كان محمود درويش – وسيظل شعره من بعده -، مثل العربي القديم، يطوف بالليل باحثًا عن ضيف يكرمه، أو غريب يؤيه، أو شهيد يخلده، أو طفل عربي يربي فيه الأمل، وأمة طال رقادها، يبعث فيها الحياة.
نقف في هذا المقال قليلاً أمام محمود درويش: الإنسان والشاعر – وخصوصا أمام قصيدته التي أنكرها دومًا “خطب الديكتاتور الموزونة” -.
حين انتصر جيش حديث على طفولة بريئة
يشرح محمود درويش، مأساة أبناء فلسطين مع الاحتلال الاستيطاني الغادر في فلسطين فيقول عن لحظة تهجيرهم من فلسطين: “كنت في السادسة من عمري، حين خرجت إلى ما لا أعرف، حين انتصر جيش حديث على طفولة لم يكن يأتيها من جهة الغرب إلا رائحة البحر المالحة، وغروب شمس الذهب على حقول القمح والذرة، ابن السادسة لم يكن في حاجة إلى من يؤرخ له، ليعرف طريق المصائر الغامضة التي يفتحها هذا الليل الواسع الممتد من قرية على أحد تلال الجليل، كان شعب بأسره يقتلع من خبزه الساخن، ومن حاضره الطازج ليزج به في ماض قادم.
ما اللاجئ يا أبي؟
عندما لجأ الفلسطينيون إلى لبنان، يتذكر محمود درويش الأمر، ويقول “في جنوب لبنان، نصبت خيام سريعة العطب لنا، ومنذ الآن ستتغير أسماؤنا، منذ الآن سنصير شيئًا واحدًا، بلا فروق، منذ الآن، سندمغ بختم جمركي واحد: لاجئون:.
سأل درويش أباه: ما اللاجئ يا أبي؟
فأجابه: لا شيء، لا شيء، لن تفهم.
سأل جده: ما اللاجئ يا جدي؟ أريد أن أفهم.
فأجابه: ألا تكون طفلًا منذ الآن.
ما الشعر؟
يرى محمود درويش أن الشعر، ليس إلا التعبير عن:
حنين الغريب وراء الأسلاك الشائكة
إلى حبة تراب من أرضه المسلوبة
الشهداء الذين يسقطون على الطرقات البعيدة كالذباب
الأبرياء الذين يقتلون ولا ذنب لهم إلا أنهم بقية شعب مشرّد
الأطفال الذين ينظرون إلى الغد بلا عيون ويبكون بلا آباء وأمهات
والشيوخ الذين زرعوا ولم يأكل أحفادهم
والأرض التي يحرّم عبيرها على فلاحها
والكوفية البيضاء أروع ما خلّفه لنا التاريخ في متاحفه، الكوفية التي تهان
والشعور بالغربة والعزلة في أرض الوطن
والبيوت التي أصبحت أطلالًا ترتمي في جنباتها قطع صغيرة من خوابي عتيقة
خطب الديكتاتور الموزونة
تصادف اليوم – أيضًا – ذكرى مرور ثلاثين عامًا على كتابة قصيدته “خطب الديكتاتور الموزونة”، وكان قد نشرها في مجلّة “اليوم السابع” التي كانت تصدر في باريس.
وأتذكر تمامًا، منذ أكثر من تسعة عشر عامًا، وتحديدًا في عام 1997، كيف وقعت عيناي على هذه القصيدة، في مجلة أدب ونقد المصرية (عدد مايو 1997م)، الذي مازلت احتفظ به، وأرجع إليه دائمًا، ومن ساعتها لم تفارق أشعار محمود درويش قلبي وعقلي خاصة عندما يتحفنا الديكتاتور العربي بعبقرياته التي لا تنتهي، وبهداياه التي تنهال خرابًا على رؤسنا، ومنحه التي تقلب حياتنا رأسًا على عقب.
كانت خطب الديكتاتور الموزونة، تسلية ليالينا الطويلة التي لا تمر في الزمن غير المبارك، نقرأها ونضحك – وإن شئنا الحقيقة نبكي – على ما نحن فيه من مآس نعانيها، من ديكتاتورنا الغبي وصبيانه المعتقين الذين لا يموتون، وابنه فلتة زمانه الذي يعده ليكون ديكتاتورًا صغيرًا علينا من بعد غيابه، فالديكتاتور لا يموت – لاسمح الله -.
