مع الحمامة (1)
الحمام الأزرق
وهذه الصداقة – كما تعلمون – متأصِّلة بينهم منذ قديم الزمان، والأدلة والدلالات تثبت وتسند هذه الصداقة والمحبة، وتربط بداياتها بتلك المهمَّة الناجحة التي قامتْ بها في التاريخ القديم؛ أي: في النشأة الثانية للحياة على وجْه الأرض، ونتائجها المفرحة التي أتتْ بها الحمامة الطيبة الصادقة لأهل السفينة، بعد أن رجعتْ بغُصن الزيتون، والتي تعد ثاني مهمة لمخلوقٍ خارج الفلك المشحون.
وبقيت الحمامة تخدم الإنسان من بعد نوح – عليه السلام – بكل جدٍّ وإخلاص، يؤيِّد هذا ما ورد في كتب التاريخ: أن الحمام كان يحمل الرسائل لقدماء المصريين والفرس (الإيرانيين حاليًّا) منذ 3000 عام، وفي اليونان كان الحمام يحمل أخبار انتصارات الألعاب الأوليمبية، التي لَم يشاركْ فيها لا العرب العاربة، ولا العرب المستعربة وقتها، وتمتْ مشاركة العرب المتأخِّرة فيها بدون إحراز نتائج تُذكَر!
كما استخدم الرومان الحمام لإرسال الرسائل العسكرية، وقد استخدم الفرنسيون الحمام الزاجل في الحرب الفرنسية البروسية، كما قام الألمان بتدريب الصقور كسلاحٍ مضاد لاعتراضها والإمساك بها، كما نراه اليوم في صواريخ باتريوت، التي تعترض الصواريخ التدميرية، وقد قام الحمام الزاجل بخدمة سلاح الإشارة الأمريكي في الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية، وفي الحرب الكورية.
وسجلت الحرب العالمية الأولى قصصًا مُذهلة عن قيام الحمام الزاجل بتوصيل الرسائل أثناء القتال، فقد حملت حمامة رسالة من على بُعد 40كم في 25 دقيقة، وهذه سُرعة معقولة مع سرعة الآليات وقتها، ولكن غير المعقول أنَّ هذه الحمامة المخْلِصة وصلتْ مقطوعة الرِّجل، وجريحة الصدْر، إثر رصاصة! لأن المسكينة لَم تكن مصفحة، ولَم تجهزْ بتلك الأجهزة التي تشوش على العدو، والتي لن يكون لها تأثيرٌ مع سلاح الصقور الفعَّال الذي استخدمه الألمان.
وكان لا بدَّ لنا – نحن كعرب – مِن استخدام الحمامة، ولكن في نقْل الرسائل البريدية فقط؛ فقد اعتنى العرب بالحمام الزاجل لنقْل رسائلهم البريدية، وجعلوا لها إدارات تشرف على الحمام في أنحاء الدولة الإسلامية، وعمَّالاً يُراقبون وصول الحمام في الأبراج وسفره.
وكانتْ هناك خطوط سير للحمام، كالتي نسمع عنها في هذه الأيام للطائرات التي لا ترى، ومن أجل ذلك نظمتْ خطوط كثيرةٌ للحمام الزاجل بين عواصم ومدن البلدان العربية والإسلامية؛ لنقل البريد المستعجل، وأهم هذه الخطوط ذلك الخط الذي أُقيم بين مصر والشام، في عهد نور الدين محمود عام 1146 م، وأعد له مطارات، محطات ذات أبراج في كل 13 ميلاً، ما يعادل 21 كم تقريبًا، وكانت هناك خطوط ثانويةٌ تتفرع عن الخطوط الرئيسة؛ منها: خط القاهرة دمشق عن طريق غزة والقدس، ثم غزة وكرك على البحر الميت ودمشق وبعْلَبكَّ وغيرها.
وفي الرسائل السلطانية كان ينقش اسم السلطان على مُنقار الحمام، وتوضع أرقام خاصة على رجله كاللوحات التي نراها اليوم على السيارات والطائرات من شعارات وأرقام وكلمات، طبعًا ما عدا تلك الإشارات الضوئيَّة التي تصدرها الطائرات في أيامنا هذه، والحمامة لا تكتشفها الردارات الحديثة إطلاقًا، وهذه ميزة لَم يحققها الإنسانُ في اختراعاته إلا قبل سنين قليلة في طائرات الشبح، التي لم تستخدم وتجرب كفاءتها إلا في منطقتنا وعلى رؤوسنا.
