أجزاء من كتاب “البحث عن فلسطين” لنجلاء سعيد
Looking for Palestine, Najla Said, Riverhead Books, 2013
ترجمة: أمير زكي
نشرت في عدد يناير 2015 من مجلة عالم الكتاب
نشرت في عدد يناير 2015 من مجلة عالم الكتاب
-1-
بخلاف مولدي في بوسطن، وقضائي لبعض الوقت في مدينة “بالو آلتو”، ثم في جنوب كاليفورنيا، فقد قضيت أول ثلاثة عشر عاما من حياتي في مسكن بمونينجسايد درايف (مانهاتن) بين شارعي 119 و120. كان أبي “أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا”. تعلمت أن أنطق هذا اللقب ذا الوقع الرائع وأنا في الرابعة من عمري، على الرغم من أنه لم تكن لديّ فكرة عما يعنيه اللقب. عندما كان يسألني الناس عن مهنة أبي كنت أعصر ذهني وفصاحتي حتى أشرحه.
كنت أعرف كلمة “كولومبيا” وكنت أدرك ما تعنيه (الحديقة التي كنا نلعب فيها بعد المدرسة في إجازات نهاية الأسبوع). وكنت أعرف أيضا أن أبي يقوم بشيء ما في المكتب الموجود بحديقة الجامعة.
أبي، بالنسبة لفائقي الذكاء، هو “أب الدراسات ما بعد الكولونيالية” أو كما أخبرني ذات مرة عندما أصر على أنني أضيع وقتي في الكلية لالتحاقي بمنهج ما بعد الحداثة، وأجبته أنه لا يعرف شيئا عن الموضوع:
“لا أعرف شيئا؟ أنا مَن ابتكرته”.
ما زلت لا أعرف إن كان يتحدث بجدية أم بهزل ساعتها.
وهو، بالنسبة للآخرين، مؤلف “الاستشراق”، الكتاب الذي قرأه كل الناس في نقطة معينة بالدراسة الجامعية، سواء التحقوا بدراسة التاريخ أو السياسة أو البوذية أو الآداب. كتبه وأنا في في الرابعة من عمري.
كما شرح لي مرة، عندما ضغطت عليه أن يوضح الكتاب بلغة بسيطة: “المبدأ الأساسي في الكتاب هو… أن (الشرق)، تاريخيا ومن خلال الأدب والفن، وكما كان يُرى بالأعين الغربية، يصير مشوها، وبالتالي فأي شيء (مختلف) عما نألفه كغربيين، لا يكون فقط غريبا وغامضا وحسيا ولكنه أيضا أدنى قيمة طوال الوقت”.
“هل تعرفين، مثل علاء الدين”.
بسبب أبي، بشكل رئيسي، صار الناس يقولون “أمريكي آسيوي” بدلا من “شرقي”.
وهو، لدى آخرين، رمز تقرير المصير الفلسطيني، المدافع عن حقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية. هو “الإنساني” الذي “يقول الحقيقة في مواجهة السلطة”.
ولكن رغم ذلك يصر بعض الناس على أن يقولوا إنه “إرهابي”، على الرغم من أن من يعرفه يدرك أن ذلك لا يُصَدَّق إلا بقدر ما يصدُق القول عن غاندي إنه “إرهابي”.
بالنسبة لي كان أبي، الرجل الأنيق الذي يرتدي بدلا من ثلاث قطع يحيكها له خياط في لندن. الرجل الوسيم العجوز الذي كان يصيح فيّ بلكنته الإنجليزية الأمريكية المهجنة وبعد خمس دقائق ينسى سبب انزعاجه. الرجل الذي كان يحضر لي الهدايا من كل أنحاء العالم، ويتحدث معي عن رواية “جين إير” ـ كتابي المفضل عندما كنت في الثانية عشر ـ والذي كان يحتضنني عندما أبكي. كان يلعب التنس والإسكواش، ويقود سيارة فولفو، ويدخن الغليون، ويجمع الأقلام. كان أستاذا، وكان أبي.
كنت أعتبر نفسي دوما “ابنة أبي” وكان يوافق على هذا. فقد كان طبعانا وروحانا متطابقين؛ في الفن والدراما والتطلب والحساسية وفي انزعاجنا الكبير من المهام العادية كدفع الفواتير أو حتى الاطلاع عليها. ولكن كطفلة، كنت في الحقيقة أخشى أبي وأخافه. لديّ ذكريات قوية عن رعبي عندما كنت أجد غرفة مكتبه مغلقة، وأسمع الطرْق الغاضب على آلته الكتابة الآي بي إم. ربما كنت أشعر أنه يكتب، كما قال نسيم رجوان في جريدة الجيروزاليم بوست: “كتابا مهما سيكون علامة على عصر جديد متعلق بموقف العالم من الدراسات الشرقية”، ولكن كل ما كنت أعرفه هو أنني كنت أشعر بالخوف عندما يكون بالداخل. وعندما يظهر تكون هناك لحظة قلق، كنت أفحص مزاجه، وإن كنت محظوظة كان يغمرني بالحب والمديح بصوته الجميل والمعبر والفريد.
كانت أمي امرأة جميلة وطيبة وهي التي كانت ترعاني، وُلِدَت في بيروت بلبنان؛ لأسرة كبيرة ومهيبة وودودة. كان حضورها ثابتا وراسخا في طفولتي، وكانت تعرف كيف تعزف وتُخَيِّط وترسم وتطبخ وتنظف وترعى، وتحبني أنا وأخي. حتى أبي كان يضطرب حينما لا تكون موجودة. في الحقيقة علاقتهما كلها يمكن اختصارها في قصة زواجهما:
في 15 ديسمبر عام 1970 استيقظ أبي في شقته بنيويورك، وتفحص الطقس (كانت هناك عاصفة ثلجية ضخمة تهبّ على المدينة)، وقال لأمي التي كانت تعيش معه كما أفترض: “مريم! هيا نذهب إلى مركز المدينة ونتزوج”، كانا بالطبع قد ناقشا هذه الخطة من قبل، ولكنهما لم يحددا موعدا أو يتفقا على التفاصيل. وبغض النظر عن ذلك، وبينما يفحص دوامات الثلج، عرف أبي على الفور أن اليوم هو المناسب لزفافهما. فكر أنهما لو غادرا في وقت مبكر بما يكفي قبل العاصفة الثلجية، سيكونان في الحقيقة قادرين على أن يستفيدا من الطقس العاصف وينهيا إجراءات الزفاف سريعا وبدون متاعب، بدون الانتظار في طوابير طويلة، أو أن ينزعجا من الأمر كثيرا.
