الواقعية المفرطة.. هل هي مدرسة فنية حقيقية؟
غالبا ما ننظر إلى الفن على أنه محاولة للانفصال عن الواقع، وهو مفتاح الوصول إلى بعض المعاني الخفيّة التي تحيط بنا في العالم. لكن الأمر يختلف في حالة مدرسة الواقعية المفرطة، التي تعتبر فرعا من فروع المدرسة الواقعية القديمة، ويعمل فنانوها على إنتاج لوحات فنية تشبه الواقع تماما حتى لا تتمكن العين البشرية من التمييز بين اللوحة الأصلية والصورة الفوتوغرافية.
في أواخر الستينيات في الولايات المتحدة طوّر الفنانون الواقعية في محاولات لتجاوز الواقع نفسه، وهنا ظهر تساؤل: إلى أي مدى ذهبت الواقعية؟ هل انحرفت عن الخط الفني حيث أصبح عمل الفنانين مجرد مثال على المهارة والحرفية، أم طمسوا فعلا الخطوط الفاصلة بين الواقع والفن، مما أتاح المجال لتعبير فني جديد؟
بداية الواقعية المفرطة
يرجع أصل مصطلح “الواقعية المفرطة” (Hypperealism) إلى الكلمة الفرنسية (Hyperréalisme) التي استخدمت كعنوان لكتالوغ معرض ببروكسل يضم عددا كبيرا من مصوري الواقعية أمثال تشاك كلوز، وروبرت بيكتل، ورالف غوينغز، ودون إدي. منذ هذا الحدث تم استخدام المصطلح لتوصيف الرسامين المتأثرين بالواقعية، لكن يجب الإشارة إلى أن الواقعية المفرطة ترتبط أيضا بتطور التصوير الفوتوغرافي، حيث سعى المصورون الواقعيون في الستينيات والسبعينيات إلى تخليد الصورة الفوتوغرافية من خلال التقاط أدق التفاصيل في لوحاتهم ورسومهم.
بدأت الحركة الواقعية في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، حيث رفض رسامو ذلك الوقت الأسلوب الرومانسي السائد، لصالح اللوحات التي تصور واقع الحياة اليومية، وكانت هذه اللوحات التي تبدو عادية اليوم ثورية في ذلك الوقت، حيث اعتادت الأعمال الفرنسية على تصوير الأساطير القديمة واللوحات الدينية.
بدأ رواد الواقعية مثل غوستاف كوربيه وجان فرنسوا ميلت وجان باتيست كاميل في رسم أشخاص عاديين يقومون بأنشطة يومية في محيط عادي. واحدة من أشهر اللوحات الواقعية الفرنسية هي لوحة حاصدات القمح لكوربيه، التي تصور ثلاث فلاحات يجمعن بقايا الحبوب من حقل القمح بعد الحصاد. مثلت تلك اللوحة الطبقة العاملة بشكل لم يكن معتادا، لكن اللوحة لم تلق تجاوبا جيدا في ذلك الوقت.
بدأت حركات فنية موازية في الظهور في بلدان أوروبية أخرى على يد فنانين، مثل هوبرت فون ولوك فيلدز في بريطانيا، صوروا لوحات تبرز القضايا الاجتماعية القاسية واللحظات التعيسة بألوان ترابية وأجواء مظلمة مثل لوحة الأرمل للوك فيلدز.
التصوير الفوتوغرافي والواقعية المفرطة
بدأ التصوير الفوتوغرافي في عام 1839 في الظهور والتأثير على الواقعية الفنية، وشعر بعض الفنانين بالرغبة في التنافس مع الوسيط الجديد لإنتاج صورة واقعية تماما، وبينما كان فنانو البوب أرت يشيرون إلى عبثيىة الصورة التجارية، حاول مصورو الفوتوغرافيا استعادة قيمة الصورة والاحتفاء بها.
