يقدم الكتابان الجديدان للناقد السينمائي المصري أمير العمري رحلة في جزء هام من تاريخ السينما، متناولا سينما المؤلف والتجارب العالمية المؤثرة فيها، ومتطرقا إلى تجارب سينمائيين عرب قدموا إضافة كبيرة وفتحوا آفاقا فنية وجمالية جديدة أمام الفن السابع. ويمكننا اعتبار الكتابين النقديين كشفا نقديا رصينا لجانب مهم للغاية من السينما في بعديها العالمي والعربي.
في كتابيه الجديدين نجد الكاتب والناقد السينمائي أمير العمري وكأنه يقول للسينمائيين صناعا وعشاقا وأجيالا لم تأت بعد، تجددوا، تطوروا، اختلفوا، لا تكونوا نسخا من السابقين، تأملوا جيدا وتدبروا، ما تقدم مقلد، ولا تفوق تابع، شمروا عن سواعدكم وغيروا، لا جمال يولد دون تغيير للمشهد، ولا زهور تنتعش دون تقليب للتربة، ولا عقول تنبغ بلا مخالفة للنمطية.
من دار بتانة للنشر بالقاهرة، طرح العمري كتابيه الجديدين عن السينما، كمحاولة منه لرسم الطريق لأجيال جديدة من المخرجين والسينمائيين العرب بحثا عن معرفة حقيقية ومتابعة صادقة لواقع الفن السابع، ما يمكن أن يدفعهم نحو التطور والنبوغ.
حمل الكتاب الأول عنوان “عالم سينما المؤلف”، بينما يحمل الثاني عنوان “السينما العربية خارج الصندوق”، وكل منهما يقدم رسالة واحدة، مفادها أن الجمال يعني الاختلاف، والخلود يستلزم كسر التقليدية.
يبدو الكاتب متأثرا بدراسته المبكرة للطب، إذ تستهويه الكتابة التشريحية فنجده يشمل بتحليلاته ونقده كافة أعمال المخرجين الذين كتب عنهم في كتابيه، فتشعر وكأنه يفتح بمشرط دقيق جسد وعقل كل منهم دالفا إلى ذاته، مستقرئا هواجسه ومشاعره. وعندما يفعل ذلك يفعله بلغة آسرة وعرض جذاب وسلس، وعندما يطلق حكما أو يرى رأيا، يتكئ على تحليل منطقي مقنع حتى لأولئك الذين لم يدرسوا السينما ولم يعملوا بها.
كان المخرج الأميركي فرانك راسل كابرا (1897ـ1991) يعتبر السينما لغة شاملة يتقنها العالم كله، مثلها مثل الموسيقى، ما يعني أن كل توجه سينمائي جديد ينتقل من بلد إلى بلد ومن شعب إلى آخر بسرعة أكبر من الأفكار والنظريات السياسية والاقتصادية. من هنا، فإننا لا نعجب أن نقرأ في الكتاب الأول نماذج لحركة سينما جديدة ولدت في السينما العالمية منتصف القرن العشرين، هي سينما المؤلف، ثم نتابع من خلال أكثر من أربعمئة صفحة من القطع المتوسط نماذج متنوعة لتلك الحركة على مستوى العالم.
سينما المؤلف
كانت البداية كما رصدها الكتاب لسينما المؤلف عندما كتب المخرج ألكسندر أستروك في مجلة “الشاشة الفرنسية” في مارس 1948 مقالا بعنوان “مولد سينما طليعية جديدة ـ الكاميرا قلم”، ليطرح فكرة تحول السينما إلى لغة، وتحول الكاميرا إلى قلم، ما يجعل المخرج هو الفنان الأول للعمل السينمائي، وليس مجرد منفذ لأفكار الكاتب وهواجسه. وهذا ما التقطه الناقد أندريه بازان بعد ذلك وعبر عنه قائلا “إن الفيلم يجب أن ينسب إلى مخرجه ما دام المخرج يتحكم في مكونات الصورة والصوت، ولا بد للمخرج أن يكون مؤلفا مثله مثل الأديب، سواء اشترك في كتابة السيناريو أم لم يشترك”.
يعني ذلك أن العمل السينمائي الحقيقي هو الذي يطرح أفكارا ورؤى وهواجس للمخرج وليس لمؤلف القصة، وهو الطرح الذي رحب به نقاد وسينمائيون كثر في فرنسا، منهم مثلا فرانسوا تريفو الذي كان يرفض الأفلام التقليدية بغض النظر عن مستواها الفني لأن المخرج فيها ينفذ سيناريوهات كتبها غيره دون أن يضمنها رؤيته.