وصلا إلى وسط المدينة، ومعهما شاهد، في الساعة التاسعة صباحا، لاحظا لافتة كبيرة فوق رأس الشخص المسئول مكتوب عليها جملة: “ممنوع التدخين”. هذا الشخص المسئول نفسه كان يدخن سيجارا ضخما، بينما يستلقي مسترخيا ويقرأ في صحيفة. إلى جانب لافتة “ممنوع التدخين” كانت هناك لافتة تحمل نفس القدر من التحذير وتقول: “على المرأة التي ستتزوج أن تكون مرتدية فستانا”. (بالتأكيد كانت اللافتة مختصرة عن ذلك، ولكني أحكي ما سمعته من أمي). دخل والداي وأخبرا الموظف مدخن السيجار عن رغبتهما، فأشار بإصبع يده التي لا تحمل الصحيفة، وبدون أن يرفع عينيه عن الصحيفة التي كان يقرأ فيها، إلى اللافتة الثانية ـ التي تتحدث عن الفساتين.
وكانت أمي ترتدي بنطلونا، بسبب برودة الجو كما هو واضح.
نفد صبر أبي (حسبما تقول أمي). يمكن أن تشاهد الدخان يخرج من أذنيه، والغضب يغلي في معدته (حسبما أقول؛ لم أكن هناك ولكن لديّ تصور جيد جدا على أن هذا ما حدث). أخذ نَفَسا عميقا، وضحك بصوت عال، ثم أشار إلى أن الموظف في الحقيقة يدخن تحت لافتة “ممنوع التدخين”، التفصيلة نفسها لم تضف قيمة على القانون الذي يحاول تنفيذه. وللأسف لم ينجح التكتيك الذي اتبعه أبي. ظل الموظف يقرأ ويدخن. أصر أبي على رأيه، وقد ازداد القلق في نبرة صوته، مؤكدا أنهما تكبدا عناء الطريق من جامعة كولومبيا إلى مركز المدينة عن طريق المترو وسط عاصفة ثلجية، من أجل أن يزوجهما هذا الرجل! لم يجب الموظف. بدأ أبي في الاستشهاد من نص أدبي شهير (لنقل إنه مقال “في الحرية” لجون ستيوارت ميل، لأن أمي لا تتذكر النص بالضبط، والنص صالح لذلك)، أخذ يحاضره عن الإنسان وأنه هو الذي يصنع القوانين فهي غير مستمدة من الله ولكن من المجتمع وبالتالي يمكن تجاوزها. نكزت أمي أبي وقالت له سريعا ولكن بدون إلحاح كما هي عادتها: “إدوارد. توقف. سأذهب إلى الحمام”. نظر إليها وكأنها مجنونة لإفصاحها عن نيتها وسط حديثه، ولكنه أومأ برأسه سريعا، ثم استكمل خطبته الحارة عن الحرية.
اختفت أمي في الحمام لتظهر بعد خمس دقائق بعدما خلعت بنطلونها. كانت سترتها ذات الرقبة العالية طويلة بما يكفي لتغطي الجزء الأعلى من ساقيها، وكذلك الصديرية المنسوجة التي خاطتها لها عمتها المفضلة نجلاء. ولأن الطقس كان شديد البرودة إلا أنها كانت ترتدي ملابس داخلية ثقيلة تحت بنطلونها. وقد بدت في مظهر مناسب جدا بدون البنطلون.
(كانت أمي، عندما تحكي تلك القصة، تتحمس جدا عند هذه النقطة، وهي تشرح أنها كانت تعرف أن خطتها ستنجح، بعيدا عن الحقيقة الواضحة من أنها لم تكن ترتدي فستانا “كما ترين، كانت تلك هي أيام الملابس الميني mini“)
ابتسمت أمي فى وجه أبي، كانت سعيدة بجمالها وبأناقتها العملية. فضلا عن تقديمها قبل لحظات حلا لمشكلة كبيرة. واجهت أمي الموظف بأدب وقالت: “حسنا، أرتدي الآن فستانا”.
حدق أبي فيها مذهولا، وأخيرا رفع الموظف عينيه من على الجريدة. وحدق في أمي من رأسها وحتى قدميها، وكانت ترتدي حذاء جلديا شتويا بنيا (كانت أمي تعشق الأحذية وتهتم كثيرا بوصف الحذاء الذي كانت ترتديه في أي مناسبة)، وضع الموظف السيجار جانبا ووقف.
ظل أبي فاغر الفم، مرتبكا؛ كان يعتقد أنه العبقري. والحقيقة أن أمي هي الأخرى كانت عبقرية.
***
2
في الحقيقة؛ لم يُجبِر الإسرائيليون أبي وعائلته على ترك بيتهم عام 1948، ولكن بالأحرى تركوه عام 1947 واستقروا بشكل دائم في بيتهم الثاني بالقاهرة. ولكن على الرغم من أن العائلة كانت محظوظة بما يكفي إذ لم تر قريتها تحترق، إلا أن اسم مدينتها تغير، وصارت جوازات سفرهم بلا قيمة. وعلى الرغم من أن أفراد العائلة لم ينتهوا بأن يصبحوا لاجئين بمخيم بفلسطين أو الأردن أو لبنان، لا يحملون سوى بطاقة هوية وبدون حقوق أساسية، إلا أنه قد تم الاستيلاء على بيتهم، إلى جانب كل ممتلكاتهم، وتم نفيهم، ولم يُسمح لهم بالعودة سوى كزوار. وامتياز الزائر تم الحصول عليه فقط بفضل الهوية الأمريكية التي مررها جدي إليهم كنتيجة لقضاء العديد من السنوات في الولايات المتحدة.
