قطف فيلم المخرج الكولومبي إليخاندرو لاندز “مونوس” (قرود باللغة الإسبانية) جائزة المسابقة الرسمية لمهرجان لندن السينمائي الدولي، معززا رصيده في مسابقة الأوسكار المقبلة التي رشح للتنافس على جائزة أفضل فيلم عالمي فيها.
وقاد ترسم المخرج الكولومبي لخطى الروائي البريطاني المتوج بنوبل وليام غولدنغ، في اختبار الحد الفاصل بين الإنساني والحيواني وتفجر نوازع الشر لدى الإنسان في لحظة غياب القوانين الناظمة لسلوكه وضمن معادلات بصرية بالغة الجمال والتميّز، إلى تتويجه بهذه الجائزة الرئيسية التي يمنحها المهرجان البريطاني.
وعلى الرغم من أن لاندز لم يعتمد بشكل مباشر على رواية غولدنغ المعروفة “أمير الذباب” أو “إله الذباب” ( Lord of the Flies) في فيلمه السينمائي، لكنه حاول تقديم حبكة مشابهة في أجواء أمريكا اللاتينية، مستثمرا تلك الطبيعة الساحرة للجبال والغابات الاستوائية كمصدر جمال بصري وموقع لتحقيق المزيد من الإثارة والشد في حبكة فيلمه التي تقدم تحولات مجموعة بشرية في مكان منعزل وناءٍ عن العالم.
حرب عصابات
في مشاهد تمهيدية على قمة جبل عالية ووسط الغيوم، يعرفنا لاندز على مجموعة من المراهقين المُجندين في جماعة حرب عصابات يسميها “المنظمة” ولا نعرف أي شيء عن القضية التي تُحارب من أجلها أو البلد الذي تحارب فيه.
كما لا نعرف أي شيء عن المجندين أنفسهم سوى أنهم فصيل مقاتل في هذه المنظمة يعرف باسم مونوس “قرود باللغة الإسبانية” ويلقبون بألقاب وليس باسمائهم الشخصية أمثال: دوغ وولف ورامبو وبغ فوت وبوم بوم وليدي وسمارف .. إلخ، ويتولون حراسة رهينة أمريكية ينادونها “دكتورة” تؤدي دورها الممثلة جوليان نيكلسون.
ويحرص لاندز وكاتب السيناريو المشارك معه المخرج الارجنتيني ألكسيس دوس سانتوس في المشاهد التمهيدية على أن يقدما صورا موجزة عن براءة عالم المراهقين المجندين الذين يمزجون الجد باللهو ويختلط لديهم القتال باللعب والتدريب الصارم بالرقص وبلحظات من العواطف الحميمية، وتقمع روح الشباب المتمرد لديهم بنظام من الطاعة العمياء للأوامر.
وينقلب هذا الجو إلى كابوس من الرعب والقتل مع لحظة قتل دوغ للبقرة شاكيرا أثناء لهوه بإطلاق النار بكثافة من سلاحه، فيقوم وولف المكلف بحماية البقرة بضربه وسجنه في حفرة، ثم يقوده خوفه وإحساسه بالذنب إلى الانتحار.
وهنا تسنح فرصة ل”بغ فوت” الطموح والشرس لقيادة المجموعة، بعد أن يقوموا بسلخ البقرة وأكل لحمها، ثم يقررون وأيديهم ووجوهم ملوثة بدمها (في استعارة رمزية) أن يلقوا بتهمة قتل البقرة على وولف الذي انتحر كي لا يتعرضوا هم للعقاب.
وبعد قصف ومعركة مع قوات حكومية لا نراها تنتقل المجموعة إلى منطقة غابات وأدغال قريبة، فتستغل الدكتورة ذلك لتحاول الهرب، لكن أفراد المجموعة يتمكنون من أسرها من جديد.
ومع وصول الرسول من جديد تعترف رامبو (تؤدي دورها الممثلة صوفيا بوينا فينتورا) أمامه أن دوغ هو من قتل البقرة وليس وولف وأن بغ فوت على علاقة مع ليدي، ويبلغه “سمارف” بأنه أعلن انفصال المجموعة عن المنظمة والعمل لحسابها الخاص.
ويتمكن “بغ فوت” من قتل الرسول في القارب الذي ينقله به إلى قيادة المنظمة للتحقيق معه، ويعود لقيادة المجموعة لتنفيذ عمليات سلب ونهب في المنطقة.
