل حجر من حجارتها حكاية كفاح حفاظا على أوابدها التاريخية وحضارتها الإنسانية المتواصلة وناضل من موقع المسؤولية العلمية ضد المشاريع الحديثة التي كان من شأنها طمس آثار المدينة على غرار مشروع غوتون (1952) الذي نادى بمد طريق تمتد من الصحراء إلى وسط المدينة التاريخية ومشروع باب الفرج »منتصف السبعينات«، من بين مشاريع أخرى خسر في سبيل الوقوف في وجهها وظيفته.
لكنها خسارة لا تذكر أمام ما يراود ابن حلب البار من مشاعر الفخر بعد أن تمكن بالفعل من الحيلولة دون تعبيد شارعين لو شيدا لدمرا ربع حلب القديمة وعشرات الأماكن الأثرية فيها، ومن بينها ضاحية من القرن السادس عشر ببيوتها وشوارعها وبمخططها الذي يعود إلى العصور الوسطى، ما يجعلها معلما سياحيا عالميا، والمقصود هنا فتح شارع يمتد من شارع القوتلي إلى السليمانية.
أقدم مدينة
يتحدث الدكتور حريتاني عن حلب القديمة مثلما يتحدث عن نفسه، ويقول إن حلب أقدم مدينة في العالم لا تزال الحياة تدب فيها على مر العصور والأجيال وتعدد الثقافات، بينما لاتزال قلعة حلب تنتصب شامخة على مر العصور وقد صنفت بحسب موسوعة »غينيس« للأرقام القياسية من أولى قِلاع الدنيا حصانة.
ويؤكد الحريتاني أن أهمية قلعة حلب أخذت بعدا خاصا بعد اكتشاف معبد إله العاصفة فيها من قبل بعثة سورية ألمانية ترأسها غول ماير، حيث يعد هذا الاكتشاف الأهم في نهاية القرن العشرين. وقد ورد ذكر الإله في نصوص ماري وإيبلا ومعظم نصوص مواقع الشرق القديم، حيث اعتادت الممالك القديمة إقامة طقوس تقديم الهدايا والهبات لإله العاصفة في معبده الرئيسي في مركز مملكة حلب العمورية. ولقد كشفت البعثة السورية الألمانية في عام 1996 قسماً كبيراً من مساحة المعبد وتمكنت من التعرف على مراحل وتاريخ بنائه ليتبين أن جذوره تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد وهو من اكبر المعابد المكتشفة في سوريا والشرق عامة من تلك الفترة.
سور المدينة
ويعد السور الذي يحيط بمدينة حلب القديمة فريداً من نوعه في العالمين العربي والإسلامي وقد كان يُضرب به المثل بحصانته وقوته ومنعته، وقد كان له دور بارز عبر العصور في رد هجمات المعتدين عن حلب وسكانها وتوفير الأمن والاستقرار لهم.
حول سور حلب يوضح الباحث المخضرم أنه يحيط بالمدينة القديمة على شكل مربع طول ضلعه 1500م وقد جدده سيف الدولة ونور الدين زنكي، كما شهد توسعة في عهد الملك الظاهر غازي من جهتي الشرق والغرب، كما جرى هدم جزء منه نتيجة توسع المدينة. ويقول ربما هناك آثار أقدم ولكنها تنتظر التنقيب، بينما يتم دراسة قسم منها يعود إلى ما قبل التاريخ وهي كثيرة جدا. كما عرفت حلب دور عبادة تعود إلى مختلف الأديان السماوية بما في ذلك معبد يهودي وكنيسة حلب الكبرى التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، لكنها رممت وتبدلت ملامحها عدة مرات من بينها قيام نور الدين الزنكي بتحويلها إلى جامع.
أضرار
بالطبع يأسف الدكتور حريتاني على الأضرار التي لحقت بآثار حلب القديمة، ويقول: أنا أرفض كل ذلك لأبقي المدينة كما أعرفها، وربما ذلك ما دفعه إلى تغيير روتينه اليومي، فأصبحت رياضته الصباحية إنجاز ترجمات يومية تتعلق بحلب القديمة من الفرنسية إلى العربية وتقديم استشارات دراسية للطلاب الذين يقدم لهم بكل رحابة صدر مكتبته الضخمة والمعلومات التي يترجمها، والتي يؤكد أنها ستخدم أجيالاً بسبب الكنز الكبير الذي تركه الباحثون الفرنسيون عن حلب.
الرسالة
لا يشعر المؤرخ بالتقصير إزاء مدينته الخالدة ويقول: قمت بواجبي وخاصة في تكوني العلمي والآثاري، وحلب تبقى بالنسبة لي كل شيء والناس يعرفونها في كتبي وتدريسي ومحاضراتي من طوكيو حتى دبلن ومن استوكهولم إلى البتراء، وصولاً إلى شمال أفريقيا وحتى أرمينيا.
