الفن التشكيلي العربي
الفَن التَشْكِيليّ العَرَبيّ ، هو مصطلح يشمل قسمين من الفنون، القسم الأول يسمى الفنون الجميلة وهي التي يُبدعها الفنان من أجل قِيمها الجمالية، والقسم الثاني يطلق عليه اسم الفنون التطبيقية وهي الفنون التي يُبدعها الفنانون من أجل قيمها النفعية الاستخدامية. ويعتبر هذا التقسيم تقسيم قديم ، فبتغير الحياة تغيرت أدوار الفنون، وتداخلت فأصبحت بعض الفنون التي كانت تُسمَّى فنونًا جميلة تستخدم في الحياة وتكون نفعية، وبعضها الآخر الذي كان يسمى فنونًا تطبيقية، كالخزف والنسيج، أصبح يؤدي دورًا جماليًا فقط. [1]
وأصبح الاستخدام الشائع اليوم لمصطلح الفن التشكيلي، يعني كل الفنون الجميلة والتطبيقية عدا الفنون السماعية كالموسيقى والغناء ونحوهما. وعلى هذا فسوف تستخدم المقالة المصطلح بهذا المعنى الأخير.
تاريخ الفن التشكيلي العربي
من الصعب تحديد وقت معين لنشأة الفنون التشكيلية العربية. وقد اكتشف علماء الآثار أعمالاً تشكيلية عديدة غاية في القدم، ولا تزال الحفريات جارية للتنقيب عن مزيد منها في عدة مناطق منها قريتا الفاو والرَّبذة بالمملكة العربية السعودية إضافة إلى مناطق عديدة منتشرة في سائر أرجاء الأقطار العربية الأخرى. ويدل ما يُوجد في متاحف هذه الأقطار والمتاحف العالمية من آثار عربية عريقة على مدى تنوُّع الفنون التشكيلية لدى العرب عبر العصور.
الفن التشكيلي العربي الإسلامي
ظهر الإسلام، وانتشر في كل البلاد العربية، وكان له أثر كبير على كل نواحي الحياة. وأثَّر تأثيرًا واضحًا على الفن؛ فجعل له سمات ومميزات تُميِّزه عن سائر فنون العالم.
وأول فن من الفنون التي غيَّرها الإسلام فن النَّحْت. فقد كان النحت المنتشر في بلاد العرب قبل الإسلام ـ مثله مثل النحت في سائر بلاد العالم ـ يُركِّز على التماثيل، وقد اتخذها الغربيون آلهة مثل: أبولو، وفينوس، وهايجيا، وباخوس، ومارس وديانا وغيرها، واتَّخذها الشرقيون أيضًا آلهة، وجسَّدوها مثل: بوذا وكرِشْنا. وكان للعرب أيضًا آلهة ـ في جاهليتهم ـ اتَّخذوها لتقرِّبهم إلى الله زُلْفى. وقد ذكر القرآن الكريم عددًا من هذه الآلهة من مثل: يغوث ويعوق ونسر واللاَّت والعُزَّى ومَناة. وتُوضح قصة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) أن قومه كانوا ينحتون الأصنام، ويعبدونها من دون الله،،، وذلك ما توضحـه الآية 95 من سـورة الصافات ﴿ قال أتعبدون ما تنحِتون﴾ الصافات: 95 .
ولما نزل القرآن ـ بلسان عربي مبين ـ أبان للعرب ولكل العالم فساد اعتقادهم وسوء عملهم المتمثِّل في نحت هذه التماثيل وعبادتها. وكان من الطبيعي أن ينتهي كل من آمن بالله عن صناعة تمثال ليعبده الناس، أو ليخلِّد به ذكرى عظيم من العظماء. فالعبادة لله وحده، والعظمة والخلود له، والإنسان فانٍ أصلاً، وليس من الحكمة في شيء أن يحاول تخليد نفسه بتمثال حجري أو مرمري أو غيره. ولهذا كان طبيعيًا أن يهجر النحاتون المسلمون صناعة هذه التماثيل، وأن يستغلوا مواهبهم ومقدراتهم ومهاراتهم النحتية في نحت أشياء مفيدة لإخوانهم في الإنسانية والإسلام، فنحتوا الزخارف المستوحاة من الأشجار والأزهار، والأشكال الهندسية، وزيَّنوا بها المساجد والمباني المختلفة. كما قاموا بنحت الآيات، والأحاديث والمأثور من القول والحكمة على الحجر والرُّخام والمرمر. ونحتوا الخشب وكوَّنوا منه محاريب المساجد، وأبوابها الفاخرة، ونحتوا العاج والعظام وكوّنوا منها عدة أشياء استخدموها لأغراض مختلفة.