وكان أول استخدام للحمام الزاجل بشكْل موسَّع في الموصل بالعراق، ثم مصر في عهد الفاطميين، ثم العباسيين، وكان الإيجازُ أهم مميزات رسائل حمام الزاجل، فقد كان يُستغنى فيها عن البسملة والمقدِّمة واللقب، ويكتفَى بذكْر التاريخ والساعة وموضوع الرسالة باختصارٍ شديدٍ، وخيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ.
وكانلا يستخدم للرسائل السلطانية إلا الحمام الأزرق اللون، وقد يكون اختيار هذا اللون للتمْويه أثناء الطيران الليلي، خاصة في الليالي مكتملة القمر، وكان هناك البريد المباشرُ السريع الذي لا يتوقف في المطارات الفرعية، وكان ذلك بين عاصمة الدولة وعواصم الولايات، فإذا أراد السلطان مثلاً أن يبعث رسالةً من القاهرة إلى دمشق، أطلق من أبراجه حمامة من حمام دمشق، فتصل إليها الرسالة دون توقُّف.
وهذه الخطوط – يا سادة يا كرام – من المؤكد أنها اندثرتْ، وأصبحتْ مجهولة ليس على الحمام فقط، بل وعلينا وعلى سائر العربان، بعد أن أمستْ بلاد العُرب بلدانًا، ولا أظن أنها لو عادتْ سيصل الحمام إلى وجْهته سالمًا، قياسًا على ما نراه مِن محاولات إيصال المعونات الغذائية والطبية إلى غزة والأراضي المحتلة، ومِن قبلها العراق، والتفاف خطوط طيراننا قسْرًا، بعيدًا عن بعض أراضينا المحتلَّة، مما يزيد المسافات ويجعلها فوق قدرة الحمامة؛ خاصة وأن أغلب الخطوط الآن على البحر، ومن الممكن بناء أبراج للحمام على البحر، كما أن الحمامة ليستْ برّمائية ولا تعرف السباحة.
لا، لا، لا يُمكن أن تصلَ الحمامة إلا إلى البلاد التي تعرفها حق المعرفة، وبعد أن تعيشَ مع أهلها ويتم تدريبها على تضاريسها ومسالكها، تلك المسالك والبلدان التي غابتْ عنها وعنَّا، ولا نراها وبالكاد نذكرها، ولولا صور معاناة أهلنا التي نراها في نشرات الأخبار لنسيناها، ولأن الحمامة لا تعرف خطوط الطول والعرض الخفيَّة التي لا تستطيع أن تراها، وليس بقُدرتها التعامُل مع البوصلات وأجهزة التوجيه التي تحدد المسارات والمواقع.
ومنذ ذلك الوقت – يا سادة يا كرام – أصبحتْ للحمامة مكانتها، وتوطدت العلاقة بينها وبين الإنسان، رغم ما يعتريها مِن تنكر، خاصة من قبل الإنسان عندما يجوع المسكين لتصبحَ وجبةً شهية مشوية، أو مسلوقة، أو مقلية، أو بالأرز محشوة، أو حسب رغبته، وبرغم ذلك لَم تهرب الحمامة وتتوحش مثل بعض المخلوقات بسبب بطش وقتل وأذية الإنسان لها.
وهذا ما يؤكِّده تقرير لبعض العلماء قالوا: إنَّ نحو ثلاثة إلى خمسة بلايين من الحمام المهاجر كانت موجودة في أمريكا الشمالية في حوالي عام 1500 م، وقد أخذ هذا الحمام اسمه المهاجر من كثْرة أسفاره إلى الأماكن الجديدة؛ بحثًا عن الطعام، وكانتْ مجموعات الحمام المهاجر تسافِر بسرعة شديدة، وفي جماعات قد تصل إلى عدَّة ملايين، بدأت الأعدادُ الكبيرة للحمام المهاجر في التناقُص منذ الخمسينيات من القرن التاسع عشر الميلادي.
وهذا يتناسَب تمامًا مع ما حصل للهندي الأحمر المسكين، الذي شارَفَ على الانقراض، ومن بقي منه يعيش في المحميَّات! كل ذلك كان بسبب تعامُلهم، والحمام المهاجر مع ما يُسمى بالإنسان الأبيض المادي النَّهم الذي ما زال يُمارس الإبادة حتى اليوم، ويكفي أن تنظروا بتمعُّن إلى مواقع وأسباب الحروب والمجاعات في أيامنا هذه، وسلامتكم.
الدنيا صندوق دنيا .. دور بعــــد دور..
الدكة هي .. و هي كل الديكـــــــــور..
يمشي اللي شاف ويسيب لغيره مكان..
كان عربجي أو كان امبراطــــــــور..
عجبي !
رباعيات الفيلسوف جاهين ولقطتى من مخزن الحمام.. 😊