وتتوالى الأحداث وسط طوفان من الرعب والجنون ومحاولات الهروب، إذ تتمكن الدكتورة من الهروب بعد أن تخنق حارستها وهي تستحم بالسلسة التي كانت تربطها بها، وتحاول رامبو الهرب ويأخذها صاحب قارب غوص كان يبحث عن الذهب في المنطقة معه إلى عائلته لتعيش بأمان مع أطفاله الثلاثة، لكن المجموعة تتعقب أثرها وتقتل الرجل وزوجته وتتمكن رامبو من الهرب بإلقاء نفسها في تيار النهر جارف لتلتقطها لاحقا طائرة مروحية. وينتهي الفيلم بلقطة قريبة جدا لعينيها مغرورقتان بالدموع بينما ملاح الطائرة يتحدث مع القاعدة عن العثور على صبية مجهولة الهوية وسط الأدغال.
معالجة شكلية
وعلى الرغم من نجاح لاندز في تقديم فيلم ثري بصريا وذي بناء درامي مشوق، إلا أن بنائه الفكري ظل مشوشا يحمل الكثير من العمومية وغائما كأجواء الغابات المطيرة التي صورها.
وقد حمل الفيلم خلطة تأثرات من أجواء أفلام ك “القيامة الآن” لفرانسيس فورد كوبولا أو “تعال وأنظر” للمخرج الروسي عليم كليموف و”صائد الغزلان” لمايكل شيمينو بل وحتى مشاهد الغابات في “الدم الأول” وهو الجزء الأول من سلسلة أفلام رامبو التي حملت احدى شخصيات الفيلم اسمه.
ناهيك عن رواية غولدنغ ومحاولات نقلها إلى السينما، والتي قدمت فيها أربع مرات، أولها في فيلم للمخرج السينمائي والمسرحي البريطاني بيتر بروك عام 1963 وفي فيلم لاحق للمخرج هاري هوك عام 1990، فضلا عن فيلم المخرج الفلبيني لوبيتا غونثيو التلفزيوني عام 1976 الذي جعل أبطالها من الصبيان والصبايا ممن يجتمعون في معسكر رياضي (وهذا ما فعله لاندز أيضا)، ثم فيلم المخرجة أماندا كريمر “ليدي وورلد” التي جعلت كل الشخصيات من الفتيات والذي عرض في مهرجان لندن السينمائي العام الماضي.
ولا تصب مثل هذه المقارنة مع عمل الروائي غولدنغ الذي صاغ مثل هذا النهج، أو لنقل “الجنرة” الفنية إذا جاز التعبير، في مصلحة فيلم لاندز الذي يبدو سطحيا إزاء عمق المعالجة التي قدمها غولدنغ وتحليله الفلسفي العميق لفقدان الإنسان لبرائته وإنحداره نحو الفوضى وانفلات دوافع ونزعات الشر في داخله.
فلاندز لا يحاول البحث عن الدوافع النفسية لهذه الشخصيات و تحليلها، وتبدو شخصيات منقطعة الجذور من دون أي علاقة مباشرة مع المجتمع أو توضيح لخلفيات اجتماعية انطلقوا منها.
يصنع لاندز فيلمه من ثلاثة عناصر: بشر وحيوانات وطبيعة في فضاء رؤيوي (قيامي) مروع “ apocalyptic“، ويتركنا نتابع تحولاتهم وفقدانهم البراءة ومحاولتهم التأقلم مع الطبيعة القاسية بشكل مباشر في هذا الفضاء المعقم الخالي من أي تحليل لدوافعهم التي تبدو وكأنها سمات أصلية (جوهرانية) في وجودهم وليس مجرد تحولات يفرضها الواقع الذي يعيشون فيه.
وعند إعادة وضع الفيلم في مسار تاريخ الكفاح من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية في أمريكا اللاتينية التي كثرت فيها الحركات السياسية والجماعات (اليسارية في الغالب) التي لجأت إلى السلاح وحرب العصابات مع الأنظمة التي تعارضها، يبدو العمل حاملا لنزوع دعائي معارض للتراث النظري الواسع لهذه الجماعات، ومقدما صورة كاريكاتيرية مسطحة تمور بالعنف والرعب عنها.
ولا يهتم لاندز كثيرا بتلك الخلاصات الموضوعية في معالجة مضامين فيلمه بل ينصرف كليا إلى معالجة شكلية اتسمت بنزوع سريالي واضح، وبدت مرجعياتها الحقيقية ليس الواقع الخارجي بل الفن السينمائي نفسه في محاولته البناء على استعارات وكنايات من أفلام سابقة كتلك التي أشرنا إليها آنفا، ومحاولة تقديم بناء صوري أكثر إتقانا منها.
