الفنان التشكيلي محمود الضاهر .. الفن في سوريا لا يلقى اهتماماً إلا في الخطابات الخشبية
في الرابعة من عمره، وتحديداً في الخامس من حزيران عام 1967، نزح الفنان محمود الضاهر من القنيطرة إلى حمص مع عائلته، حاملاً في إحدى يديه لعبة صنعها من الأقمشة القديمة وإحساس الخشب، بينما أمسكت يده الأخرى طرف ثوب والدته وهي تحاول إنقاذ صغارها من حمم النار التي التهمت المدينة ذات نكبة.
من طفولة تجمدت الأجساد فيها دون دراية بما حصل ، وقلوب تقطعت نياطها على أعتاب القنيطرة، كانت سنوات محمود القليلة تمر أمامه وهو في رحلة النزوح، كل شيء مضى كشريط سريع من الحب والحزن والخوف قبل أن يلقيه القدر شريداً بعد حين.
أتقن محمود الرسم حينما كان أقرانه لايستطيعون تدبر قلم الرصاص بين أصابعهم الصغيرة، موقناً أن الرسم خُلق معه كعينه التي أصرت على رؤية الجمال رغم قبح الواقع، وقلبه الذي نبض بالحب رغم وحشية المحيط.
طبع الفنان محمود أولى رسوماته على أوراق المسودة التي وفرها من دفاتره ودفاتر أخوته الخمسة، مصراً على الرسم خلسة على عكس إرادة الأهل الذين لطالما اعتبروا الرسم مضيعة للوقت وليس مهنة يوفر فيها خبز يومه يوماً ما.
درس محمود الضاهر في كلية هندسة البترول وكان اهتمامه ينصب على الفن، فبالرغم من الفجوة الكبيرة بين اختصاصه الدراسي والفن الا أنه أدمن الفن كإدمانه السجائر التي التهمت جزءاً من رئتيه مع مرور الزمن.
وقال الفنان محمود الضاهر لتلفزيون الخبر: “اعتمدت على نفسي في دراسة الفن ليس كدراسة أكاديمية تقليدية، واطلعت على جميع المدارس ونتاجها الفني وأساليب الفنانين في العالم ووجدت نفسي أقرب إلى التعبيرية التجريدية”، وتخلى عن أتباع المدارس الفنية، معتبراً أن “لكل فنان أسلوب وكل أسلوب هو مدرسة بحد ذاته”.
استخدم الضاهر المرأة كموضوع أساسي في اللوحة واعتبرها ايقونة تزين ألوانه وتعبر عن خلجات ذاته، فنحت ريشته نحو الجمال مختاراً أكثره وضوحاً فكانت المرأة، بكل حالاتها النفسية.
وعلل ذلك بأن “المرأة أهم من يمثل الجمال وسط كل هذا اليأس والقبح في الحياة، ورفع من شأنها حد التقديس، معتمداً على الموروث القديم الذي أحاطها بالقدسية والألوهية”.
وبدأ محمود الضاهر مشواره الفني ملتزماً بالفن المؤدلج، مصطفاً حيث اليسار السياسي إلا أنه بدأ يتخلى عن أدلجة الفن وفصل بين الأفكار التي يتمثلها وبين الريشة التي يجب ألا تخضع لنهج سياسي محدد، فالإبداع برأيه يكون حين يكون الفنان ممتلئاً إنسانياً وفكرياً وليس سياسياً ودينياً.
ويحاول محمود الابتعاد عن الشخصيات الرسمية في معارضه قدر الإمكان، موجهاً الاهتمام أكثر نحو جمهور الفن، ويشعر بالفخر أنه طلب من جمعية العاديات ذات يوم أن يكون الأطفال هم من يفتتحون معرضه في مدينة طرطوس.
“وجاء فخره هذا من منطلق أن الطفل يحمل من الجمال والطيبة ما يجعلنا نقف خلفه بجبروت شواربنا”، كما قال في حديثه لتلفزيون الخبر .