أما رسالته في هذه اللحظة التاريخية، فيقول إنها بدأت منذ مئات السنين حين كانت حلب مركزا متوسطا في الشرق الأوسط تنصب عليها كل خيرات الشرق من الصين إلى حلب ومنذ القرن الحادي عشر بينما تنقل بضائعها إلى أوروبا، فحلب مدينة مركزية واستراتيجية مفتوحة على العالم وقد جاءتها شعوب كثيرة جدا وتعتبر فسيفساء عرقيا مذهبيا دينيا، وهذا يشهد به العالم كله، هناك عاش الناس بوئام على اختلاف مشاربهم، بعد أن بقيت المدينة حتى عام 1915 مركزا للهجرة، ففيها الكلدانيون والأرمن والآشوريون وعرقيات أخرى، فلقد ظلت حلب مدينة تجارية حتى عندما فتحت قلعة السويس وتحولت طريق التجارة، بقيت حلب سيدة الطرق التجارية ببضائعها، فضلاً عن 15 ألف نول يدوي كانت تعمل في حلب وتصدر منتجاتها إلى أوروبا، لذلك بقيت حلب قوية بالرغم من المآسي التي مرت بها، حيث كانت حلب تعود وتعيش في كل مرة لأن فيها الموقع المتوسط والمنتجات، يضاف إلى ذلك أن الإنسان الحلبي منفتح وسهل التعامل مع الآخرين جراء تاريخه الطويل وتعايشه المديد مع الآخرين.
إصدارات
حول جديده المعرفي، أوضح الدكتور حريتاني أن لديه كتاباً لم ينشر بعد بعنوان »حلب وأوروبا عبر التاريخ« يتحدث عن المدينة من إنسان نياندرتان إلى الهجرات إلى الناحية الاقتصادية، وصولاً إلى الرحلات التجارية الأوروبية، التي جلبت معها الرهبان والإرساليات التبشيرية والرحالة، الذين جاؤوا إلى حلب وفتحوا عيون الاستعمار الأوروبي على المدينة، وكيف بدأت بذور الاستعمار فيها والتي تكللت بالاستعمار الفرنسي.
سيرة
الدكتور محمود حريتاني من مواليد مدينة حلب السورية عام 1924 تعلم في مدارسها في المرحلة ما قبل الجامعية. ثم حاز شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعتها عام 1969.
ونال شهادة الدبلوم في الدراسات المعمقة الإسلامية من جامعة ليون الثانية في فرنسا عام 1982، ومن ثم شهادة الدكتوراه أيضاً من الجامعة ذاتها في الدراسات الإسلامية عام 1984. لديه العديد من الكتب، منها: »أحياء حلب القديمة، أسواق المدينة«، و»حلب في النصف الأوّل من القرن العشرين«.
رحيل آخر عمالقة البحث الأثري والتراثي في حلب
الدكتور محمود حريتاني ..
2020-1924
غادرنا يوم امس استاذ الأجيال في حلب الباحث الأستاذ الدكتور محمود حريتاني الذي عرفته طوال عقود كأحد أبرز باحثي الآثار السورية وأهم الآباء المؤسسين للعمل الأثري في سورية طوال أكثر من ستين عاما ..
للراحل الكبير مؤلفات عديدة كان من أشهرها مؤلفه المرجعي ( أحياء حلب القديمة ) وغيرها من مئات الأبحاث والمقالات العلمية الرصينة، قام بنشرها خلال رحلة عمره الطويلة، وتم جمعها في كتب تبحث في تاريخ المدينة الأثرية وعناصرها السكانية والمعمارية خلال السنوات الاخيرة ..
ترأس مديرية آثار المنطقة الشمالية منذ نهاية ستينات القرن الماضي .. قبل ان يؤسس متحف التقاليد الشعبية بحلب (دار أجقباش) الذي اصبح اثرا بعد عين خلال الدمار الرهيب الذي لحق بالمدينة الاثرية بعد العام 2012..
للدكتور حريتاني مواقف وطنية وتاريخية مشرفة كما شهدتها عليه وشهدها أبناء المدينة المكلومة، عندما حاول وقف هجمات الإعتداء على تراث المدينة القديمة، بتحالف الإقطاع السياسي الجديد مع الإثراء المافيوي لحكم الرعاع المحدثين بتواطؤ النخب الدينية التي أثرت خلال حقبة طويلة من التهديم المتعمد لتراث المدينة التاريخي بين الأعوام 1969 / 1989..
برحيل الدكتور محمود حريتاني فقدت حلب وسورية أحد أهم مؤرخي غزاة الشعارات الجدد الذين فاقوا المغل والبرابرة والتتر في تدمير واحدة من أعظم حواضر العالم قاطبة عندما جَهِدَ في جعلها منذ العام 1986 احدى حواضر العالم المهددة بالتدمير المتعمد لدى المنظمة الدولية لحماية التراث المعماري (اليونسكو) ..
ولازلت أحتفظ بالوثائق الاصلية التي جرى إخفاؤها، حول هذه القضايا ونشرت أجزاء منها حول هذا الموضوع في الصحافة اللبنانية منذ العام 1988.