وبدأت الفكرة تلقى قبولا خارج فرنسا وتنتقل رويدا رويدا إلى السينما الأميركية لتلمع أسماء مخرجين تلائم فكرة المخرج المؤلف مثل هيتشكوك، أورسون ويلز، نيكولاس راي. وفي 1968 أصدر أندريه ساريس كتابا عن السينما الأميركية اختار فيه 14 مخرجا اعتبرهم الأهم وهم الذين يعبرون عن الاتجاه الجديد كان من بينهم شارلي شابلن، جون فورد، فريتز لانج، وغيرهم. وفي ما بعد انطلقت الموجة الجديدة إلى بريطانيا، ألمانيا، السويد، إيطاليا، وإسبانيا، ثم إلى كافة أنحاء العالم.
يشير العمري إلى أن الفكرة واجهت بعض التحديات، خاصة عندما اعترض الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، على عدم الفصل بين النص والمؤلف. لقد كان الرجل يرى أن النص منفصل عن المؤلف لتظهر بذلك فكرة موت المؤلف كإحدى أفكار ما بعد الحداثة، ما يعني إنكار دور المؤلف وإلغاء حضوره في طيات العمل الفني.
وانتقلت سينما المؤلف إلى العالم العربي خلال الستينات، وتأثر بها جيل العمالقة أمثال هنري بركات، يوسف شاهين، وتوفيق صالح، لكنها حضرت بقوة في الجيل الثالث للمخرجين مثل سعيد مرزوق، علي بدرخان، وأشرف فهمي، ثم الجيل التالي عند عاطف الطيب، رأفت الميهي، يسري نصرالله، وداود عبدالسيد. كما تأثرت مدرسة الإخراج في المغرب العربي تأثرا بالغا بتلك المدرسة.
نبلاء متمردون
اختار أمير العمري 35 نموذجا لمخرجين عالميين عبروا بقوة عن سينما المؤلف، ورغم أن ميلاد التوجه كان في فرنسا، إلا أن استعراض النماذج كشف أن تأثير الحركة خارج فرنسا كان أكبر. فمن بين 35 مخرجا عالميا يتناولهم الكتاب نجد ثمانية من أميركا، وستة من إيطاليا، وخمسة من بريطانيا، وثلاثة من كل من ألمانيا، وفرنسا، واثنين من كل من السويد والتشيك، ومخرجا واحدا من كل من الصين، يوغسلافيا، الدنمارك، المكسيك، فنلندا، وأرمينيا.
نطالع في تجارب هؤلاء المخرجين، كيف هم متمردون على الواقع، مشتبكون مع التقليدية، فذلك المخرج السويدي إيخمار برجمان المولود سنة 1918، يحاول الاستغراق في البحث في ذاته وكأنها معادل للذات الإنسانية كلها، وكأنه يطبق مقولة جان بول سارتر الشهيرة “عندما أختار لا أختار لذاتي فقط، بل للآخرين جميعا”. إننا نجده في فيلم “سجن” (1949)، يتناول قصة انتحار عاهرة ومن خلالها يطرح أفكاره الذاتية عن الله، الشيطان، الحياة، والموت، ثم نجده في فيلم “الختم السابع” يناقش قضية الموت بعمق شديد من خلال فارس يلعب الشطرنج مع الموت. وهذا المخرج الدنماركي لارس فون تريير يعترض على ما تقوم به إسرائيل من انتهاكات، ولا يجد حرجا في تشبيهها بهتلر، ما يؤكد تكوينه الإنساني الفذ الرافض للظلم العصري وهو ذات ما يطرحه فيلمه “المنزل الذي بناه جاك” (2018).
أما المخرج الإيطالي فرانشيسكو روزي الحائز على جائزة ماتييه الكبرى، فيقف متحديا المافيا الحاكمة للسياسة وفاضحا فساد النظام الرأسمالي في فيلم “جثث متألقة” في الوقت الذي نجد آراءه الشخصية منحازة إلى قضايا الإنسان وآلامه، فيقف إلى جوار الشعب الجزائري في ثورته للاستقلال. كذلك عرض الكتاب تجربة الإيطالي برناردو برتولتشي وكيف جاءت ثائرة ومتمردة على القوالب، لنجده في فيلم “التانجو الأخير” معبرا عن قلق الإنسان الأوروبي المعاصر من طغيان النزعة العدمية.