وعن فترة الحرب ودور الفن فيها، قال محمود: “في البداية سيطرت علي مشاهد الرعب التي رأيتها بحكم قربي من المشفى الخاص في حي الزهراء”.
وأضاف “شاهدت جثثاً وأعضاء مقطوعة وجرحى، فرسمت بتأثر ما تم تخزينه في الذاكرة لكن بعد زمن تخلصت من الموت الذي رسمته وحاولت أن أرسم الحياة والحب مجدداً”، مردفاً “مايشغلني الآن كفنان أن أسعى لأرمم أرواح أطفالي التي تصدعت في سنوات الحرب”.
ويرى الضاهر أن “المجتمعات عامة تعيش حالة انحطاط ثقافي و اجتماعي نتيجة السعي وراء رأس المال وصناعة الحروب والأسلحة والدمار”.
وتابع “هنا يرتفع شأن الفن الهزيل، الذي يتماشى مع الأعمال التجارية التي تتناسب مع مزاج صاحب رأس المال، والذي يقيم العمل الفني كديكور يتناسب مع لون الكراسي التي يقتنيها أو الستائر التي يعلقها دون النظر إلى المحتوى والفكرة التي ينشدها الفنان”.
وأكمل الضاهر “يوجد متطفلون على الفن تعزز وجودهم بوجود الشللية والترويج الإعلاني لأشياء لاتحمل اي قيمة فكرية”.
وأضاف “الفن في سوريا كسائر بلدان العالم الثالث لا يلق اهتماماً سوى في الخطابات الخشبية، و “البروظة” المسؤولين في الدقائق التي تسبق قص الشريط الحريري للمعارض التي نشارك فيها، فالفنان التشكيلي في بلدنا يضيع بين ألوانه وسبل تأمين اسطوانة الغاز وربطة الخبز”.
الجدير ذكره أن الفنان محمود الضاهر، عضو اتحاد الفنانين التشكيلين وله عشرات الأعمال الفنية، كما شارك في معارض محلية جماعية وفردية، كان أهمها في طرطوس وحمص ودمشق.
وخرجت معظم لوحات الفنان محمود الضاهر من مرسمه المتواضع على سطح المنزل في حي الزهراء بحمص، حيث يتنافس مع حر الطقس وقره لرسم الأفكار وترجمة الأحاسيس، كل على طريقته.
محمد علي الضاهر – تلفزيون الخبر – حمص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بريشة إبداعية استطاع الفنان التشكيلي محمود الضاهر أن يعبر بأعماله الفنية عن المرأة بدلالات ورموز تخص هموم الإنسان وليضفي عليها ذائقة جمالية ومتعة بصرية وعن رحلته في الفن التشكيلي يقول الفنان محمود الضاهر:علاقتي مع الفن بدأت منذ الطفولة كعاشق للرسم ,فقد كانت لي محاولات عديدة في مجال الرسم ، ومع مرور الوقت تطور أدائي وأسلوبي حتى استطعت أن أتقن الرسم بحرفية عالية بطريقة تنم عن امتلاكي للموهبة ووصل حبي للرسم إلى درجة الشغف، وفي المرحلة الثانوية بدأت البحث في الكتب الثقافية الفنية للإطلاع على الفن التشكيلي والمدارس الفنية وكل ما يمت لهذا الفن بصلة لصقل موهبتي وحتى تمكنت من تقنيات المدرسة التعبيرية والتجريدية .
حضور بارز للمرأة
وعن المواضيع التي يتناولها الفنان في لوحاته قال:
دائما ً المرأة حاضرة في لوحاتي وهي الموضوع الرئيسي كعنصر جمالي في الحياة وكتكوين ومن خلال صورة المرأة أجسد هموم الإنسان من وجع وانكسار وحب وجمال .