وعن جنة الديكتاتور التي تعيش فيها الجماهير العربية كتب درويش يقول:
سأبني لكم جنة فوق أرضي
كلوا ما تشاءون من طيباتي
ولا تسمعوا ما يقول ملوك الطوائف عني
ولا تدخلوا السياسة إلا إذا صدر الأمر عني، لأن السياسة سجني
وها هو الدكتاتور يشرح لنا كيف يعاني وحده من أجلنا، نحن الشعب، الكسالى، فيقول
وحيد أنا، أيها الشعب، أعمل وحدي
ووحدي أسن القوانين
وحدي أحول مجرى النهر
أفكر وحدي… أقرر وحدي
وها هو يقرر أن السلام هو مفتاح الرخاء، فيقول مخاطبا شعبه العربي:
وبعد التأمل في وضعنا الداخلي وبعد الصلاة على خاتم الأنبياء، وبعد الصلاة علي
وجدت أن المدافع أكثر من عدد الجند في دولتي
وجدت الجنود يزيدون عما تبقى لنا من حبوب
لهذا، سأطلب من شعبي الحر أن يتكيف فورًا
وأن يتصرف خير التصرف مع خطتي:
سأجنح للسلم إن جنحوا للحروب
سأجنح للغرب إن جنحوا للغروب
سأجنح للسلم مهما بنوا من حصون، ومهما أقاموا على أرضنا، ليعيش السلام
يأيها الشعب، آن لنا أن نصحح تاريخنا
كي نضاهي الحضارات قولاً وفعلاً
وآن لنا أن نلقن أعداءنا السلم، درسًا وحلًا
سنسقط عنهم جميع الذرائع، كي لا يفروا من السلم
ماذا يريدون؟
يريدون كل فلسطين؟ أهلًا وسهلًا
يريدون أطراف سيناء؟ أهلًا وسهلًا
يريدون رأس أبي الهول – هذا المراوغ في الوقت -؟ أهلًا وسهلًا
يريدون مرتفعات الهجوم على الشام؟ أهلًا وسهلًا
يريدون أنهار لبنان؟ أهلًا وسهلًا
سأعطيهم ما يشاءون منا وما لا يشاءون… كي آخذ السلم
والسلم أقوى من الأرض، أقوى وأغلى
فهم بخلاء لئام
ونحن كرام كرام
وعاش السلام
وليس السلام مع الآخرين سلامًا مع الغاضبين هنا، هكذا يؤكد ديكاتورنا العادل قائلًا:
فليس السلام مع الآخرين هناك
سلامًا مع الرافضين هنا
هنا طاعة وانسجام
ليحيا السلام
نربي الأمل
عاش محمود درويش، يربي الأمل في غد أفضل، لأهلنا في فلسطين، ولكل المتعبين في بلاد العربان، بل للإنسانية كلها، التي تعبت من الحروب والظلم، وها هو يقول في أبيات من أروع ما كتب:
هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ
وما يفعل العاطلون عن العمل: نُرَبِّي الأملْ.
مازال يثير غضب إسرائيل
ومازال، محمود درويش، يقض مضاجع الاحتلال الفاجر، حتى بعد موته، فقد ذكرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية وجود حالة غضب بين اليمين في إسرائيل، بسبب بث قصيدته “بطاقة هوية” في فقرة تعليمية، عبر إذاعة الجيش الإسرائيلي، ووجه وزير الدفاع الإسرائيلي اليميني أفيغدور ليبرمان انتقادًا لأعماله مشبهًا إياها بكتاب “كفاحي” لهتلر، واستدعى ليبرمان رئيس الإذاعة لتوبيخه بسب ذلك، لكن، سيظل شعر محمود درويش، يذكرهم بأن الفلسطينيين عرب، وأنهم سيظلوا موجودين على هذه الأرض حتى تدور دورتها وتعود الحقوق للمظلومين، وها هو مقطع من هذه القصيدة الرائعة:
سجل أنا عربي
سلبت كروم أجدادي وأرضًا كنت أفلحها أنا وجميع أولادي
ولم تترك لنا ولكل أحفادي سوى هذي الصخور، فهل ستأخذها حكومتكم كما قيلا؟
إذن: سجل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد
ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي
حذار حذار من جوعي ومن غضبي
حين ترجل الفارس أخيرًا
في يوم السبت 9 أغسطس 2008، انتقل محمود درويش إلى جوار ربه، تاركًا وراءه قصيدته التي لم يرد لها أن تنتهي، تركها كلمة تدل على الدرب، وترسم الدرب، ونملك بها عنان الغد الذي يحلم به كل إنسان، وكل عربي وفلسطيني: الحرية والحياة الكريمة.
لقد أعطانا محمود درويش أشعاره، تصحبنا في مسيرنا في ليل الاستبداد والاستعمار حتى يطلع نهار الأمة، ابحث ما شئت في أشعار محمود درويش، ستجد الإنسان بكل مشاعره، وستجد العربي الحزين بكل مآسيه وآماله، وستجد الدرويش والمغامر والمبدع، والشهيد والعامل والفلاح والشيخ الفاني، والشاب الشغوف بالحياة، والطفلة الرقيقة التي تحمل بذرة الحياة، ستجدهم كلهم هناك في قصائده يحيون.
لقد فتح درويش بشعره، بابًا للأمل، لا يمكن لمستعمر غاشم ولا لمستبد جاهل أن يغلقه، ولن يصدأ معدن شعره مع الزمن، فما زال هو المرجعية الأجمل لأجيال من الباحثين عن شعرية النثر، ومازلنا نقرأه بشغف، لأنه شاعر حي، لأن نصه حي، كما وصف هو يومًا شعر محمد الماغوط.
سيظل محمود درويش حيًا في قلوبنا، وشعره حيًا في واقعنا، لأنه شاعر حقيقي ومختلف، لأنه ابن الحياة الحر، المدافع عن جمال الوردة العفوي، كما وصف هو ممدوح عدوان عند وفاته.
يا ابن فلسطين، يا شاعر الإنسانية، سيظل شعرك من بعدك يسخر “ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا”، ستظل العروبة في شعرك فعل مضارع مستمر، والإنسانية مستقبل تام، والاستبداد فعل ناقص، الاستعمار عار مستمر على كل من يتولونه ويساندونه.
أيها الدرويش الشاعر: سلام لك، سلام عليك، سلام سلام، حتى يعم السلام بلاد السلام.