دار أبي حول البيت باهتياج بالكاميرات الخاصة بي، يلتقط الصورة بعد الأخرى للواجهة. تذكر الحديقة المواجهة للشارع، الملونة الآن والممتلئة بالمربيات اللواتي تلعبن مع الأطفال الإسرائيليين. تذكر الممر والبوابة. أشار أبي حتى إلى نافذة الغرفة التي ولد فيها. وبعد كل هذا التداعي والصياح واستعادة الذكريات في ذهنه، مرر يده على شعره كالطفل الذي يحاول تذكر أين تاه في الطريق الطويلة التي قطعها.
ورفض تماما أن يدخل البيت وكأن الدخول سيؤكد حقيقة ما حدث.
سرنا في الشوارع الضيقة لمدينة القدس القديمة. زرنا المدن العربية بحبرون وبيت لحم ونابلس والناصرة. كان هناك جنود إسرائيليون في كل مكان ذهبنا إليه؛ على جانبي كل شارع، وخارج كل مزار سياحي. كنت أنظر حولي دوما بحثا عن وجه يفهمني، يعرف أنني شخص ينتمي إلى هنا. لم أجد الراحة في أي مكان سوى في وجوه الأطفال الفلسطينيين الذين قابلناهم في الطرق. كما هو واضح فهم ليس لديهم قدرة على التحكم في محيطهم؛ ولدوا ببساطة بداخل هذا التاريخ، وهم مثلي بالضبط، ليس لديهم ذكريات عن فلسطين مختلفة عن تلك التي يعيشون فيها. ولكن بخلافي، هم لا يعرفون عالما خارجيا مختلفا، وجهلهم هو واقع آخر، بدوا لطيفين وأبرياء ولاهين وطبيعيين.
إلا أنني أدركت أنهم يعانون من الحياة اليومية بطريقة لا أشعر بها. كانوا ضحايا ظروف ولادتهم بطريقة لن أكونها. وهم الأشخاص الذين سيكون عليهم أن يتعاملوا لبقية حياتهم مع نتائج التاريخ الذي لا يفهمونه تماما مثلي، إلا أنهم سيختبرون ذلك في الواقع وليس فقط في عقلهم.
وعلى الرغم من أنني لم أقابل العديد من الأطفال الإسرائيليين، إلا أنني أدركت أنهم واقعون في نفس الشرك. لا أحد منا هاجر أو هُجِّر أو خاض حروبا أو عانى من الهولوكوست، ولكننا نظل مرغمين على احتمال أعباء تواريخ شعوبنا.
عرفت في هذه الرحلة أن والديَّ كانا يعيشان في مدن عربية تحتوي على أحياء يهودية تعتبر جزءا من المدينة، مثلها مثل أي أحياء أخرى. في بيروت حيث قضت أمي شبابها، لم يكن هناك فقط حي سني وآخر شيعي وآخر مسيحي، كان هناك أيضا حي يهودي. (حتى الآن، بعد حدوث أكثر من غزو إسرائيلي والعديد من المعارك الدينية الداخلية، يظل المعبد موجودا ببيروت). ومثلها مثل أي مدينة كبرى، كل حي كان له تصميمه الخاص بسبب العائلات التي عاشت فيها، وليس لأن هناك من وضع حدودا بينها وبين الأحياء الأخرى.
أخبرتني أمي كيف أن أمها، التي اشتهرت بأعمال الخير، وضعت نقودا في صندوق أزرق كان موضوعا على طاولة مقهي جار يهودي ألماني في بيروت، وكان ذلك الصندوق مخصصا لإنشاء بيت لـ”عائلة يهودية”، بدون أن تعرف أن هذا “البيت” سيكون في فلسطين. تحدث أبي عن أصدقائه اليهود في مصر. وأخبرتني أمي أن مدرستها، التي كانت تديرها أمها، كانت في الحي اليهودي في بيروت. كنت متعجبة كيف أن تجربتهما مختلفة عن تجربتي.
كنت أنظر إلى الأطفال الإسرائيليين في الحديقة مع مربياتهم. قد يكون آباء هؤلاء وأجدادهم من ضحايا الهولوكوست الأوروبي، الذين لم تكن لديهم أدنى فكرة عن العرب حتى وصلوا إلى إسرائيل، فإذا بأطفالهم وأطفال العرب، هنا والآن، وقبل مرور زمان طويل على هذه الذكريات، لا يعرفون بعضهم البعض سوى كأعداء.
بدا الأمر عجيبا جدا. صُدِمْت فجأة بواقع هذا الصراع. لم يكن الأمر هكذا منذ قرون عديدة. الأصول حديثة؛ وقت طويل وكذلك ليس وقتا طويلا جدا. كل مجموعة من الأطفال لديها ذكريات عن مآسي آبائها المنفصلة تستخدمها للدفاع والحماية، ولا أحد منا يفهم الأمر حقا.
بدأت الانقسامات والانفصالات تتلاعب وتتدفق فجأة في رأسي، وتتزايد بعنف ـ الفلسطينيون، الإسرائيليون، المسيحيون العرب، المسلمون العرب، اليهود العرب، الفلسطينيون الأمريكيون، اليهود الأمريكيون.
أوقف أبي تيار التفكير هذا في الطريق إلى السيارة ليقول لي ما يفكر فيه عن صراعات الشرق الأوسط:
“ناج، هل تعرفين، إنه جيلي هو الذي أفسد كل شيء، نحن مرتبطون كثيرا بأحداث 48 و67، كنا موجودين ومشاركين… ولا يمكن تحقيق أي شيء قبل أن نرحل جميعا، بكل من يماثل شارون ومن يماثل عرفات ومن يماثلنا جميعا. سيكون على جيلك إصلاح الأمور حقا”.
وضع ذراعه حولي واستمر في مسيره. عدت لأنظر إلى عيون الأطفال الفلسطينيين الناعسة، التي تعكس تعبيراتها الخاوية مشاعري.
بدأت أصورهم وأنا مهووسة، في أي مكان ذهبنا إليه. لم تكن لديّ طريقة أخرى في التقاط ما يدور بداخلي.
