- ألفت كتابا “الجبر” وكان عمرها 16 عاما وطبع منه أبوها 300 نسخة.. وزعتها على طلاب المدرسة مجانا
- أنجزت الدكتوراه في لندن خلال عام و5 أشهر.. ونظر لها الأكاديميون الإنجليز باعتبارها “معجزة علمية”
- أول من فكر في تسخير الفيزياء النووية طبيا.. وكانت تتمنى أن يكون علاج السرطان بالذرة مثل “الأسبرين”
- أكاديمي بريطاني: تجارب سميرة موسى قد تغير وجه الإنسانية لو أنها وجدت المعونة المالية والعلمية الكافية
- تلقت عروضاً لمنحها الجنسية الأمريكية أثناء دراستها هناك لكنها رفضت وتمسكت بهويتها العربية الإسلامية
- لقيت مصرعها في الولايات المتحدة على احدى طرق كاليفورنيا الوعرة في حادث سير غامض
- حفيدة الممثلة اليهودية راقية إبراهيم: جدتي ساهمت في اغتيال موسى من أجل “مصلحة إسرائيل العليا”
الدكتورة سميرة موسى هي أول عالمة ذرة في العالم العربي والشرق الأوسط، وهي “الآنسة النابغة” التي أدركت مبكرا أهمية أن تمتلك الدول العربية السلاح النووي، فكانت نهايتها هي الموت في حادث سير غامض بالولايات المتحدة، عليه آثار جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد” الذي استطاع أن يغتال “الحلم النووي” العربي في مهده.
وكانت موسى، أيضا، أول من فكر في تسخير الفيزياء النووية طبيا، وكانت تتمنى أن يكون علاج السرطان بالذرة مثل “الأسبرين”، لكنها عادت إلى مصر جثة في “تابوت”.
وُلدت سميرة موسى علي أبو سويلم، وهذا هو اسمها كاملا، في 3 مارس 1917 بقرية “سنبو الكبرى” في محافظة الغربية بدلتا مصر، لأسرة عريقة وكبيرة العدد، وكانت الابنة الرابعة لوالدها الذي عزم على ألا يفرق في التعليم بين بناته السبع وأبنائه الذكور الذين رزق بهم بعد ذلك. وتعلمت القراءة والكتابة قبل بلوغها سن الدراسة النظامية، وأتمت حفظ القرآن الكريم في “كُتّاب القرية”، وهو بمثابة مدرسة أهلية صغيرة كانت منتشرة في البلاد حتى أواخر القرن الماضي، وأبدت “سميرة” ذكاء فطريا غير عادي منذ صغرها، وكانت شغوفة بقراءة الصحف وتتمتع بذاكرة وُصفت بأنها “فوتوغرافية” مكنّتها من حفظ أي شيء بمجرد قراءته.
النابغة الصغيرة
لمس والد “سميرة” فيها نبوغا مبكرا، فانتقل بها إلى القاهرة، من أجل تعليمها تعليما عاليا، واشترى فندقا صغيرا في حي “الحسين” استثمر فيه أمواله، وألحق ابنته بمدرسة “قصر الشوق الابتدائية”، ثم بمدرسة “بنات الأشراف الثانوية الخاصة” والتي كانت تديرها السيدة نبوية موسي الناشطة النسائية المعروفة.
وحصدت “سميرة” الجوائز الأولى في جميع مراحل تعليمها، فقد كانت الأولي علي شهادة “التوجيهية” -أي الثانوية- عام 1935، ولم يكن فوز الفتيات بهذا المركز مألوفا في ذلك الوقت، حيث لم يكن مسموحا لهن بدخول امتحانات التوجيهية إلا “من المنازل”، حتي تغير هذا الوضع فيما بعد.
وكان لتفوق “سميرة” أثر كبير علي مدرستها، إذ كانت الحكومة تقدم معونة مالية للمدرسة التي يتخرج فيها الأوائل، وهو ما دفع نبوية موسى، ناظرة المدرسة، إلى شراء معمل كيماوي حينما سمعت أن النابغة الصغيرة “سميرة” تنوي الانتقال إلى مدرسة حكومية يتوفر بها معمل.
وبلغ من فرط نبوغها أنها ألفت عام 1933 كتابا في مادة “الجبر” المقررة في المدارس الحكومية على طلاب السنة الأولى “الثانوية”، وكان عمرها 16 عاما، سمته “الجبر الحديث” وأهدته إلى “أستاذها الفاضل محمد أفندي حلمي”، وطبع منه أبوها 300 نسخة على نفقته الخاصة، ووزعته بالمجان علي زميلاتها في المدرسة.