وأركز في لوحاتي على الشكل الإنساني ، ملامح ضبابية غير واضحة وبحيث تندمج ألوان التكوين مع ألوان خلفية اللوحة لتشكل بعناصرها لوحة خاصة بي .
علاقة روحانية
وعن العلاقة التي تربطه باللوحة أضاف : كلما كانت اللوحة أقرب إلى داخل الإنسان كلما كانت أجمل وأصدق والفنان الحقيقي هو الذي تربطه باللوحة علاقة جدية وروحانية في فهم اللوحة وقوانينها بعيدا ً عن الترويج التجاري .
جزء من المجتمع
وعن دور الفنان بالمجتمع قال: إن الفنان جزء من هذا المجتمع والحرب التي تعرض لها بلدنا تركت الأثر الأكبر فينا وهذا الأمر أحدث في داخل الفنان وروحه انكسارا ً يستطيع أن يعبر عنه من خلال فكرة اللوحة أو الألوان المستخدمة وأنا أرى أنه رغم كل الأزمات التي مررنا بها استطاع الفنان أن يدافع عن وطنه بريشته ويترجم الحقيقة بلوحته ليبرز وحشية الإرهاب وداعميه التي يرتكبها بحق شعبنا فالفنان التشكيلي المبدع هو الذي يعالج قضيته من خلال الرسم ويبتدع أساليب جديدة في الرسم .
الثقافة الفنية
وعن أهمية الثقافة الفنية لدى المتلقي أجاب : تلعب الثقافة الفنية دورا ً هاما ً بالنسبة للمتلقي في طريقة فهم اللوحة ,وتفاعل الجمهور مع اللوحات ليس بسوية واحدة وتختلف حسب درجة ثقافته الفنية وخبرته في هذا المجال وأنا أرى أن زيارة المعارض بكثرة والوقوف أمام الأعمال الفنية والغوص فيها للوصول إلى ما يريد الفنان توصيله إلى الناس هذا الأمر يسهم في رفع الذائقة الجمالية لديه وبلورة الإحساس الفني بداخله
ألوان مؤثرة
وعن الألوان التي يعتمدها الفنان في لوحاته قال: بعض الألوان تؤثر فينا بسبب ارتباطها بمفاهيم معينة فاللون يؤثر على الإنسان وأحاسيسه فهناك لون فرح ولون محزن أو بارد أو دافئ وأنا أستخدم في لوحاتي الألوان الزيتية واستخدم الألوان النارية والدافئة وحاليا ً أعمل على درجات اللون الأزرق وعلاقته مع الألوان الدافئة وأنا أعتبر أن خبرة الفنان تلعب دورا ً هاما ً في طريقة مزج الألوان ومع مرور الوقت أصبح لدي علاقة خاصة مع رائحة اللون وبرأيي أن للون قوانينه حتى تتوازن وتتناغم في اللوحة وكلما طور الفنان نفسه يجد لديه حالة جديدة وتطور جديد في اللوحة ، فالاستمرار بالعمل الفني يؤدي إلى حالة خاصة بالفنان .
أما المعارض التي شارك فيها الفنان فقال: لقد شاركت بالعديد من المعارض الجماعية في مدينة حمص وخارجها ففي عام 2010 أقمت معرضا فرديا ً في صالة الشعب بمركز صبحي شعيب وفي عامي 2013 – 2015 شاركت بمعرضين في محافظة طرطوس ولي أيضا ً مشاركة ضمن مهرجان صدد الثقافي .
تجارب رائعة
ومن الفنانين التشكيليين الذين تأثر بهم اضاف قائلا : هناك تجارب فنية رائعة وقامات مبدعة في الفن التشكيلي نعتز بها ، منهم غسان نعنع ، جبرا علوان ، وعبد القادر عزوز ، رامي داغستاني ومن جيل الشباب أحمد الصوفي .