***
3
بينما كنا في عمّان، أخذنا أبي جميعا إلى قصر زميل سابق آخر له في المدرسة، الملك حسين، وهناك كان عليه أن يزور أيضا ياسر عرفات. قبل شهرين، كانت طائرة عرفات الخاصة قد سقطت في الصحراء الليبية، وبعد لحظات من التخوف من احتمال موته، وبعض التردد من قبل حكومة الولايات المتحدة حيال المساعدة في إنقاذه، وُجِدَ حطام الطائرة ـ وكان عرفات حيا. لهذا السبب شعر أبي أنه علينا أن نزوره، على الرغم من أن أبي ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية لديهما وجهتا نظر مختلفتان عن فلسطين. عرفات كان شخصا عرف أبي أنه مر بحادث مرعب ورأى أنه من الواجب زيارته. انتصرت اللياقة هذه المرة.
ولكن عندما دخلنا القصر شعرت على الفور وكأني أعود إلى واقع فلسطين الفظ. قبلني عرفات بحرارة على وجنتيّ، ومسحت بيدي قبلتيه من على وجهي وأنا أشعر بالقرف. كان أبي يسألني دوما لِم أكره عرفات بهذا القدر، على الرغم من كونه “الزعيم الوحيد لدينا”. أنا متأكدة أنه شك في كوني أريد أن أكره أي شيء متعلق بفلسطين، ولكن عندما قلت له بأمانة: “عندما أنظر إليه بالطريقة التي ينظر بها الأمريكيون، يبدو لي أحمق غبيا”، ضحك أبي. لم يكن معجبا به للغاية، ولكنه كان يعتقد أنه عليه أن يدعم الشخص الذي يمثل القضية التي يدافع عنها. كان يتصرف دوما بتهذيب واحترام، ولكني لاحظت أنه لم يستطع إخفاء الابتسامة وأنا أمسح قبلتي عرفات اللزجتين من على وجهي بدون مراعاة للزعيم العالمي. التقاليد والتهذيب يستوجبان الاحترام، وتصرف أبي بهذه الطريقة، وكذلك أمي وأخي، وبقية الرجال في الغرفة – كما هو معتاد فلم يكن في الغرفة سوى رجال، باستثنائي أنا وأمي. لا أظن أن شيئا حدث في اللقاء. كنا جالسين والتلفزيون مفتوح، وصوته مغلق. لم يقل أحد شيئا، كل الحاضرين كانوا يدخنون، ثم غادرنا. (كما هو واضح هذا هو سبب أنه لا يوجد شيء يكتمل في الشرق الأوسط).
***
4
في صيف عام 2000، بعدما أجرى أبي جلسة أخرى من العلاج الكيميائي، توجهنا إلى بيروت لحضور حفل زفاف كريم ابن عمي، ذهبت مع صديقي المفضل فرانشيسكو، (صديقي المثلي كما أحببت أن أطلق عليه) الذي جاء وكأنه رفيقي. وعلى الرغم من أنه كان صقليا على طريقة بروكلين إلا أنه أصبح مقربا سريعا من عائلتي. ما سمعه عن لبنان جعله يتذكر الكثير عن شعوب البحر المتوسط. قابل أولاد أعمامي، وخالاتي، وأعمامي، وأصدقائي (الذين تعجبوا جميعا كيف يكون رفيقي “مثلي الجنس” ولكنهم لم يسألوا عن ذلك لأنه كان ليبدو وقحا) وأحبوه جميعا.
قضينا معظم وقتنا على الشاطئ، ولكني سافرت في أحد الأيام، أنا وفرانشيسكو ووديع وخطيبته جينيفر، وأمي وأبي إلى الجنوب لزيارة الحدود بين فلسطين ولبنان. كان الإسرائيليون قد أنهوا لتوهم احتلال هذه المنطقة، وتم ترتيب رحلة لأبي إليها.
في الطريق إلى الساحل، كنا نرى بين النوادي الشاطئية المهيبة المخيمات المؤقتة المجانبة للبحر ـ حيث عاش جزء من السكان بعدما فقدوا بيوتهم أثناء الحرب. ارتفعت درجة الحرارة. أصبحت أعلى وأعلى كلما سرنا. لوحات الإعلانات التي تعلن عن زيوت مضادة للشمس ومطاعم الوجبات السريعة، حل محلها صور لرجال ملتحين يرتدون عمامات. ارتجفت. ارتياحي مع الشرق الأوسط كان لا يزال غضا، وأدرك الآن أن ارتياحي كان متعلقا فقط بالمنطقة الحضرية الكوزموبوليتانية في بيروت، دق قلبي كثيرا في صدري. وخفت فجأة، وراودني شعور أنني “لا أنتمي إلى هنا” الذي شعرت بمثله بفلسطين منذ ثماني سنوات.
قبل أن نعود إلى بيروت، أصر واحدا من أصدقائنا ومرشدينا على أن نزور مكانا مهما، برج مراقبة إسرائيليا مهجورا، صار موضع حج لزوار المنطقة. يأتي الناس إلى هنا الآن ليرموا البرج المهجور بالحجارة في إيماءة تضامن مع هؤلاء الذين كانوا منذ شهر مضى ما زالوا تحت الاحتلال العسكري، وفي تعبير رمزي عن البهجة بحرية الأرض. البرج كان على الجانب اللبناني، والإسرائيليون تركوا البلد، وبالتالي لم يكن هناك شيء على الجانبين للعديد من الأميال باستثناء مجموعة من الحجارة الصغيرة.
قال أخي: “أنظروا كيف يرمون الحجارة بشكل سيء هنا؛ لا تصل الحجارة إلى أي مكان بالقرب من البرج ـ هذا لأنهم لا يلعبون البيسبول”. ثم أمسك بحجر ورماه، بعيدا جدا، نحو أرض فارغة وقاحلة. أبي، الذي لم يكن أبدا شخصا يحب أن يتفوق عليه أحد، أراد فجأة أن يظهر أنه يستطيع أن يرمي الحجر إلى نفس المسافة، إن لم تكن أبعد من أخي. عدت إلى الركن، منتظرة رد فعل عسكري أحمق غير مناسب على حمقهما، ونحمد الله أن هذا لم يحدث. ولكن الذي حدث كان أكثر سخافة. قرر واحد من المصورين الذين كانوا معنا أن هذه ستكون صورة رائعة ـ إدوارد سعيد يلقي بحجر تضامنا مع شعب جنوب لبنان. وفي الوقت الذي عدنا فيه إلى بيروت بعد ساعتين، كانت الصورة في كل مكان على الإنترنت، وكانت هناك حالة غضب في البيت، لأن “النيويورك بوست” ألحقت الصورة بمقال عن “النشاطات الإرهابية” لأبي، وظَهَر أناس من تحت الأرض يطالبون بإقالة أبي من جامعة كولومبيا.