والذي حدث في مجال فن النحت حدث كذلك في مجال فن التصوير التشكيلي. فقبل ظهور الإسلام كان الفنانون يرسمون، ويلونون الناس والحيوانات المختلفة. ولما جاء الإسلام منع تصوير ذوات الأرواح فاتجه الفنانون إلى الكتب المختلفة ليوضحوها بالصور الملونة. وقد ترك المسلمون الأوائل الذين عاشوا في كل العالم العربي عددًا كبيرًا من المخطوطات التي تحتوي على مجموعات كبيرة من الرسوم الملونة التي كان الهدف الأول منها توضيح هذه الكتب العلمية والأدبية والطبيعية وغيرها.
وأبدع العرب المسلمون فنًا جديدًا أضافوه إلى الفنون التشكيلية عامة. هذا الفن الجديد هو فن الخط العربي. ويُعدُّ فن الخط العربي من أهم الفنون الإسلامية، وقد حظي باحترام الناس في سائر العصور. فالخطَّاط هو الذي يكتب المُصحف الشريف، ويُسَطِّر الأحاديث النبوية، والكتب المفيدة، ورسائل الحكام الخطيرة، ويُزيِّن بآيات الله المساجد والقصور وغيرها.
وأول فنون الخط العربي ظهورًا الخط الكوفي، فهو أعرق الخطوط. وظهر أول ما ظهر في الكوفة، ومنها انتشر إلى سائر البلاد العربية والإسلامية. وتطور هذا الخط وانقسم إلى قسمين: قسم يُعرف بالتقوير، وقسم آخر يُعرف بالبسط. فالخط الكوفي المقوَّر هو ماكانت عراقاته منخسفة إلى أسفل، وهو كثير الاستخدام في المراسلات العادية. والخط الكوفي المبسوط هو الذي تُبْسط عراقاته كالنون الطويلة على سبيل المثال. وقد كثُر استخدام الكوفي المبسوط في النقش على المحاريب، وعلى أبواب المساجد، وجدران المباني، كما كُتبت به المصاحف الكبيرة، واستُخدم لأغراض الزينة والزخرفة.
وتنوع الخط بعد ذلك، وانتشر في البلاد العربية. والسبب المباشر لظهور فنون الخط العربي المختلفة وأنواعه هو انتشار القرآن الكريم في البلاد المختلفة، وحرص الخطَّاطين في كل بلد على نسخه. وأصبح لكل منطقة نوع معين من الخط يُمَيِّزها؛ فظهر الخط المدني بالمدينة والمكي بمكة، والفارسي ثم النسخ والثُلث وغيرها. واشتهر من الخطاطين أبو علي محمد بن مُقْلة، وأخوه عبدالله بن مُقلة، وياقوت المُستعصمي، وقُطب المحرر، وخشنام البصري، ومهدي الكوفي، وشراشير المصري، وأبو محمد الأصفهاني، وابن الحضرمي وابن أم شيبان وكثيرون غيرهم. انظر: الخط العربي.
