سعد القاسم
04 أيار 2020
بهذه الزاوية المخصصة لبعض ذكريات السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة، أختتم سلسلة زوايا نُشرت بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس الكلية، والتي بدأت كمعهد عالي للفنون الجميلة.
كان أكثر ما يرهبنا في دراستنا القادمة، مادة اللغة الإنكليزية، فقد كانت مقرراً دراسياً لمدة أربع سنوات، واشتهر مدرسها أستاذنا الدكتور عبد العزيز علون بالصرامة والجدية، خاصة وأنه العارف المتمكن بالفن التشكيلي. وكانت أكثر الأحاديث الدراسية شيوعاً بين أسلافنا تدور حول صعوبة المادة، وعدد السنوات التي حملها فيها بعض الطلاب، حتى أن هناك من غادر الكلية لحمله المادة في سنواتها الأربع..
مع بداية عامنا الدراسي الأول جاء من يحمل بشارة مزدوجة، شقها الأول أن المادة قد أصبحت مقررة فقط في السنتين الأولى والثانية، أما الشق الثاني فهو أن الدكتور علون قد اعتذر عن تدريس المادة هذه السنة لكثرة انشغالاته. ترقبنا بأمل قدوم المدرس الجديد، وكانت مفاجأة سعيدة حين دخلت (المظلة) شابة ثلاثينية أنيقة على قدر كبير من اللطف والتهذيب، علمنا سريعاً أن هذه هي تجربتها الأولى في التدريس الجامعي فهي أصلاً معلمة في المرحلة الثانوية. وقد بدا من اللحظة الأولى تهيبها من المهمة الجديدة ، وأنها (قابضتنا) أكثر من اللازم ولهذا فقد بذلت جهداً واضحاً لتحضير الدرس الأول. وبعد أن عبرت عن سعادتها بأنها ستقوم بتدريس فنانين، مرفقة هذا بتخيلاتها عن شفافيتهم وحسهم المرهف وثقافتهم العالية، سألت بأدب جم عمن يتطوع للتحدث عن الفنان الفرنسي (إدوار مانيه) الذي يعتبر الأب الروحي للمدرسة الانطباعية، وأحد أهم رواد الفن الحديث. وأمام الصمت المطبق من جمهور الطلبة الفنانين، اعتقدَت أنهم وللأسباب آنفة الذكر لم يفهموا سؤالها فأعادته باللغة العربية، ولما بقي السكون سيد الموقف قدمت تنازلها الأخير فقالت أن بإمكاننا الإجابة باللغة العربية، لكن شيئاً – مع ذلك – لم يتغير، اللهم إلا موقف المعلمة، التي شعرت على الأغلب أنها أضاعت وقتاً دون فائدة بالتحضير لدرسها الأول. ولكم أن تتصوروا حجم التبدل السريع والمذهل في موقفها الذي لم تستطع إخفاءه رغم تهذيبها العالي، حتى أنه حين أعرب أحد زملائنا المخضرمين، في درس تالٍ، عن سعادتنا لتكليفها بتدريس المادة، معلناً أنه نقل هذه المشاعر إلى اتحاد الطلبة وعمادة الكلية، أجابت دون تردد: لكني أنا لم أكن سعيدة بهذه التجربة وقد أعلمت الإدارة اعتذاري عن الاستمرار بها في العام القادم..
أما المظلة فهي (الوجيبة) الخلفية لمبنى الكلية، وقد ارتأت الإدارة – بسبب ضيق المكان – أن تضمها إلى المشاغل وقاعات التدريس، فقامت بتغطيتها بسقف بلاستيكي يرد عنا المطر، دون البرد، والقطط الجسورة، دون أصواتها المدوية حين تقفز على السقف. وبعد أسابيع قليلة من بداية العام كان أحد زملائنا في زيارة عيادة طبية، وحين سألته الطبيبة – وكانت أيضاً شابة أنيقة ولطيفة – عن دراسته، أجابها بتفاخر أنه طالب في كلية الفنون الجميلة، ولما فاجأته بالسؤال عما إذا كان يحضر الدروس في المظلة تضاعف فخره وقال بلطف مُتكلف: ” يظهر أن الدكتورة مهتمة بالفن؟” فأجابته بجفاف: ” لا.. ولكن الكثير من طلاب الكلية يحضرون للعيادة لإصابتهم بالروماتيزم” !!
لكن ذكريات المظلة لا تقتصر على الإحباط الذي تسببت به الشابات الأنيقات، ففيها التقينا بمجموعة رائعة من الأساتذة الاستثنائيين، منهم أستاذا تاريخ الفن: عفيف البهنسي وحسن كمال، وأستاذ علم الجمال: بشير زهدي، وأستاذ تاريخ الحضارات: محمد محفل، وأستاذ المنظور: فايز الحمصي، وأستاذ السينما: صلاح دهني، وأستاذ المسرح: علي عقلة عرسان، وأستاذ التشريح: غسان حتاحت.. وسواهم، دون نسيان أستاذ الخط حلمي حباب شيخ الخطاطين السوريين، والذي كنا نصفه بمختار سورية وما حولها، فقد كان يبدأ درسه الأول بالتعرف على الطلاب الجدد، وما أن يذكر الطالب اسمه حتى ينهال سيل الأسئلة على طريقة: فلان ماذا يقربك.. هل فلان ابن عمك؟.. إذن فأنت ابن فلان وفلان جدك وفلان خالك. وما يلبث أن يحكي عن خصالهم، ويترحم على الراحلين منهم.
هؤلاء الأساتذة، إلى جوار الفنانين أساتذة المواد الاختصاصية، هم من جعل كلية الفنون الجميلة محور المشهد التشكيلي السوري، فلا نكاد نجد فناناً مهماً إلا وقد تخرج منها، باستثناء ندرة من الفنانين الذين صنعوا مجدهم الفني بجهدهم الشخصي.
* الصورة: شيخ الخطاطين حلمي حباب في المبنى القديم للكلية 1976 ونشرها الزميل محمد حلال في صفحة كلية الفنون الجميلة في ساحة التحرير
http://thawra.sy/in…/saad_elkasem/229302-2020-05-04-10-23-10