انتظر، ماذا؟
كما يبدو، على الرغم من أنه أستاذ موقر بجامعة كولومبيا، فهو أيضا إرهابي يهاجم بعنف جنديا إسرائيليا في جنوب لبنان.
رد فعل فرانشيسكو على الحادث جعلني أدرك أنني لست مجنونة. لقد كبرت وأنا معتادة على هذا النوع من التشويه الإعلامي، وتعبت من كون الأصدقاء الأمريكان يقولون إنني أؤمن بنظرية المؤامرة في كل مرة أشير إليها، لذلك تعلمت أن أحتفظ بأفكاري لنفسي. ولكن فرانشيسكو شعر بالغضب، وهو ليس عربيا، ولم يكن مهتما بالسياسة.
“لا أفهم ما الذي يحدث. هؤلاء الناس مجانين، لم يحدث هذا. لديّ صور، يمكنني أن أظهر لكل الناس الذين يتساءلون أن هذا لم يحدث. أنا مرتبك من أمريكا حاليا”.
نظرت إليه وأنا أشعر بالارتياح. أردت أن أستمع إلى رد فعل مثل هذا لأتأكد من أن رد فعلي مبرر.
عندما استمع أبي أن فرانشيسكو لديه صور تظهر برج المراقبة المهجور والمنطقة الشاسعة الخالية من حوله، دعاه على الفور.
“يجب أن أحصل عليها، هؤلاء الناس يلاحقونني، عليّ الدفاع عن سمعتي”.
كان هذا الحدث بداية النهاية لحماس أبي. بين رد فعل جامعة كولومبيا، وبداية الانتفاضة الثانية في فلسطين هذا الخريف، والحدث الأهم، 11 سبتمبر، توقف أبي عن الحديث إلى الإعلام الأمريكي. وبدأ يكتب أكثر للصحافة العربية، وكان يقبل إجراء اللقاءات فقط للبي بي سي أو وسائل الإعلام الأوروبية الأخرى التي ستتيح له أكثر من الدقيقتين المطالب فيهما أن يشرح: “لماذا يكرهوننا؟”.
***
5
أبي كان في المستشفى في هذا الصيف، يعاني من الالتهاب الرئوي. صار نحيلا جدا، وأطلق لحيته لأن الأطباء طلبوا منه ألا يحلق. إن جرح نفسه سيكون الأمر خطيرا جدا كما قالوا لنا بسبب العلاج الذي يتلقاه. كان الصيف الحادي عشر لمرض أبي. كل العلاجات القاسية والخطيرة حدثت في الصيف، حتى يكون بإمكانه التدريس في الموسم الدراسي. وفي الصيف نقوم بأدوارنا كممرضين.
عاود المرض أبي في صيف 2003، ولكن كان الوقت مختلفا.
في ليلة 14 أغسطس عام 2003، حدث انقطاع كهربائي واسع في نيويورك ومعظم الولايات المتحدة الشرقية. مررت بأربعين مبنى في الحر الشديد، ثم صعدت السلم 12 طابقا لأقضي الليلة مع عائلتي، خاصة أن شقتي كانت صغيرة جدا وغير مجهزة كثيرا لأن أقضي الوقت فيها بدون أن أفعل شيئا في الظلام طوال اليوم. كنت منهكة في هذا الوقت، ولكن الآن أذكر هذه الليلة على أنها هدية. كان من المفترض أن يذهب والديَّ إلى أوروبا في هذه الليلة. وذلك لمدة شهر، ولكن تم إلغاء رحلتهما. طبيب أبي كان في الحقيقة مرتاحا أنه سيكون عليه تأجيل خطط رحلته لعدة أيام. جهازه المناعي كان في خطر بالفعل: والطائرات والطيران الأجنبي سيجعل الأمور أسوأ.
كان أبي في طوره النموذجي في تلك الليلة، في حين كنت أنا وأمي ووديع وزوجته جينيفر نصعد ونهبط السلالم لنخزن المياه والمؤن الأخرى، كان أبي مستلقيا على الأريكة يثرثر في التليفون. كان يتحدث إلى شخص ما في أوروبا، ويقول بصوت عال، “لا ـ هذا لا يصدق”، ثم يضيف، بأداء ميلودرامي بعض الشيء ـ “هذا مثير للغضب، صار علينا البحث عن الطعام”. وهو ينظر إلى ثلاثتنا نسحب الأربطة إلى الشقة. كان فرانشيسكو يهاتفني: “لم لا أشعر بالمفاجأة من كون النصف الشرقي من الولايات المتحدة بلا كهرباء في حين أن تليفون إدوارد سعيد ما زال يعمل”.
بعد غداء بسيط من الخس والتونة والخبز، اختفى كل شيء من المطبخ، جلسنا جميعا في غرفة المعيشة وتحادثنا على ضوء الشموع، لم يكن هناك شيء آخر لنفعله، كان على وجه أمي المتعب ابتسامة خفيفة؛ كانت مبتهجة خلسة من كوننا جميعا معا. كان أبي يرتدي شورت على غير عادته (لأن الجو كان حارا جدا) وقال إنه علينا أن نجري حديثا جادا. سخر من أنه لا يتحمل الطقس بدون تكييف، وأنه على أربعتنا أن نعمل له كمراوح يدوية، ثم بدأ في حكي قصة شهيرة لتولستوي ونحن جالسين نستمع. بنفس الطريقة التي كان يحكي بها عندما كنا صغارا، أضاف أبي التفاصيل وغيَّر أسماء الشخصيات ليجعل القصة أكثر طرافة. وكالعادة لم يقل أحد شيئا باستثنائي.
“هذه ليست قصة تولستوي يا أبي”.
“اصمتي يا ناج، أنت لا تعرفين هذه القصة، إنها نادرة، اصمتي. دعيني أكمل. إنها جيدة”. رد سريعا ولكن الابتسامة تسللت إلى وجهه، نظرنا إلى بعضنا واستغرقنا في الضحك. كان يتصرف في بعض الأحيان وكأنه طفل صغير.