تضمن الجيل الأول من الرسامين الواقعيين الأميركيين فنانين مثل جون بيدر ورالف غوينغز وتشاك كلوز، الذين كانت مشاهدهم تصور الطبيعة والواقع والصور الشخصية، كما صورت أودري فلاك الأدوات المنزلية وأدوات التجميل وزجاجات العطور، وتتضمن لوحاتها عمقا كبيرا مع انعكاسات للفلاش وتأثيرات الفوتوغرافيا المختلفة.
على الرغم من المهارة الواضحة التي يتطلبها تقليد الصورة الفوتوغرافية، فإن فناني الواقعية المفرطة قوبلوا بانتقادات شديدة من مؤرخي الفن الذين اعتبروا اعتمادهم على الصورة الفوتوغرافية نوعا من أنواع الغش.
أفكار الواقعية المفرطة وأبرز فنانيها
حاول فنانو الواقعية المفرطة خلق واقع جديد بتفاصيل غير موجودة في الصورة الأصلية، وبدؤوا في رسم القوام والملامس والأسطح، وتأثيرات الإضاءة والظلال، مما أدى إلى ظهور فن أقرب للفن ثلاثي الأبعاد، بالإضافة إلى دمج أعمالهم مع مجموعة كبيرة من الأفكار السياسية والثقافية والاجتماعية، والواقع الإنساني المؤلم، مثل منحوتات الأسترالي رون موك الذي ينحت أعمالا شديدة الواقعية بحجم أكبر من الطبيعي للبشر، وغالبا ما تكون شخصياته عارية أو في حالة من عدم الوعي الذي يثير شعورا غير مستقر لدى المتفرج.
من أبرز فناني الواقعية المفرطة أيضا الفنان الهولندي تجالف سبارناي الذي عرضت لوحاته الشهيرة عن الطعام في جميع أنحاء العالم، وجزء من أفكاره هو خلق لوحات أكبر بكثير من الحجم الطبيعي للشيء نفسه، والكثير من لوحاته تعرض في نيويورك ولندن وهولندا.
الفنان الألماني ديرك دزيميرسكي هو فنان مشهور برسم البشر في لوحات كئيبة إلى حد كبير وتهدف إلى التقاط أشكال البشر بعد الوفاة. يرتكز دزيميرسكي في رسومه على الصور. قد تستغرق بعض اللوحات ما يقرب من العام حتى تكتمل، وهو يعتمد في رسومه على الممحاة والفحم الأبيض، لقدرتهما على التحكم في تصوير الضوء داخل الصورة.
الفنان الأميركي غريغوري تيلكر يحاول من خلال لوحاته تسليط الضوء على الطريقة التي نرى بها العالم بطريقة تساعد المشاهد على إعادة اكتشاف الأشياء العادية من حوله. يلعب تيلكر على الفجوة الواقعة بين التصور الشخصي للمشهد والواقع الفعلي له، ليعيد تكوين الرؤى والمشاهد الغامضة التي نراها جميعا بعد تساقط الأمطار على زجاج النوافذ والسيارات بشكل مادي لكنه في الوقت نفسه عاطفي أقرب للأحلام.
الفنان الصيني لينغ جون يعتبر حاليا صاحب اللوحات الأكثر واقعية في العالم، حيث يقدم الملامس الخاصة بألياف الملابس والشعر والجلد بشكل أقرب إلى الكمال. رغم الانتقادات التي توجه إليه بأن لوحاته تشبه إلى حد كبير الصور الفوتوغرافية، فإنه يؤكد أن أي شخص يشاهد لوحاته لن ينخدع فيها، وهو لا ينوي ولا يرغب في التنافس مع الصور الفوتوغرافية، لكنه يرغب في دفع فنه إلى أقصى حدود الواقعية من خلال القدرة على الموازنة بين المهارات الفنية والقدرة على تجسيد المشاعر في لوحاته.
المصدر : الجزيرة