ثراء بصري
وكان هذا الثراء البصري، واتقان بناء مشهد سينمائي مؤثر ومتسم بقدرة عالية على شد المشاهد إليه، أبرز عناصر تميز الفيلم، و هو ما نرى أنه سيجعل من لاندز أحد المخرجين اللاتينيين الحرفيين المُجيدين، الذين تسعى هوليود لالتقاطهم، وقد انطلق بعضهم في مقدمة المشهد السينمائي العالمي وقدم بعض أبرز أفلامه في العقدين الأخيرين، كما هي الحال مع أليخاندرو خودوروفسكي وروبرت رودريغز وألفونسو كوارون وإليخاندرو إيناريتو.
اتسمت معالجة لاندز لموضوع فيلمه بنزوع سريالي واضح، وتركيز على العناصر المرئية التي منحت فيلمه ثراءً بصريا كبيرا، ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى مدير تصويره، جاسبر وولف، الذي نجح في خلق سرد بصري باذخ الجمال، مقدما استعارات ومعادلات بصرية للتعبير عن تلك العواطف المضطرمة في الفيلم ومستثمرا جمال المنظر الطبيعي كخلفية مناقضة لفرط العنف الذي يجري وسطه.
لقد حرص وولف على أن يصور فيلمه بعدسة سينما سكوب واسعة ما أضفى على مشاهده طابعا ملحميا وسط تلك الغابات الاستوائية المطيرة أو تلك الجبال الكولومبية العالية فوق وسط الغيوم فوق ارتفاع أكثر من 4000 متر، حيث تبدو خضرة الأشجار ولون السماء وسط الضباب أو الغيوم في كادرات ساحرة.
يقول وولف في مقال كتبه عن طريقة تصويره للفيلم إنه حرص على أن يبرز الطبيعة القاسية التي تجري الأحداث وسطها، بل وحتى التقاط تلك العناصر التجريدية فيها، وأنه والمخرج قررا أن يعاملا مجموعة المجندين في الفيلم كشخصية واحدة لذا اختار أن تكون كاميرا التصوير، كالراوي العليم (في نظرية السرد) تراقب كل شيء ولا تتوقف عند وجودهم الشخصيات الإنساني بل تتعامل معهم وكأنهم أشبه الأرواح الشفافة التي نرى كل شيء عنها حتى وعيها الداخلي ووجهات نظرها، حسب تعبيره.
وكانت الكاميرا تدور في كثير من الأحيان في لقطات طويلة في مدار بيضوي ملتقطة معظم الشخصيات في ذلك المكان المنعزل. وفي أحد المشاهد استغرق طول اللقطة نحو 12 دقيقة، وقد استخدم لاندز حيلة مونتاجية للربط بين لقطتين طويلتين باستخدام ستارة باب الملجأ الذي تنتهي إحدى اللقطتين عنده وتبدأ الأخرى منه.
وقد لجأ وولف لتحقيق ذلك إلى استخدام عدسة من نوع “هوك فانتج وان” والتي يمكنها العمل في مستويات ضوء منخفضة، فأعطته قدرة عالية على تقديم لقطات قريبة ساحرة لوجوه شخصياته بتفاصيل دقيقة لسحنهم وبشرتهم، فضلا عن تمكنه من تقديم مشاهد (بفتح هذه العدسة) بدت أقرب إلى اللوحات الانطباعية بدقة رصدها للتفاصيل الضوء في المشهد الطبيعي.
ويشدد وولف على أن نهجه اعتمد على الحرص على جعل المشاهد يشعر وكأنه يدخل في قلب التجربة الحسية لشخصيات الفيلم بأسلوب أشبه بما نسمية بالواقعية المفرطة في الفن “هايبررياليزم”، فحرص على التقاط أدق التفاصيل في المشهد المصور وأدق الظلال وتنويعات مصادر الضوء فيه.
لقد قدم وولف مشاهد رائعة لذلك اللهو العنيف لشخصيات الفيلم حول النار، التي تبدو كمصدر الضوء الأساسي والذي تتكشف عبره شخصيات الفيلم ووجوهها في لقطات قريبة تكشف عن انفعالاتها أو في أخرى بعيدة تبدو أشكالها فيها عن بعد كالاشباح أو الظلال في حركة مستمرة، وسط مشاهد عاطفية (مشهد ممارسة الجنس بين وولف وليدي، أو رقص المجموعة حول النار، مشاهد العنف واللهو الجنوني وإطلاق الرصاص المتزامن معها”.