في النهاية صارت الظلمة أشد حتى عدنا جميعا إلى حجراتنا. عندما عادت الكهرباء في الصباح، أعددت حقائبي وذهب إلى الباب، حتى أوقفني أبي.
“ناج، إلى أين تذهبين؟”
“إلى البيت. لقد عادت الكهرباء، أود أن أقوم ببعض الأشياء”.
“لا تكوني حمقاء، انتظري، هناك كهرباء في بعض الأماكن، ولكن سيمر وقت طويل قبل أن تعود الأشياء كلها إلى طبيعتها. ألا تحبين المكان هنا؟”
ضحكت. “أحبه يا أبي، ولكني أريد أن أذهب إلى البيت”.
“ماذا لو قدمت لك بعض العصير؟”
“أبي، أخبرك كل مرة تسألني فيها أنني لا أستطيع شراب العصير. إنه يؤذي المريء عندي”.
“يا لناج الصغيرة، إنها فنانة بكل ما تحمل الكلمة من المعنى، حتى عصير البرتقال يؤلمها، أحب ذلك”.
“مع السلامة يا أبي، اقض وقتا ممتعا في أسبانيا”.
“مع السلامة يا صغيرتي ناج، لا تنسي أن تهاتفيني”.
ذهب والداي إلى أوروبا في اليوم التالي، وبينما كانا هناك مرض أبي، وصار يستيقظ في منتصف كل ليلة وهو يهذى من جراء الحمى. عادا مبكرا، ودخل المستشفى. لم يجدوا إصابة، ولكنه ظل هناك لأسبوع أو أسبوعين، يجري الاختبار وراء الآخر. بغض النظر عما أصابه فلم يكن فيروسا ولا بكتريا. لاحظت غرابة الأمر، ولكني افترضت أن سيصير في حال طيب وكل الناس ظنوا ذلك. إنه يمرض دوما في الصيف، ثم يتحسن بعد ذلك.
طلب أن يذهب إلى المنزل. كان من المفترض أن تكون غرفته بالمستشفى نظيفة من الجراثيم. أي شخص يدخل إليها يجب أن يرتدي قناعا واقيا. وهناك غسول مضاد للبكتيريا في كل مكان. لا يتم السماح لك بالدخول بدون أن تضعه على يديك. ولكن الأمر كله بدا مفتعلا، كانت المستشفى قذرة أكثر من المنزل، وكان أبي يعرف هذا. كان أبي يعرف أيضا أنه يحتضر، وأراد أن يذهب إلى المنزل أولا.
في الأيام القليلة التالية كان أبي يتصرف بغرابة، وكان هذا يرجع جزئيا إلى العلاج الذي يقدمونه له، ولكن يرجع أيضا إلى أنه كان يحاول أن يودعنا. كان يبكي كثيرا (من أعراض العلاج) وكان يعبر عن حبه لكل من حوله. الموقف الأكثر تأثيرا كان عندما قَدّم إلى أحد الأصدقاء عمتي جريس، التي جاءت إلى نيويورك في ذلك الأسبوع وهي قلقة على صحته، قال “هل تعرف أختي الصغيرة؟” ثم بدأ يبكي. كنت أنا ووديع نضحك بعصبية. لقد رأيت أبي يبكي مرتين في حياتي: مرة في جنازة جدتي “تيتا هيلدا”، ومرة عندما ذهبت معه ليستخرجوا نخاعا عظميا منه؛ كانت الإبرة طويلة وضخمة أكثر من أي إبرة رأيتها في حياتي، وعصر أبي يدي وبكي عندما وضعوها في عجيزته.عندما اخترقت عظامه تأوه أبي تأوها مخيفا وصاخبا. شعرت بتمزق قلبي في المرتين اللتين رأيت فيهما الدموع في عيني أبي. ولكن الآن كان كل ما يمكنني فعله هو الضحك. واستأت من ذلك.
بدأ يحلم أحلاما عجيبة، بعضها تنبؤي وبعضها عميق للغاية. في إحدى الليالي استيقظ وهو يعتقد أن ساعته انكسرت. في ليلة أخرى استيقظ وبدأ في إلقاء الأشياء في حقيبته بشكل اعتباطي. قال باللغة العربية، أن عليهم أن يعدوا حقائبهم ويغادروا. سألته أمي عن سبب ذلك، فقال لها بقلق وجدية إن “الألمان” قادمون للقبض عليهم.
وفي يوم الاثنين الموافق 22 سبتمبر. أردت أن أرى أبي مبكرا في الظهيرة. كان يجلس في المطبخ، منحنيا على كرسيه، يأكل “المهلبية”. كان يرتدي قميص “بولو” برتقاليا، القميص نفسه الذي كان يرتديه منذ عدة أيام قبل أن أزوره. في تلك الليلة الخاصة، وجدت أمي تبكي في غرفة نومي وعلى سريري. جلست معها صامتة قليلا. ثم توجهت إلى غرفة المعيشة، وكان أبي نائما على الأريكة. جلست إلى جانبه، فاستيقظ على الفور. صاح: “صغيرتي ناج”. حدق في وجهي ورأى ملامح الحزن. سألني ما المشكلة. أخبرته أنه لا توجد مشكلة. سألني إن كانت المشكلة تتعلق بروب، حبيبي السابق، وهل ما زلت أفتقده؟
“هل تريدينني أن أتصل به وأحل المشكلة يا ناجي؟ سأفعل ذلك، أحضري لي التليفون”.
“لا يا أبي، لا داعي لذلك، الأمر لا يشبه الاتصال بمُدَرِّسَتي لأنني لم أؤد الواجب. لا يوجد هناك شيء لحله”.
بدأت أبكي. ربت أبي على كتفه اليسرى، داعيا إياي أن أضع رأسي هناك وأبكي. فعلت ذلك. ونعس مرة أخرى وإن استيقظ من آن لآخر ليتأكد أن رأسي ما زال على كتفه، وهو يتمتم، “أحب ذلك، أحب ذلك”. وعندما يتأكد من ذلك ينعس مرة أخرى.