وبعد أن أنهت دراستها الثانوية بتفوق، اختارت سميرة موسى كلية “العلوم” جامعة القاهرة “فؤاد الأول آنذاك”، رغم أن مجموعها كان يؤهلها للالتحاق بـ”الهندسة”، وكانت أمنية أي فتاة في ذلك الوقت هي الدراسة بكلية الآداب باعتبار أنها كلية “نظرية” تتناسب مع طبيعة الفتيات.
وكانت مولعة بالقراءة، وحرصت على تكوين مكتبة كبيرة متنوعة من كتب الأدب والتاريخ وخاصة كتب السير الذاتية للشخصيات القيادية المتميزة، كما أجادت استخدام النوتة الموسيقية وفن العزف على العود، كما عشقت التصوير الفوتوغرافي وخصصت حجرة في بيتها لتحميض وطبع الصور، وكانت تحب التريكو والحياكة وتقوم بتصميم وحياكة ملابسها بنفسها.
وأثناء دراستها في كلية “العلوم”، لفتت نظر أستاذها الدكتور علي مصطفى مشرفة، عالم الفيزياء النووية الشهير، وأول مصري يتولى عمادة كلية العلوم، الذي تأثرت به كثيرا كإنسانة وعالمة.
حصلت موسى على “بكالوريوس العلوم”، وكانت الأولى على دفعتها، ثم عُينت في هيئة التدريس بالكلية بفضل جهود “مشرفة” الذي دافع عن تعيينها بشدة وتجاهل احتجاجات الأساتذة الأجانب في الكلية، ثم حصلت على درجة الماجستير في موضوع “التواصل الحراري للغازات” من جامعة القاهرة، وسافرت بعد ذلك في بعثة دراسية إلى بريطانيا، حيث درست في الإشعاع النووي في جامعة لندن، وحصلت على درجة الدكتوراه في الأشعة السينية وتأثيرها علي المواد المختلف، وأنجزت الرسالة في خلال عام و5 أشهر فقط، ونظر إليها الأكاديميون الإنجليز في لندن باعتبارها “معجزة علمية”.
وكتب أكاديمي بريطاني في جامعة “بدفورد” في تقريره العلمي الذي أرسله إلى جامعة القاهرة، قائلا إن “تجارب سميرة موسى قد تغير وجه الإنسانية لو أنها وجدت المعونة المالية والعلمية الكافية”.
ولكن سميرة موسى لم تنتظر المعونة الكافية بل راحت تقدم خبرتها وعلمها لمساعدة مرضى السرطان في مستشفى قصر العيني. وكثيرا ما كان أهل المرضى يظنون أنها ممرضة.. ولم يكن ذلك يضايقها.. فهي تريد أن ولم تتوقف سميرة موسى عند حجة نقص الإمكانيات وطلبت الأب بأن يبني لها معملا.. وبالفعل اشترى الأب فدانا من الأرض على طريق الهرم لبناء المعمل.. لكن القدر وأنصار الظلام لم يمهلوها الوقت الكافي لدخوله..
“الذرة” من أجل الإنسانية
كانت موسى، التي درجت على المشاعر الوطنية القومية منذ صغرها، تأمل أن يكون لمصر والوطن العربي مكان وسط هذا التقدم العلمي الكبير في المجال النووي، حيث كانت تؤمن بأن أي دولة تتبني فكرة السلام لا بد وأن تتحدث من “موقف قوة”، فقد عاصرت ويلات الحرب وشاهدت تأثير القنبلة الذرية الأمريكية التي دكت مدينتي “هيروشيما وناجازاكي” في اليابان عام 1945، وأسهمت في إنهاء الحرب العالمية الثانية، كما لفت انتباهها اهتمام إسرائيل المبكر من بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ودعت مرارا إلى أهمية تسليح العرب نوويا، ومجاراة هذا “المد العلمي المتنامي”.
ونظمت العالمة النووية بعد عودتها إلى مصر مؤتمرا تحت عنوان “الذرة من أجل السلام”، استضافته كلية العلوم وشارك فيه عدد كبير من علماء العالم، وكانت تأمل في تسخير القوة الذرية لخير الإنسانية، وكانت أول من فكر في إدخال الفيزياء النووية إلى العلاج الطبي، حيث كانت تقول: “أمنيتي أن يكون علاج السرطان بالذرة مثل الأسبرين”.
وتأثرت موسى بإسهامات العلماء المسلمين الأوائل، ولها مقال منشور عن عالم الجبر الشهير “الخوارزمي” ودوره في إنشاء هذا العلم، كما أن لها مقالات أخرى من بينها مقالة مبسطة عن الطاقة الذرية وأثرها وطرق الوقاية منها، شرحت فيها ماهي الذرة من حيث تاريخها وبنائها، وتحدثت عن “الانشطار النووي” وآثاره المدمرة وخواص الأشعة وتأثيرها البيولوجي.