أما الخَزَف فهو أحد الفنون التشكيلية التي عرفها العرب منذ عصور قديمة؛ فقد أنتجوا منه ـ عبر القرون ـ أعمالا خزفية كثيرة. ولما جاء الإسلام، ووحَّد بين العرب أنتج العرب المسلمون أعمالا خزفية غاية في الدقة، وزيَّنوها بأجمل الزخارف، ولوَّنوها بأبهى الطلاءات الزجاجية، وجدَّدوا في طرائق صناعتها وتلوينها. وتحتوي المتاحف العالمية اليوم على عدد كبير من القطع الخزفية التي تُعَدُّ غاية في الجودة.
وقد استخدم الخزَّافون العرب كل أساليب التشكيل الخزفي فشكَّلوا بعض أعمالهم بدولاب الخزاف، وبنوا بعضها بأساليب البناء المعروفة المتوارثة كطريقة الحبال الطينية، أو الشرائح، أو البناء المباشر، أو باستخدام القوالب للصبِّ. كما عرفوا طرق الزخرفة المختلفة فزيَّنوا قطعهم الخزفية برسوم طبيعية تمثِّل الأشجار والزهور، واستخدموا في تزيينها وزخرفتها الخط العربي، وزخرفوها بالحز أو الحَفْر، أو بالبروز.
وأنتجوا أشكالاً مختلفة منها الأواني الكبيرة التي تُستخدم لخزن الماء، ومنها الأباريق والزمازم، وكانت هذه كلها لا تُطلَى بالطِّلاء الزجاجي. أما كل الأنواع الأخرى من الفَخَّار فكانت تُطْلَى بالطِّلاء الزجاجي، وتُحرق مرة ثانية لتصبح خزفًا. والفرق بين الفخار والخزف هو أن الفخار يشوى مرة واحدة، أما الخزف فيحصل عليه الخزافون بأن يقوموا بطلاء هذا الفخار نفسه بالطلاء الزجاجي، ويُدخلونه في أفران الحريق ليشوى مرة ثانية إلى أن ينصهر الطِّلاء الزجاجي. وبعد هذه الحَرقة الثانية يتحول الفخار إلى خزف، ويتغير مَلْمَس القطعة إلى ملمس الخزف الصقيل. وتتحول القطعة نفسها فلا تعود مَساميَّة ترشح الماء.
واكتشف الخزَّافون العرب طريقة جديدة في شي الخزف مكَّنتهم من الحصول على الخزف ذي البريق المعدني. وهذه طريقة تُختزل فيها عملية الشي للمرة الثانية، فينتج عن ذلك لون معين له بريق معدني. كما أنتجوا الفسيفساء والقيشاني، وزيَّنوا بهما المساجد والقصور والدور.
ومن الفنون التي عُرفت في البلاد العربية منذ عصور قديمة فن النسيج. والمعروف أن اعتمادهم على النسيج كان كبيرًا. فنسج العرب خيامهم التي سكنوا فيها، ومفارشهم وغيرها. وبعد الإسلام نسجوا الزخارف في بعضها، ولوَّنوا بعضها الآخر بالأصباغ الثابتة ذات الألوان الجذَّابة، كما طبعوا بعضها باستخدام أختام كبيرة. ومما أضافه الفنانون العرب إلى هذا الفن هو الطِّراز، ولفظ الطراز يُطلق على الشريط ذي الكتابة المنسوجة أو المُطرّزة، كما يُطلق على الأقمشة التي زُخرفت بهذه الطريقة، ويُطلق كذلك على المصانع التي تنتج مثل هذه الأقمشة. والجدير بالذكر أن كثيرًا من الحكام العرب المسلمين كانوا يشجِّعون النسيج، لدرجة أن بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين قد أنشأوا مصانع للنسيج في قصورهم الخاصة. واستخدم النسَّاجون القطن والصوف في نسيجهم. وقد انتشر فن النسيج في كل الأقطار العربية والإسلامية، وانتقل مع العرب المسلمين إلى الأندلس.
ولا تزال هناك بعض الأعمال النسيجية المختلفة من ملابس، وبسط وسجاجيد عربية قديمة موجودة في المتاحف العالمية، تشهد على براعة ودقة من نسجوها.
