منذ فترة ليست بعيدة، كانت اللوحة التشكيلية رائدة المسرح وسيدة الساحة من دون منازع، وكانت لها السيطرة المطلقة على هذا الفن القديم الجديد، وكانت أيضاً إلى جانب الصورة السينمائية المتحركة، تمثل نوعاً من الاختلاف مرده إلى خصوصية التعبير البصري، فجاءت الصورة الفوتوغرافية التي يمكن أن تنطبق بشكل أو بآخر على اللوحة التشكيلية لتنافس بل لتتفوق عليها، والفضل في ذلك يعود للمصور الذي يرسل أحاسيسه ومشاعره إلى المشاهد المتلقي المعجب بـ”اللقطة” وببراعة المصور الذي يجسّد وسيلة نقل الأحداث، فيحرّك العالم نتيجة لحدث ما قلب الموازين والمقاييس.. والفضل للصورة الفوتوغرافية أو الضوئية.
الصورة “التشكيلية”
لا شك أن الصورة تكون صادقة حين تكون لحظة الالتقاط عفوية لدى المصور، وأيضاً مصطنعة حين تكون لحظة الالتقاط معداً لها مسبقاً، وهنا تبرز مقولة تزوير الحقيقة، لأن الحصول على اللقطة المثالية يتطلب الجهد والمثابرة والعمل الدؤوب، ويحتاج إلى التصويب مرات ومرات من قبل المصور الذي يجرّب لقطات عدة ومتنوعة في الإضاءة وفي زاوية العدسة والخلفية ودرجة التمحيص والوضعية، وفي أحيان كثيرة لا يجد المصور اللقطة التي يريدها في صورة واحدة، وإن عثر على مواصفاتها في سلسلة لقطات متشابهة، ليبقى الكل والأجزاء والعناصر في الصورة هم لغة الخطاب بخصوصيات مميزة، أهمها زاوية النظر والإطار ونوع اللقطة والأشكال والخطوط والحركات، والأجسام والألوان والضوء، والعلاقات بين هذه العناصر كلها، هي التي تحقق عنصر التركيب ووحدة العمل الفني والتوليف، إضافة إلى العين التي هي وسيلة للكتابة، والعدسة التي هي وسيط قارئ ومنفذ، والمصور الذي هو المدبر والعقل والمتخيّل.
هواة الصور
يقول “رولان بارت” أحد أشهر المتخصصين في عالم الصورة واللقطة الفوتوغرافية: لست مصوراً ولا هاوياً، إذ لا صبر لديّ لأكون كذلك، إني أسعى لما أنجزته كاميرتي الفورية، فذلك مسل لكنه مخيّب للآمال أيضاً، ما عدا الحالات التي يتكفل فيها مصور مقتدر بذلك. فكرة الصورة كعلامة مكتملة، ونظير لواقع موضوعها لا يحتاج إلى لفظية توضحه وتسهل إدراكه، فالصورة الفوتوغرافية ترتبط بالنص كشرط ضروري، لتحويل مشهديتها السطحية إلى وحدات للقراءة، والتي تقسم إلى مستويين: المستوى “الدلالي” والذي يرتبط بالوضعية السحرية للصورة، وقدرتها على احتواء الواقع، كما يتجلى للعين.. والمستوى “الإيحائي” والذي يرتبط بنصيتها الفوتوغرافية كشبكة من الشفرات، تنتج معنى حسب القصد الوظيفي والمنظور المحدد.
الصورة هويتنا
كثيرون يعملون في مجال التصوير الضوئي، لكن القليل منهم برز في هذا الفن، فبعدما كانت الصورة الضوئية بعيدة عن دائرة الاستهلاك المادي، لأنها كانت أسيرة الصحف والمجلات في الغالب، أصبحت الآن محطّ أنظار المعجبين بهذا العالم الفريد، عبر المعارض التي تقام في العاصمة بيروت وبقية المدن والمناطق اللبنانية.
المصور الإعلامي علي علوش يؤكد أن قيمة الصورة، تأتي من عوامل عدة، منها طريقة التصوير، وقيمة المكان التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية، وندرة اللقطة المأخوذة فيها، فضلاً عن كمال الجانب التقني دون أن يغيب عن الذهن القيمة المادية لآلات وأجهزة التصوير التي يطرأ عليها تطوير دائم وتحديث سريع كل فترة لا تتعدى السنة الواحدة.
وحول قيمة الصورة في الواقع الحالي، قال المصور علوش: الصورة هي الحياة الدائمة التي تشدّنا إلى الأماكن التي نحبها والتي أصبحت جزءاً من واقعنا وتاريخنا، حيث ننقل الصورة الجمالية المشرّفة إلى الخارج برؤية صحيحة، خلافاً للرؤية التقليدية التي ينظر فيها الغرب إلينا. فالصورة هي هويتنا في نظر المثقف الآخر، وهناك نظرة جديدة للصورة الفوتوغرافية التي أوجدت فنوناً وتاريخاً خاصاً في هذا العالم، الذي أصبح صرحاً ثقافياً له أساليبه ووسائله لدى الناس وأهل الأدب والثقافة.
أهمية عالمية
وعن أهمية اللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية، يشير المصور علوش إلى أنه في الماضي كان تقدير اللوحة التشكيلية أكبر وأكثر طلباً من الصورة، والسبب يعود إلى غياب المجتمع عنها وانعدام العلاقة مع الصورة الفوتوغرافية نظراً لضعف القدرات المهنية فيما مضى، حالياً أصبح الجميع يفضل الصورة التي أخذت تحتل المراتب الأولى في الأحداث العالمية، حتى أنه يمكن القول إن الصورة لعبت دوراً مهماً في إبراز مشاهد معينة، بدّلت في المفاهيم، ويكفي أنها تحفظ ذاكرة المكان الذي تدور فيه وقائع خارجة عن إرادتنا، ومن ناحية أخرى نرى جانباً اجتماعياً لا يمكن إهماله في هذا الموضوع، وهو أن الكثير من المعجبين يفضلون الصورة خصوصاً في الأماكن السياحية والأثرية لأنها تمثل الحس الفعلي، بينما اللوحة التشكيلية تأتي من “الواقع الخيالي” الذي يجسّد الجمود، حيث تعجب فيها لكنها لا تعيش مع المشاعر التي تنتابك مع الصورة الفوتوغرافية.
الصورة ذاكرة للأجيال
يقول علي علوش: الصورة فن شخصي بامتياز، لأن في نهاية كل لقطة، إبداعات لمشروع يميّز مصوراً عن آخر، والمطلوب من المعنيين والقيمين على هذا الفن الجميل، الاهتمام بدعم مشاريع للتصوير، لتوثيق الحياة اللبنانية، عبر تخصيص صالات ومعارض خاصة، لنتاجات المصورين الفوتوغرافيين الذين يجسدون الحياة الحقيقية، لكثير من المحطات التي أصبحت تشكل لوحدها تاريخاً موثقاً ومعبراً، سوف تحفظه الأجيال كذاكرة وأرشيف ننهل منه في كل حين، ما نحتاج إليه من قيم سجلتها لقطة عفوية صادقة، ربطت فيها علاقة حميمية بين الصورة والمصور، حتى كادت هذه اللقطة تعتقل لحظة من الزمان والمكان، بعيداً عن الحقائق المصطنعة.