الآن هو في المطبخ بقميصه البرتقالي الفاتح، كان يعاني من “الفوّاق”. كان مصابا به منذ أربع عشر ساعة. أحيانا كان ذلك يحدث بسبب العلاج الكيميائي. ولكننا لم نكن نعرف سبب ذلك ساعتها، في هذا الوقت كان هذا يحدث لأن الورم كان يتقلص في معدته. ألقيت التحية على لوز، حارسة البيت، التي كانت تقف عند الحوض. رفعت رأسها من على الأطباق وألقت التحية بحرارة. تَبَعْت عينيها نحو أبي. هزت رأسها. “لا أعرف، الحال سيئة جدا”.
ألقيت التحية على أبي وقال إنه عليه أن يرتاح. أخذته إلى غرفة النوم. طلب مني بطانية. جلبتها له. قال. “لا، بطانية”. كان ينظر إليّ متوسلا. وكان يعني شيئا آخر. في النهاية عرفت أنه كان يقصد “الشورت” وأعطيته له. استلقى على السرير وطلب مني أن أنتظر قليلا. أخبرته أنه عليّ أن أذهب إلى المنزل سريعا ولكن سأنتظر قليلا. سألته إن كان يريد أن يشرب مُغَذِّي “إنشور بلاس”. صار يحبه الآن. وكان يساعده. ذكرني بالوقت الذي كنت فاقدة فيه الشهية، وشعرت بالذنب لأنني جلبت واحدا من الثلاجة ووضعته في كوب. ولكني قدمته إلى أبي وأمسكت الشفاطة له حتي يستطيع أن يشرب.
سألني: “مَن في الأنبوب؟”
“ماذا؟”
“مَن في الأنبوب؟”
“أي أنبوب يا أبي؟ أنا لا أفهمك”.
صاح مشيرا إلى الكوب: “من في الأنبوب؟”
“إنه شراب (إنشور بلاس) بالفراولة، مثلما طلبت”.
أومأ برأسه ونام، كان من المؤلم جدا أن أراه يتعثر في كلماته ويفقد فصاحته؛ تلك الأشياء التي جعلته على ما هو عليه. بعد ثلاثين دقيقة، قمت لأغادر. نظر إليّ وقال: “انتظري قليلا”. قلت إنني سأعود بعد انتهاء العمل، أو في اليوم التالي. ناديت أمي وقلت لها: “إنه ليس في حال طيبة، ألا يمكن أن تتركي العمل؟”. أخبرتني أنها ستطلب من وديع أن يأتي ليكون معه. اتصلت بوديع، سيأتي بعد لقاء عمل.
ذهبت إلى العمل. عاد وديع إلى المنزل ووجد أبي في حال سيئة. أخذه هو وأمي إلى المستشفي في “لونج آيلاند” في هذه الليلة. كنا نعرف أن هذه هي النهاية.
كنت أدرّس لطالب في أول المساء. أخبرته أنني أعتقد أن أبي سيموت هذه الليلة. سألني لم أعتقد هذا. أخبرته عن قصة كوب الـ “إنشور بلاس” وأن أمي وأخي أخذاه إلى المستشفى.. بن طالبي الذي يبلغ من العمر 16 عاما قال لي: “هو كان يسأل عن طعم الشراب. هذا هو ما كان يعنيه”. كان يعرف ذلك لأنه كان يعمل مع الأطفال المصابين بمتلازمة داون، وهذه هي الطريقة التي كانوا يتحدثون بها أحيانا. ثم توجه بن إلى غرفته وأحضر لي كتابا. كان الكتاب لمتسابق الدراجات لانس آرمسترونج، وكيف استطاع التغلب على السرطان. “ربما يصير أبوك في صحة جيدة. لا تفقدي الأمل”.
كانت لمحة طيبة وأكبر من قدرتي على التخيل.
ذهبنا إلى المستشفى يوم الثلاثاء. كان أبي تحت تأثير قدر كبير من المسكنات. اتصلت أمي بعمي نديم، الطبيب في بيروت، لتسأله إنه كان عليها أن توافق على وضع أبي تحت جهاز تنفس. عندما سمع عمي السؤال بدأ في البكاء. ثم أجهشت أمي في البكاء، ثم فَعَلْت مثلهما. طلب منا الطبيب أن نوافق، ولكننا كنا نعرف أنه في اللحظة التي سيتنفس فيها من الجهاز، فهذا يعني أنه سيموت.
دانييل بارنبويم، صديق أبي المقرب كان موجودا مع رشيد ومنى، صديقي العائلة اللذين كانا أشبه بفردين من العائلة. ذهبت للنوم، ولم أتوقف عن البكاء على وسادتي عندما نقرت جينيفر زوجة وديع على الباب، وفتحته. دخلت الغرفة في الضوء الفضي، رأيت ظلها عند الممر. كانت تمسك برفق بتليفونها المحمول. كانت يداها ترتعشان، كانت تبكي ولكنها تحاول أن لا تبدو كذلك. تأثرت بنشيجها، وشعرت بالفخر في اللحظة نفسها لأنها تحب أبي إلى حد البكاء، وهي قلقة لكونها بحاجة إلى أن يواسيها أحد في حين أننا جميعا نبكي أيضا. جلست على السرير فورا، كنت أتوقع ما ستقوله، وحاولت أن أجعل جسدي قويا وثابتا ومتفهما، في محاولات حمقاء لأحمي ما بداخلي من قوة الكلمات التي تكاد أن تنطقها.
قالت بهدوء، وصوتها يرتعش: “إنهم يريدوننا أن نذهب إلى المستشفى، حتى نلقي نظرة الوداع”. اضطرب صوتها عند الكلمة الأخيرة، وكأنها رتبت لذلك. أظن أنني حاولت أن أقوم على الفور، ولكنني أدركت بعد ثلاث ثوان أنني لم أتحرك قيد أنملة. ولم أستطع أن أقوم فعليا. كانت الغرفة تتحرك. فكرت في كيف أنني كثيرا ما قرأت عن أمثال هذه الأشياء التي تحدث في مثل هذه اللحظات، وفكرت في أنني لم أظن أبدا أن هذه الأشياء تحدث في الحياة الواقعية. بعد عدة دقائق، جاءت منى إلى الغرفة المظلمة واستلقت على السرير معي. احتضنتني وربتت على رأسي. كان الضوء القادم من البنايات حول النهر في نيوجيرسي يومض بغرابة ويوحي بالأمان والحماية، بينما بدا أن الضوء الذي يشع من الردهة ـ الكريهة والبشعة ـ يدعوني بحرص إلى أن أذهب إليه.