في الوقت ذاته نجد المخرجة الألمانية مرجريتا فون تروتا تعبر في معظم أعمالها عن رومانسية المرأة ورفض الهيمنة الذكورية. ومثل هؤلاء تتكرر مواقفهم الذاتية المتمردة عند مخرجين آخرين يقدمهم الكاتب مثل الفرنسي جاك أوديار، الأميركي تيرنس ماليك، السويدي روي أندرسون، والتشيكي ميلوش فورمان، وغيرهم.
عرب غير تقليديين
أما الكتاب الثاني “السينما العربية خارج الصندوق” فينقسم إلى قسمين، الأول يتناول أعمال ثلاثة عشر مخرجا عربيا يعتبرهم الكاتب خارج الصندوق، بثيماتهم غير التقليدية، وتطورهم الفني، وكسرهم للواقع، ومحاولاتهم المستمرة للتجريب والتجديد. ويقدم القسم الثاني 19 تجربة سينمائية جديدة من معظم البلدان العربية يرى فيها تبشيرا بجيل جديد من المبدعين الأفذاذ. وفي القسمين يطرح المؤلف رأيا جريئا إذ يقول صراحة إن غلبة الهاجس السياسي في النقد ترك تأثيرا سلبيا على كل من السينما والنقد معا، فلم يعد مقبولا أو مهضوما أن نتوقف في انبهار أمام عمل ما لكونه يتفق فقط مع قناعاتنا الخاصة الأيدولوجية أو السياسية.
ويرى العمري من حق السينمائي العثور على ما يتفق مع مفهومه الخاص سياسيا كان أم اجتماعيا، لكن من حق النقد بل ومن واجبه تحليل العمل طبقا لقدرته على الإقناع وما إذا كان متسقا مع طرحه الخاص من ناحية الأسلوب. ونلمح ذلك الرأي المطروح مطبقا في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان “خالد يوسف من الكاباريه السياسي إلى البرلمان”، حيث أكد المؤلف أن يوسف رغم اختياره لنفسه مبكرا وصفة سينمائية تجمع بين التجاري الميلودرامي، والواقعي الاجتماعي، والنقدي السياسي مع كثير من المناظر المثيرة، إلا أن أسوأ ما في أفلامه الخطاب السياسي الساذج الذي يصر على طرحه، ما يعني أن الموقف السياسي النقدي لديه أهم من الرؤية الفنية التي لا تدعو إلى الفعل.
من هنا مضى خالد يوسف في طريق الداعية السينمائي والزعيم السياسي تدفعه سيكولوجية الزعيم كونه في الأصل ابن عمدة، ثم رئيسا لاتحاد طلبة الجامعة في ما بعد.
وربما لهذه القراءة فإن أمير العمري يرى أن أفضل أفلام خالد يوسف ليس “حين ميسرة” أو “هي فوضى” الذي اشترك فيه مع أستاذه يوسف شاهين، وإنما فيلم “الريس عمر حرب” الذي تخلص من الإحالات السياسية بفضل سيناريو احترافي لهاني فوزي.
إننا لا نجد ذلك الخطاب السياسي الزاعق في أفلام المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي رغم موضوعاتها السياسية، فنجده يقدم في فيلم “الذاكرة الخصبة” فكرة الصمود الفلسطيني والتمسك بالأرض من خلال سيدتين فلسطينيتين واحدة من نابلس والأخرى من الجليل وكلتاهما تدافعان عن الهوية والأرض. وهنا فإن المخرج، كما يقول العمري، لا ينتقد ولا يدين، لكنه يدعم فكرة الوعي بدلا من النضال المسلح. كذلك نجده في فيلم “نشيد الحجر” يقدم قصة رجل وامرأة تربطهما قصة حب قبل عشرين عاما، لكن الرجل يقضي سنوات في سجن الاحتلال، وتغادر المرأة إلى بريطانيا، وعندما تعود لإنجاز دراسة موثقة عن الانتفاضة تلتقي بالرجل في القدس ليسترجعا ذكرياتهما، ويكتشفا قسوة الاحتلال لتولد فكرة استعادة الحب كمعادل للتماسك ومقاومة النسيان. ويعد فيلم “زنديق” أكثر أعمال المخرج الفلسطيني تعبيرا عن سيرته وهو فيلم مشحون بالعذاب الوجودي والعالم المسدود الذي يدفع البطل دوما إلى التمرد والرفض والثورة.