وإضافة إلى ذلك فإن العرب قد مارسوا صناعة التحف المعدنية، فأنتجوا الأواني البرونزية والذهبية والفضية والحُلِيّ وأدوات الزينة، وزيَّنوها بالزخارف المختلفة وبالخطوط الجميلة. كما عملوا على سَبْك البْرونْز، وأنتجوا تُحفًا ذات زخارف بارزة، وطعَّموها بالمعادن الأخرى، فأبدعوا الأبواب العجيبة، والثريَّات الساحرة.
وتبادل الفنانون التشكيليون الخبرات، وتجولوا في بلادهم وازدهرت فنونهم ازدهارًا عظيمًا.
الفن التشكيلي العربي المعاصر
بعد أن بلغت الدولة الإسلامية شأنًا عظيمًا، جاءت عصور الانحطاط فتفرَّق العرب، وتفرَّق المسلمون وتتالت عصور الضعف، وتزامن هذا مع نهضة أوروبا وقوتها، فطمعت في البلاد العربية، واستعمرت عددًا لا يُستهان به منها.
وكان طبيعيًا أن يحاول المستعمر نشر ثقافته وفنه؛ فانتشرت أساليب الفن الغربي في البلاد العربية، وأنشئت المدارس والكليات لتدريس الفنون التشكيلية بالطريقة الغربية.
وعملت الدول الأوروبية على إرسال الفنانين التشكيليين البارزين في الأقطار العربية التي كانت تستعمرها، ليدرسوا الفنون هناك بتعمّق. وعاد هؤلاء ليقوموا بالتدريس في مدارس الفنون وكلياتها وأكاديمياتها.
وكان لهذا أثر كبير في تغيير ملامح الفن التشكيلي العربي المعاصر؛ فقد ترك الفن الأوروبي المعاصر بَصَمات واضحة على الفن العربي الذي أنتج في هذا العصر الحديث.
وانقسم الفنانون التشكيليون في الوطن العربي إلى ثلاثة أقسام:
رأى الفريق الأول أن الفن العربي المعاصر ينبغي أن ينتهج نهج الفن الأوروبي المعاصر، وأن يَعُدَّ الفنان التشكيلي العربي المعاصر الفن الأوروبي المثال الذي ينبغي أن يُحْتذى، فهو فن عريق مُؤصَّل، له وسائله وتقنياته وأساليبه المنظمة. وهو يعبر عن روح العصر بهذه الصَّرْعات الفنية، والمدارس المتجددة المتلاحقة اللاهثة.
ورفض آخرون هذا الفن كما رفضوا أصحابه المستعمرين، وأبعدوهم عن البلاد العربية، وطالبوا بأن يعودوا لفنونهم العربية وإرثهم الشعبيّ، يستلهمونه ويُنتجون فنًا عربيًا أصيلاً مبنيًا على تراثهم العربي الإسلامي التليد.
وتوسط فريق ثالث بين الرأيين السابقين، ورأى أن يدرس الفن الغربي وأساليبه وتقنياته ووسائله المتقدمة، ويتخيَّر منها ما يُلائمه ويُساعده على إحياء تراثه العربي الإسلامي.
وظلَّت هذه الآراء الثلاثة تتصارع منذ بداية القرن العشرين في أغلب البلاد العربية. وأصبح الفن التشكيلي العربي المعاصر متنوعًا من حيث المحتوى والشكل. فمن حيث المحتوى يُلاحَظ أن الفنانين التشكيليين المعاصرين في البلاد العربية أصبحوا يُعالجون موضوعات متنوعة تندرج من المستوى المحلي إلى المستوى الإقليمي إلى المستوى العالمي. ومن حيث الشكل فقد وجدت كل المدارس الفنية الأوروبية الحديثة والمعاصرة طريقها إلى الفنانين التشكيليين العرب، فظهرت المدارس الانطباعية والتكعيبية والتعبيرية والتجريدية، بل وحتى المفاهيمية والواقعية المغالية، السائدة في العقد الأخير من القرن العشرين، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ومن الملاحظ أن المدرسة السيريالية قد انتشرت أكثر من غيرها. ونرى آثارها في أعمال كثير من الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين.