وأوضحت موسى جانبا من فكرها العلمي في مقال بعنوان “ما ينبغي علينا نحو العلم”، حثت فيه الحكومات على أن تفرد للعلم المكان الأول في المجتمع، وأن تهتم بترقية الصناعات وزيادة الإنتاج والحرص على تيسير المواصلات، كما دعت في المقال إلى التعاون العلمي العالي على أوسع نطاق.
الموت في أمريكا
تلقت موسى عام 1952، دعوة للسفر إلى أمريكا، حيث أتيحت لها فرصة استكمال دراستها في المجال النووي، وإجراء بحوث في معامل جامعة “سانت لويس” بولاية ميسوري، وتلقت هناك عروضاً للبقاء في الولايات المتحدة بشكل دائم، مع منحها الجنسية الأمريكية التي كانت حتى في ذلك الحين أملا كبيرا لمعظم الناس من مواطني الدول الفقيرة، لكنها رفضت هذه العروض وتمسكت بهويتها العربية الإسلامية.
ولم تنبهر موسى ببريق أمريكا، فقد قالت في خطاب إلى والدها من الولايات المتحدة: “ليس هناك في أمريكا عادات وتقاليد كتلك التي نعرفها في مصر، إنهم يبدأون كل شيء بشكل ارتجالي، فالأمريكان خليط من مختلف الشعوب، والكثيرون منهم جاءوا إلى هنا وهم لا يملكون شيئاً على الإطلاق، فكانت تصرفاتهم في الغالب همجية”.
في آخر رسالة لها إلى والدها كتبت تقول: “لقد استطعت أن أزور المعامل الذرية في أمريكا، وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان وسأسعى جاهدة لأن أخدم قضية السلام العالمي”.
وقبل عودتها إلى وطنها بأيام، استجابت لدعوة لزيارة المعامل النووية في ضواحي كاليفورنيا في 15 أغسطس، وعلى طريق كاليفورنيا الوعر ذي المرتفعات ظهرت سيارة نقل بشكل مفاجئ؛ لتصطدم بسيارتها اصطدما عنيفا وتلقي بها في وادي عميق، وقفز سائق السيارة الهندي، الذي كان زميلها في الجامعة، ثم اختفى إلى الأبد ولم يُعثر له على أثر، وأظهرت التحقيقات أن السائق كان يحمل اسمًا مستعارا، وقيدت الشرطة الأمريكية الحادث “ضد مجهول”.
وعادت سميرة موسى إلى بلادها جثة هامدة في تابوت، ونشرت صحيفة “المصري” في عددها الصادر يوم 19 أغسطس عام 1952، خبرا بعنوان “وفاة الدكتورة سميرة موسى.. مسز كوري الشرق”، ذكرت فيه تفاصيل حادث السير دون تعليق.
وصرح المتحدث باسم السفارة المصرية في واشنطن وقتها، للصحف بأن “الآنسة سميرة موسى الطالبة المصرية التي تتلقى العلم في الولايات المتحدة قُتلت في حادث سيارة بعد أن أتمت دراستها بولاية تنيسي الأمريكية”.
وفي 25 أغسطس من نفس العام، سُلّمت إلى والدها المكلوم نوتة سوداء صغيرة كانت تسجل فيها خواطرها وكانت آخر ما خطته فيها عبارة أدبية تقول فيها “ثم غربت الشمس”. (4)
وأشارت إصبع الاتهام، فيما بعد، إلى أن الحادث من تدبير جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد”، الذي نجح في تجنيد هذه الشخص الهندي من أجل اغتيال هذه العالمة العربية خشية أن تتوصل حال عودتها إلى مصر من تصنيع القنبلة النووية.
واعترفت الإسرائيلية ريتا ديفيد توماس حفيدة الممثلة راشيل إبراهام ليفي التي عُرفت باسم “راقية إبراهيم”، بأن جدتها تعاونت مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد» لاغتيال سميرة موسى من أجل “مصلحة إسرائيل العليا”.
ومن المؤكد أن سميرة موسى كانت أول الضحايا في مسلسل دموي شرس، راح ضحيته 146 عالم ذرة من دول العالم الثالث، وعلى رأسها الهند وباكستان وجنوب أفريقيا ومصر، خلال الفترة من عام 1959 إلى عام 1985. والغريب أن 92% من هؤلاء الضحايا تلقوا عروضا للعمل في دول أكثر تقدما في مجال البحث العلمي من بلادهم ولكنهم رفضوا هذه العروض لدوافع وطنية، فكان الموت اغتيالا هو مصيرهم، بلا شفقة أو رحمة.