تجارب شبابية
يستعرض الكتاب تجارب مخرجين كبار مثل رشيد بوشارب ومرزاق علواش من الجزائر، وهاني أبوأسعد وإيليا سليمان من فلسطين، ومروان حامد ومجدي أحمد علي وداود عبدالسيد من مصر، لكنه يقف بحماس عند تجارب شبابية حديثة، منها مثلا فيلم “وقائع قريتي” للمخرج الجزائري كريم طرايديه وفيه يطرح الرجل سيرته وطفولته خلال زمن الاحتلال الفرنسي، وكيف ذهب والده إلى الجبل للحرب مع جيش التحرير. وخلال الأحداث نرى الجزائر مضطربة، لها صورة مشوشة تختلط فيها القيم والأشياء ولا يمكن التفرقة بين الأبيض والأسود، ومعظم الشخصيات يمتزج فيها الشر بالخير لكنها مصورة بعناية وأسلوب أقرب إلى الواقعية السحرية.
ويتعرض الكتاب باهتمام لتجربة المخرج العراقي قاسم حول في فيلم “بغداد خارج بغداد”، وهو الفيلم الذي يراه المؤلف عملا لا يشبه غيره، بل إنه بعمقه وبنائه الشعري وجمالياته يتجاوز كافة ما ظهر من أفلام في السينما العراقية، وبالطبع ما قدمه المخرج نفسه من أفلام سابقة. وقبل أن نسأل لماذا، يجيب أمير العمري مبررا بأن الفيلم يرتد إلى تاريخ العراق، وتاريخ الشعر العربي هناك، للتعبير عن تجربة إنسانية خاصة هي تجربة العيش المحاط بالموت. وهنا يبحث الفيلم عن سحر بغداد، لكن خارج تلك المدينة التي شهدت عصورا ذهبية وشهدت الكثير من المواهب المحفورة في الذاكرة الثقافية العربية.
إن الأموات في هذا الفيلم ليسوا أمواتا بل أرواحا حية تعيش معنا، فنرى الشاعر معروف الرصافي يطل من شرفته يلقي قصيدة هجاء في الاحتلال البريطاني ونرى شخصيات ثقافية أخرى تحضر بشكل مباغت، حتى نشعر برحلة الوعي بالصورة والصوت وبالسينما والموسيقى والغناء والشر لتعبر عن الحس المأساوي الكامن في الحياة.
كذلك يتتبع الكتاب تجربة المخرج الإماراتي الشاب ماجد الأنصاري في فيلمه الروائي الطويل “زنزانة”، وفيه يبدو الرجل مخلصا لسينما المأزق العبثي حيث يصبح الإنسان سجينا ولا يعرف سبب سجنه، ولا ما الذي سيحدث له. ويرى العمري أنه إشارة واضحة إلى ما يمارس في بعض السجون العربية من إذلال وقمع لكل من يقع في أيدي رجال الشرطة، لكن المخرج يجرد المكان من هويته فيجعل الحدث من الممكن أن يقع في أي دولة ويختار لعمله طاقما من الممثلين من دول عربية عدة وهو اختيار مقصود لإضفاء طابع يتجاوز الحدود ويعني أن الأمر قد يشمل الجميع.
وبتعبير المؤلف فإن الفيلم يتجاوز فكرة النقد السياسي والغمز لواقع القهر العربي من خلال الأسلوب التجريدي الغرائبي الذي يجعل الفيلم عملا أكثر كثافة من خلال استخدام الكاميرا بزوايا تصوير مختلفة وعمل مونتاجي يحطم الصورة الثابتة للمكان الواحد.
يتحمس الكتاب لتجارب مماثلة مثل “المختارون” للمخرج الإماراتي علي مصطفى، و”دشرة” للمخرج التونسي عبدالحميد بوشناق، و”واجب” للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، و”شلاط تونس” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، و”ربيع” للمخرج اللبناني الأرمني فاتشي بولغورجيان، و”يوم من الأيام” للمخرج المصري محمد مصطفى.
وتبشر تلك القراءات بلون جديد بدأ يضع أقدامه في ساحة الفن العربي، ما يدفعنا إلى أن نكرر ما قالته غادة السمان يوما بأن الفن، والفن وحده هو القادر على أن ينقذنا من كل هذا الجنون المحيط بنا.