واستطاع كثير من الفنانين التشكيلين العرب أن يُثبتوا وجودهم، وأن يُنافسوا على المستوى العالمي، ويُحققوا نجاحًا ملموسًا.
وعلى هذا فإن الفن التشكيلي العربي المعاصر يعيش فترة حرجة من عمره. ومن الصعب جدًا أن نجد سِمات مشتركة في إنتاج الفنانين التشكيليين العرب تُميزهم عن فنَّاني العالم. بل من الصعب أن نجد سِمات مشتركة بين فنّاني البلد الواحد في هذه الأيام. ومما زاد الأمر التباسًا أن بعض الفنانين الأوروبيين المعاصرين أمثال هنري ماتيس وبول كلي وغيرهم، قد زاروا بعض البلاد العربية، وأنتجوا أعمالا تُعَبِّر عنها. واشتهرت أعمالهم في الغرب؛ لأنها استطاعت أن تُعبِّر عن روح البيئة العربية. وقد اختلف هؤلاء الفنانون الأوروبيون عن أسلافهم الفنانين المستشرقين الذين صوَّروا بعض الأقطار العربية في القرن الماضي بطريقة واقعية أو رومانسية.
وعلى كل، فهناك محاولات جادة من بعض الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين لإيجاد جامع يجمعهم، وأسلوب يُمَيِّزهم عن غيرهم، ويحقق نوعًا من الوحدة والترابط بين الفنانين التشكيليين العرب.
الفن التشكيلي العربي: الحضور وشروطه
شكّل العقد الرابع من القرن المنصرم، منعرجاً تأسيسياً للفن التشكيلي العربي، لجهة البحث عن أفكار وتصورات كرّست مفهوم الهوية في العمل الفني، والاهتمام بنظام تشكيلي أكثر أصالة. ذلك ما دعا الفنانين العرب، إلى محاولة التخلي عن التقليد الغربي، والبحث عن أشكال واتجاهات فنية مغايرة، مع إعادة تقويم ثقافي وذهني ووجداني لمقاصدهم الجمالية، جراء التأثر بالأطروحات الوطنية التي تنامت بعد محاولات الاستقلال. وبعد ما بات ينظر إلى مجال الفنون بوصفها عاملاً مساهماً في النمو الثقافي والفكري والاجتماعي للمجتمعات العربية.
منذ ذلك التاريخ، دأب هؤلاء الفنانون كي يكونوا أكثر اهتماماً بمساءلة تاريخهم الفني، ومحاولة افتراض مرجعيات جمالية من صلب ذلك التاريخ العتيد، سواء في منجزات الماضي القريب، أو البعيد، أو حتى في فنونهم المحلية والفلكلورية. جاءت تلك الدافعية، كذلك، في كون العديد منهم وأثناء دراستهم في أوروبا، قد وجدوا انتباهة ونزوعا من قبل فناني الغرب أنفسهم “إلى استلهام فنون الحضارات الشرقية القديمة والعربية والزنجية لغناها التعبيري” كما يذكر الشاعر بلند الحيدري، وهو الأمر الذي شكّل حافزا، وهاجسا، في كيفية تمثل هذا التراث واعتماده كمرجعية جمالية، وبطريقة تميزه عن الفن الغربي. وتوظيف هذه المرجعية الجمالية في الممارسات الفنية الحديثة، واستخلاص بعد حضاري جديد عنها. وبطريقة مغايرة لتعامل الفنان الغربي، مع هذا التراث الذي كان قد أشاد به وبأهميته. الأمر الذي شكّل حافزا كبيرا للعديد منهم للعودة إلى منابع حضارتهم السابقة.