بحاجة لدعم
وعن رأيه بمعارض الشباب قال :يمتلك الشباب طاقة كبيرة وهناك تجارب فنية تعد بفنانين حقيقيين متألقين وهذه المواهب بحاجة لدعم وتأمين الفرص لتأخذ دورها الفعال
صعوبات
أما عن الصعوبات التي تعترض الفنان التشكيلي قال:
من أهمها عدم توفر الدعم المادي وهذا يؤثر على إنتاجية الفنان
تفاعل بين الفنانين
وعن دور الملتقيات الفنية قال: إن للملتقيات الفنية أهمية كبيرة في حياة الفنان وهذه الظاهرة انتشرت بشكل كبير في عدة مدن سورية لما تساهم من تفاعل بين الفنانين و اطلاعهم على تجارب الآخرين مما يؤدي إلى حالة من تطور في الثقافة الفنية لديهم.. لذلك نأمل أن يتم تفعيل هذه الملتقيات لأهميتها في تعزيز الثقافة الفنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رحيل الفنان التشكيلي محمود الضاهر
لم يستطع الفنان التشكيلي محمود الضاهر (1963-2019) الصمود أكثر في مواجهة مرض السرطان الذي استوطن رئته، برغم أن آخر ما كتبه على جداره الأزرق:
إلهـــي لـــم أعـــد أملـــك
ســوى دمعتيــن وبقايــــا بكـــــاء
فاســندني قليـــلاً في انهيـــاري الأخيـــــر.
لكن محمود هجر في ليلة السبت الماضي ألوانه ومرسمه وما أبدعه من لوحات إلى الأبد. وكان آخر كلام سمعته منه «أنا تعبان يا نضال» عندما هاتفته أستأذنه بعيادته، فقدّرت حالته وتمنيت له أن تخف وطأة المرض عنه.. ولأنك كنت محباً للحياة أعدك أن تظل تلك الجملة يا صديقي في ذاكرتي أغنية محبة ولن أجعلها تحزنني كثيراً، بل سأظل أتذكرها كعنوان لتحدي المرض وما سيواجهني من صعاب، فأنت لم تستلم لواقع الحرب ولم تدخل حظيرة اليأس، بل ظللت في حديقة الفرح تأخذ بأيدينا لمباهج الحياة الممكنة، تُشكلها لنا من خلال ألوان لوحاتك المفعمة بكل ما يجعل الروح تنتشي. فروحك المبدعة يا محمود لم تدع لما شاهدته في سنوات الحرب أن تأخذ طريقها إلى لوحتك، برغم أنك شاهد عشرات الشهداء كيف تمزقت أجسادهم بفعل المعارك مع الإرهابيين، بحكم قرب منزلك من أحد المشافي الخاصة، في حي الزهراء بحمص الذي سقطت فيه عشرات القذائف وانفجرت فيه أكثر من عشر سيارات مفخخة، فتناثرت أجساد الذين استشهدوا من المدنيين، وبرغم ذلك أصررت على بناء لوحتك بالحب والفرح والخصب، في منأى عن الحرب والموت، فكانت المرأة مكوناً رئيساً للوحاتك، تجسدت في حالات حيوية عدة كعنوان لتجدد الحياة، مزدهيةً بألوان تعبّر عن توقك للفرح. ألست من قال في حوار مع الفنانة التشكيلية التونسية سعاد الشهيبي، ذات يوم: «العمل الفني هو نتاج حالة ثقافية وإنسانية ومخزون روحي، ولا يمكن الفصل بين الفنان ولوحته، اللوحة هي الفنان والفنان هو لوحته، لا يمكن أن أرسم من دون حب، الحب هو أعلى الحالات إنسانية، ولا يمكن أن يمزج الفنان لوناً من دون حب» لكن رحيلك يا صديقي مزجنا بلون الألم، فلروحك السكينة ولنا ذكراك وأن نراك فيما أبدعت من لوحات مزدانة بنساء يجسدن الحب بكل أطيافه ومزدهيات بما يليق بهن من بهجة وألوان.