أمس نشر الفنان أنور الدرويش هذه الصورة الفنية ، واعتقد أن مثل هذه النمط من الصور الفنية التي يقدمها الفنان أنور الدرويش يتجاوز إبداعيا مفهوم الصورة الفوتغرافية التقليدية من جهة أنه لا يقدم للمتلقي صورة يكون التركيز البصري فيها – فقط – على الدقة الهندسية لأبعاد الشكل ومكان تموضعه في الفضاء الذي تحدده زاوية النظر والالتقاط ، وصلته الجمالية بالبعدين المهمين في كل صورة ( الظل والضوء ) ، وانما من جهة كون الصورة أيضا تجاوزت الاهتمام بالبؤر البصرية المركزية في الشكل ( البيت ) من جدار ومظهر عام وأبواب وزخارف وشكل هندسي تراثي أو حداثي ونوافذ ، وانما اهتمت ببؤرة تعد هامشية بالقياس لأي من تلك العلامات السابقة ، إنها مجرد زاوية قديمة مكتظة بالشقوق والتصدعات والميلان فضلا عن بقايا اسلاك كانت كهربائية ، حتى النافذة التي ظهرت ، كانت معطلة عن أداء دورها الهندسي والجمالي التقليدي ، والاجتماعي بوصفها فضاء للإطلالة على العالم من علو ، وذلك بسبب غلقها التام بالحجارة الظاهرة خلف القضبان المعطلة أيضا عن دورها الأمني والجمالي في حماية ماخلف النافذة المحمي أصلا بالحجارة .القضبان هنا واقعيا تبدو نشازا وزائدة لكنها فنيا تبدو رمزا للانغلاق الاجتماعي والنفسي والامني التام المبالغ فيه ومن ثم فإنها مصدر من مصادر قلق هذه الزاوية التي احسن الفنان بعنونتها ( زاوية قلقة ) ..
فضلا عن انعدام اللون تقريبا على القضبان لأسباب كثيرة ،منها القدم والاهمال والعوامل المناخية ، لكنه رمزيا يعني تماهي القضبان مع لون الجدار اوالحجارة خلفها التي استلبت منها كل وظائفها المنتظرة منها ..عدا وظيفة واحدة لم تستطع سلبها منها وهي التي يبحث عنها الفنان في هذه اللقطة ..وأعني بها الوظيفة الجمالية لكن ليس بالمفهوم الجمالي التقليدي الذي وضعه من اجلها مصمم البيت الذي يلبي حاجات ذوقية وبصرية للناظرين وانما بالمفهوم الجمالي الحداثي الذي يجد في المهمل والهامشي جمالا تجريديا وروحيا ، أي بمعنى جمال ( الأثر ) الذي آلت اليه هذه النافذة أو تركته من قضبان صدئة والوان قاحلة كلها دالة على حياة كانت هنا خلفها واندثرت ولم يبق منها سوى الأثر ، وكأن الفنان هنا يعيد علينا ثقافة الوقوف على الطلل التي أسس لها الشعر القديم ، وهي تحضر هنا بصريا في ماتبقى من طلل الموصل القديمة التي لم تبق منها سوى الآثار والقلق ..
ومصدر القلق يبدو قادما من الخارج بدالة التصدع الكبير والشق الواسع في الجدار وتعرياته من الجهة المطلة على الخارج ، وينسجم ذلك مع جانب من الحقيقة تاريخيا بسبب مامرت به الموصل القديمة من خراب بفعل الغرباء الذين هيئوها للدمار ..
وثمة قلق آخر في الصورة تمثل رمزيا ببقايا اللوازم الحديدية المثبتة على الجدار والخاصة بالكهرباء التي هي أشبه بأكف مفتوحة على العالم استغاثة أو توجعا من عذاب الخراب فضلا عن بقايا أسلاك مقطعة ، دالة على انقطاع تلك الزاوية الخربة عن العالم الحديث بفعل الخراب الذي حل بها . الذي تغلف أسراره بالغموض نافذة موصدة بالحجارة وظل يهيمن على أسفل الصورة يتصارع مع ضوء استحوذ على الجانب العلوي منها تقريبا ..ليس لتجميلها فحسب وهي على خرابها وانما أيضا لكشف ماحل بها ..بينما تؤدي الزرقة كخلفية للشكل دورا أشبه بالثانوي دلاليا موحيا بصمت مريب ، ودورا مهما لونيا في إبراز الألوان الجصية المغبرة بتدرجاتها اللونية ..