رؤية مغايرة للحداثة
في كتابه «فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق»، الجزء الثاني، يفترض الفنان والمنظر شاكر حسن آل سعيد (1925- 2004) تصوراً نقدياً يعلل من خلاله طبيعة تمثل التراث الحضاري للفنان العربي. بدواعي أن هذا الفنان يتفكر في إرثه بأسباب نزعته الإنسانية والوجدانية، وهي ما تشكل نظامه الثقافي. بخلاف الفنان الأوروبي الذي بادر إلى تأسيس حداثته بدافعية شديدة الاختلاف، تلازمت فيها شروط الإبداع الفني مع إنتاج الحضارة الصناعية.
يذكر آل سعيد «أن العمل الفني في الدول المتقدمة يتخذ له صيغة اقتصاد إنتاجي قائم على استهلاك الوعي الحضاري كمواد أساسية لحساب السوق العالمية والفكر الأوروبي»، فيما يصبح العمل الفني في مجتمعاتنا، غير الصناعية، منتجاً يعتمد على عمق المجال الثقافي الذي يعيشه الفنان بوصفه موقفاً حضارياً وتاريخياً موصولا بإنسانيته وغير منقطع عنها.
إن المختصين بالنشاط الفني ورعاته، من قيمين ومدراء، لبينالات، معارض فنية دولية، مزادات فن، قاعات عرض، هؤلاء هم من لديهم القدرة على تعريف شيء على أنه (فن) حتى لو كان العمل الفني بالنسبة إلى الجمهور العام يبدو مجرد (كومة طابوق)
قراءة كهذه، لا شك في كونها قد استثمرت مقاصد التجربة الفنية، لغرض تعيين تصور فكري واجتماعي وحضاري لجهة الحداثة. ثمة أمثلة على ذلك. ظهور جماعة بغداد للفن الحديث “1951” في العراق، وكشفها لتوجه ثقافي عبر بيانها الفني الأول، والذي سنتعرف من خلاله إلى رؤية مغايرة للحداثة، والذي أفترض، إلى أن التراث بمرجعياته الجمالية العديدة، والذي ينظر له بطريقة فهم معاصر، هو بمنزلة رؤية جمالية تأسيسية. عدا كون الحداثة ذاتها هي متعددة ولا تنتمي إلى فهم أحادي. حيث ثمة حداثة بعضها اتصالي يدعو إلى تطوير هذا التراث، وأخرى قائمة على القطيعة، وتعمل بالضد منه.
وفرة النتاج الفني
فيما كشف المشهد التشكيلي في أوروبا، ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عن مسارات الحداثة الغربية في أثناء تحولاتها المختلفة، فإنه بذلك سيكون لوفرة النتاج أو تنوعه الحظوة في مجال الإنتاج والاستهلاك الفني. لتتحول هذه العلاقة الى حقول ذات طابع مستقل وطبيعة تمثيل خاصة بها واحتكار شرعية التراتبية الفنية وطبيعة تقييمها في عالم الفن. وسيصار للحداثة مغزى وحيد قائم على القطيعة، وباعتبار العمل مظهراً ثقافياً لمجتمع الاستهلاك.
منذ ذلك التاريخ، بدأ نشوء مؤسسة تخصصية اسمها عالم الفن، بكونها منظومة جمالية مستقلة، لها تاريخها الخاص واهتماماتها وتشريعاتها لقوانين تنظم آليات حقل الإنتاج الفني وضبطه. والتي ترسّخت من خلالها آليات واستعدادات وطرق إنتاج وتقدير وتقويم، بصورة مركبة. إذ بعد انحلال عنصر الرعاية من المؤسسة الاجتماعية، كان على الفنان أن ينتج لأغراض العرض، وأن يتوسط تجار الفن لاقتناء منتجه من قبل الجمهور المحتمل، حيث ستتم الاستعانة بالنقد، واستثمار سمعة الفنان، وإحداث تأثيرات في القيمة المادية والرمزية للعمل الفني ضمن مجال المضاربة المالية لقصد الربح، في ظل اقتراح مرجعية وحيدة، هي الفنان ذاته وخصوصيته التي يسعى أن تكون لافتة ومغايرة.