وقدم وولف مشاهد ساحرة لغابات كولومبيا المطيرة حيث تتلألأ الخضرة وسط مساقط الضوء تحت قطرات المطر أو وسط الضباب والرطوبة، وبدت أقرب إلى لوحات الفنان الفرنسي هنري روسو الذي لا يخفي وولف ترسم أسلوب لوحاته في بناء مشاهده.
وقد اختار وولف تصوير هذه المشاهد بكاميرا ديجتال صغيرة من نوع “ARRI Alexa” لأسباب لوجستية لسهولة حملها والتنقل بها وسط الغابات الكثيفة والجبال، والذي كان يتم أحيانا على ظهور البغال أو الحمير.
وكان تصوير المشاهد تحت الماء التي برع وولف في تقديمها واحدا من أبرز عناصر التعبير المرئي الجمالي في الفيلم، كما هي الحال مع سباحة الدكتورة مع سلاسلها تحت الماء ومشهد خنقها للحارسة، أو تلك المشاهد التي صورت حركة الشخصيات وسط تيار الماء الجارف لنهر “سمانو نورتيه” وسط تلك الغابات الاستوائية. ويرى وولف أن هذا النهر كان المعلم الأساسي الذي ترسمت كاميرته حركته واندفاعه، فكان القوة الرمزية التي حاول السرد البصري في الفيلم ترسمها، بحسب تعبيره.
وقد حرص وولف على التركيز على التقاط مصادر الضوء الطبيعية باستخدام تقنية تقوم على محاولة تجنب وإبعاد أي ضوء قد يومض بشكل عابر في خلفية الصورة أو يملأ حافاتها. وفي المشاهد الداخلية كمشاهد الملجأ وسجن الدكتورة، حرص على استخدام مصادر ضوء اصطناعية كأضواء النيون الداخلية أو المصابيح اليدوية، أو المصابيح المحمولة على القبعات بل وحتى لهب النار كمصدر أساسي للضوء (كما في المشاهد التي أشرنا إليها سابقا).
ولعلنا نرى أن هذا السرد البصري المميز كان وراء قرار لجنة التحكيم منح الفيلم جائزتها الأساسية، إذ قال رئيس لجنة التحكيم المخرج، واش وسِتمورلاند، في حيثيات منح الجائزة للفيلم إن “مونوس إنجاز سينمائي مدهش، يزاوج بين عناصر بصرية مفعمة بالحيوية وأداء متقن وسرد قصصي رائد. إنه تحفة فنية”.
وقد عزز هذا الفوز بالجائزة رصيد هذا الفيلم المرشح رسميا من كولومبيا للتنافس على جائزة أفضل فيلم عالمي في جوائز الأوسكار في دورتها الثانية والتسعين وكذلك جوائز غويا التي تمنح للأفلام الإسبانية والأمريكية اللاتينية.
وسبق للفيلم أن قطف أيضا جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل فيلم درامي عالمي في مهرجان صندانس السينمائي مطلع هذا العام.
جوائز أخرى
ونوهت لجنة التحكيم أيضا بفيلمي “فتى العسل” للمخرجة الأمريكية الإسرائيلية ألما هارئيل (عرفت سابقا بفيلمها الوثائقي شاطئ بومباي) الذي يتناول حياة النجم الأمريكي شيا لابوف وعلاقته المضطربة مع والده في صباه، وفيلم الرعب البريطاني “سانت مود” للمخرجة روز غلاس.
وقطفت المخرجة السنغالية، ماتي ديوب، جائزة “سذرلاند” التي تمنح للفيلم الأول لمخرجه، عن فيلمها “أتلانتكس”. وسبق للفيلم أن تنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان الدولي هذا العام وكانت مخرجته أول أمرأة سوداء تتنافس على هذا الجائزة القيمة في تاريخها، كما قطف جائزة لجنة التحكيم الكبرى (ثاني أهم جوائز المهرجان بعد السعفة الذهبية). ورشحته السنغال للتنافس على جائزة أفضل فيلم عالمي في جوائز الأوسكار المقبلة.
وكانت جائزة أفضل فيلم وثائقي، (التي تحمل اسم المخرج البريطاني الوثائقي جون غريرسون)، من نصيب فيلم المخرجة ربيكا شاه “شغب أبيض” الذي تناول كيفية مواجهة حركة موسيقى “روك ضد العنصرية” نمو الحركات القومية العنصرية في بريطانيا في أواخر السبعينيات.
ويعد هذا الفيلم توسيعا لفيلم قصير سابق للمخرجة نفسها بإضافة الكثير من المشاهد الأرشيفية والصور الثابتة ومشاهد الرسوم المتحركة عن حركة “روك ضد العنصرية”.