لذلك قلت إن هذا النمط من الصور هو فوق الفوتغراف العادي ، وهو ذو محمول أدبي بما يثيره لدى المتلقي من استذكارات و قصص وحكايات مرتبطة بالشكل ..ودلالته الرمزية ، وهو فوق الفوتغراف لأنه لاينسجم وتوقعات المتلقي التقليدي الذي ينتظر أفقه البصري صورة تقدم له جمالا بصريا مألوفا مثل صور الورود والبيوت الأنيقة ، بعيدا عن قبح الخراب الذي حولته اللقطة إلى جمال فني بصري ومعنوي .
وهنا لدي ملاحظة اجدها مهمة ، أن التصوير الفوتغرافي في كثير من الأعمال والمعارض الذي اتخذ من خراب الموصل القديمة بعد الحرب موضوعا له أتجه اتجاهين :
الأول اقرب الى التوثيق بدافع نفسي وتاريخي إما كونه يريد أن يحنط خراب المدينة بصريا ليحتفظ بالصورة كوثيقة تاريخية تدين من تسببوا بالخراب .أو لارتباط لك الصور بأماكن الماضي الجميل ومراحل الطفولة والصبا والشباب فتكون الصورة نوعا من الخيط النفسي الذي يعيد المصور الى تلك المرحلة وسط حاضر لاينسجم معه وماض يحن اليه .والمفارقة أن هذا النوع من الصور على مافيه من جهد فني محدود بأطر تقليدية إلا أنه ثقافيا كان مقبولا لدى الجمهور للسببين السابقين المكتظين بالشحن العاطفي والاستذكاري .لكنه في الحقيقة أسهم من دون قصد بدور ضمني في ترسيخ ثقافة التآلف لدى المشاهدين مع مظاهر الخراب العمراني التي تنتشر في المدينة بعد الحرب ومن ثم كان له دور في خلق رأي عام عاطفي وانفعالي ضد أي توجه لمعالجة آثار الخراب بذريعة الحفاظ على التراث والأصالة والماضي على الرغم من أن المعالجات أحيانا كانت بمقترحات للترميم أو التصليح ، أما معالجات مثل الإزالة وإعادة البناء ولو وفق طرز تراثية لكن باسلوب حديث فتلك كانت مرفوضة تماما ..لكن مع ذلك هذا الاتجاه له دوره مهم جدا في الحفاظ البصري على صور المدينة ولو في لحظة خرابها .
والثاني هو الاتجاه الجمالي الرمزي الذي لايهتم بالتوثيق التأريخي بقدر اهتمامه بالموضوع فنيا وكونه مصدر اشتغال بصري مكتنز بالجمال في أشكاله وأبعادها وآثارها والوانها وضوئها وظلها ، وعلاقاتها مع بعضها ، وهنا يحضر الفن أولا ثم الحكاية التي يمكن أن تبوح بها الصورة أو تقوم بسردها ووفق قدرات المتلقي على التحليل والتأويل .
وهذا الاتجاه لا يثقف بصريا للتآلف مع ظاهرة الخراب في الموصل القديمة وإنما يثقف للاهتمام بالجمال البصري بغض النظر عن التأريخ وما حدث ، وإذا ما اسقط المتلقي التاريخ على الصورة فذلك شأن تلقيه وليس شأن الفنان الذي نظر الى المشهد جماليا أولا وأخيرا وما ينضح من الصورة من حكايات وقصص فذلك أتصور أنه ثانوي في مقاصد الفنان الذي لايريد الشحن العاطفي للمتلقي بقدر رغبته بالشحن الجمالي له عبر تفاعله مع مفردات الصورة .وأحسب أن الدرويش أنور يسير في كثير من أعماله بهذا الاتجاه لاسيما في صوره التي ( تهتم بهامش المكان الواقعي لتجعله مركزيا في الصورة ) ، وهنا احسب ان البراعة كامنة في فن التصوير ..على الرغم من قلة الجمهور الذي يمكن أن يتفاعل جماليا مع هذا الاسلوب ، لأنه قد يتفاعل معه من جهة الحكاية التي خلف الصورة وليس الصورة نفسها .
واذا كنت في تحليل الصورة قد وجدت جمالية في العنوان الذي وضعه المصور ( زاوية قلقة ) فلأنني تفاعلت جماليا معها ، غير أنني تفاعلت حكائيا ونفسيا مع التصدير الذي سبقها ( في الموصل القديمة ) ..وماتحمله من دلالات على حدث الخراب ، ولذلك كنت أفضل حذف التصدير لمنع الحكاية من استدراج المشاهد الى الصورة قبل استدراجه الى الجمال فيها الذي أوحى بحكاية خلفه وبدرجة أقل وصف الاماكن بالقلقة .وهذا الحد مقبول نوعا ما لأنه لايتضمن تسمية جغرافية كما في ( الموصل القديمة ) تنثال بحضورها الذكريات في ذهن المشاهد وتؤثر في تلقيه الجمالي للصورة فينحاز مسبقا اليها تحت ميل العاطفة .
د. أحمد جارالله ياسين