لقد أصبح عالم الفن الذي تتم فيه عملية الإنتاج والتلقي قادراً على صناعة حس مشترك وميول واستعدادات لأنماط تقبّل وتقدير وتثمين ما هو استثنائي في هذا العالم، وهي الضرورات التي لا تولدها الأعمال الفنية بمفردها.
المعاصرة والاستهلاك
تطورت تلك الصياغات والتفضيلات والغايات من أجل جماليات معاصرة، ضمن نسق التحولات التي واكبت القرن الماضي. كان عالم الفن يواكب استقلاليته بوفرة النتاج وتنوعه، وهو توسّع غير مسبوق من قبل، في تاريخ الفن. كانت الوفرة تهيئ كذلك، انتقال الفن من كونه الحافظ لقيمة الرأسمال الثقافي إلى موقع صار فيه رأسمالاً تجارياً. وما كان يعيّن من تراتبيته هي وسائل الاتصال وقوى السوق والسياسة الليبيرالية التي انتهجتها المؤسسات ومتاحف الفن، وتطور أنظمة فرعية تخصصية في مجال الإنتاج والاستهلاك الفني.
|
لقد بات كل عمل فني معاصر، ينجز ويتشكل وفق ضرورات المعاصرة واستعداداتها والافتراضات الممكنة فيها. واكب ذلك، تغيير العامل المرجعي للفن، بإعادة تنظيم القيم الموضوعية التي يتم على أساسها حضوره. وظهور تعليلات وتوجهات تنفي وجود معايير موضوعية للذائقة، قادرة أن تعرّف الفنّ وتميّزه عن اللاّفن، كما تنفي وجود محدد ذوقي وتراتبي لتقويم الشيء الفني، ما عزز أدوار الهيمنة داخل هذا العالم.
إن المختصين بالنشاط الفني ورعاته، من قيمين ومدراء، لبينالات، معارض فنية دولية، مزادات فن، قاعات عرض، هؤلاء هم من لديهم القدرة على تعريف شيء على أنه “فن” حتى لو كان العمل الفني بالنسبة إلى الجمهور العام يبدو مجرد “كومة طابوق”، كما يذكر أحد النقاد الغربيين.
هكذا ستحقق الفنون المعاصرة مجالات إنتاج ذات طابع مستقل وطبيعة تمثيل خاصة بها واحتكار شرعية التراتبية الفنية في عالم الفن. لقد صار كل رفض وتعارض يكتنف الفنون المعاصرة يحظى بالقبول بوصفه فن مؤسسة معاصرة. فالعمل الفني هو مظهر ثقافي لمجتمع الاستهلاك، القادر على اختراق حدود الفن، وعبر انعدام توافر الجمالي والجميل والاستدامة فيه، فيما الفنان هو ذلك الكائن المندمج في الصناعة الثقافية، وليس ذلك المستقل القابع في محترفه.
إشكالية الحضور
لم يعد جميع الفنانين العرب، المعاصرين، شديدي الاهتمام بتلك الرؤية التأسيسية السابقة للفن العربي. لازال البعض منهم يفترض تصوراً وحيداً للفن بنسخته المعاصرة الآن. فيما البعض الآخر يتوافق مع تعيّنات الهوية الفنية بوصفها قيما أصيلة وفريدة للعمل الفني لا ينبغي التخلّي عنها، خاصة مع ما تشهده بعض البلدان العربية، الخليجية تحديداً، من استضافة معارض دولية تسعى للحاق بالعالمية وأسواقها الفنية وشروطها المنتخبة. إشكالية تستدعي البحث من قبل المعنيين بأطروحة الفن العربي، في جانبها النظري والعملي، عن تحديدات وتعريفات جمالية جديدة لهذا الفن، وإعادة البحث فيه عبر نسخته المعاصرة. دوره، ماهيته، موضوعاته، تلك التعريفات والتعيينات التي يبدو أنها آخذة في الازدياد من قبل الفنانين والنقاد على حد سواء، إلى جانب تصريحات مغايرة تدّعي بعدم قابلية حضور الفن إلا بكونه إنسانيا وعالمياً بامتياز.