وجدتني منى أقوم فجأة. في اللحظة التي لمست قدماي الأرض الخشبية، انحنت ركبتاي وكأنهما مصنوعتان من الجيلي. نظرت إليَّ منى، أتعجب كيف بدا أنها تعرف ما الذي حدث؛ لم تتركني. وعُدْت أفكر كيف أنني لم أعتقد أبدا أن مثل هذه الأشياء ستحدث في حياتي الحقيقية. ارتجفت ركبتاي. وبالكاد وضعت قدماي على الأرض. هذه المرأة الصغيرة كانت تشدني حرفيا من على الأرض بكل قوتها؛ كان هذا حقيقيا، لم أستطع التحمل. أرشدتني منى ببطء نحو ضوء الردهة المبهر، وعلى الرغم من أنني كنت أسير بالكاد، شعرت بالامتنان لها لأنني لا أستطيع التركيز في هذه المهمة، التي هي ببساطة منعي من السقوط. كنت ممتنة وكان لديّ شيء لأفكر فيه متعلق بأبي، وسرت نحو الردهة.
***
ولكن أبي لم يمت في تلك الليلة. عاش ليوم آخر. قضينا يوم الأربعاء كله في العناية المركزة بالمستشفى، نراقبه، ننتظر أن نشاهد نَفَسه الأخير. بدا أن حتمية موته هي أعظم ثقل أحمله. تعجبت كيف أن ممرضات وحدة العناية المركزة لا يبكين أو يصرخن ولا يبدو عليهن الحزن، وهن يتحركن ويؤدين مهامهن المعتادة ويملأن أوراقهن بينما يحلق الموت في الغرفة. في الممر النظيف، المتصل بملايين الأجهزة والشاشات، كان يستلقي أناس بدون وعي يمكنهم أن يموتوا في أي لحظة، واحد منهم كان أبي. فكرت في مسلسل “the sopranos” وكيف يُطلَق الرصاص على الناس في المسلسل ويموتون فلا يبكي أحد من جراء ذلك. شعرت بالحزن لأُسَر المرضى، ولأطفالهم. بكيت على كل شخص تغيرت حياته تماما بموت شخص حبيب؛ أدركت أنني لم أهتم بالقدر الكافي أو أفهم بالقدر الكافي. فكرت في الشاب الذي رأيناه وهو يهرول مبكرا في ذلك الصباح ونحن نقفز إلى السيارة، نظرت إليه نظرة حاقدة وكارهة لأنه سيذهب ليمارس حياته اليومية العادية في الوقت الذي سيموت أبي فيه. ولكني أسامحه الآن، لأنني قمت بالشيء نفسه كل يوم في حياتي، وفي كل يوم من حياتي كان هناك أناس يموتون في مكان ما، وأَحِبَتهم كانوا يشعرون بنفس المشاعر التي أحسها الآن.
جاء الطبيب إلى الغرفة. قال لنا بحرص إن أبي سيموت في أي لحظة في الأربعة والعشرين ساعة القادمة، وأضاف: “المسألة متعلقة بانتظار النَفَس الأخير”.
قدَمِ الدكتور راي إلى الغرفة، كان طبيب أبي لاثني عشر عاما، صار جزءا من حياتنا، صار في الحقيقة فردا من العائلة. كان قد بكى في اليوم السابق؛ حاول أن يخفي ذلك، ولكننا رأيناه جميعا. قال شيئا مثل: “إدوارد سعيد كما نعرفه رحل الآن”. وأشار إلى أن الأمر متعلق الآن بانتظار نفسه الأخير، وذلك قبل أن يترك الغرفة سريعا حتى لا تظهر دموعه أمامنا. الآن هو هنا ليخبرنا أنه “يلقي نظرة الوداع ويذهب إلى المنزل”. وقال إنه لا معنى من أن نبقى لنراقب أبي.
مات أبي في صباح اليوم التالي، يوم الخميس، 25 سبتمبر 2003، في الساعة السادسة وخمسة وأربعين دقيقة صباحا، في مستشفى لونج آيلاند اليهودي.
في خلال يوم واحد، حضرت عائلتي الممتدة كلها إلى شقتنا. قدموا من لبنان والأردن وأوروبا وكاليفورنيا ومن كل مكان. ظلوا معنا بقدر استطاعتهم من الوقت، بعضهم ظل لمدة أسبوعين. حضر فرانشيسكو من لوس آنجلوس صباح يوم الجمعة ولم يتركني لخمسة أيام. كان الخبر في الصفحة الأولى من جريدة النيويورك تايمز؛ المرأة الهندية بائعة الجرائد قدمت لنا التعازي على الفور. بَعَثتُ برسالة إلى مجموعة على الإنترنت كنت منضمة لها، وأكدت لمئات من الناس أن الخبر صحيح. لم أرد أن أستمر في تلقي الرسائل التي تتساءل إن كان إدوارد سعيد قد مات. مع نهاية اليوم انتشرت رسالتي في جميع أنحاء العالم حتى أنها وصلت إلى مكتب كوفي عنان في الأمم المتحدة. حضر الجنازة ألفان من الناس؛ كانت سوزان سونتاج تبكي؛ وكان الناس يحدِّقون فيها ويحدقون في نعوم تشومسكي، وفي بيتر جينينجس. نقلت قناة الجزيرة الجنازة. تلقيت آلاف الرسائل الإلكترونية والاتصالات التليفونية. وفي هذه اللحظة أدركت ما الذي تعنيه جملة “شهير عالميا”.
حملنا رفاته إلى لبنان ودفناه في المقبرة الكويكرية للعائلة في برمانا؛ قرية أسلاف أمي. كان هذا ما أراده. غضب بعض الناس وتساءلوا عن سبب عدم دفنه في فلسطين. كانوا أناسا رأوه كرمز لمكان جغرافي. هؤلاء الناس كانوا يدفعونني إلى الجنون رغم أن نيتهم كانت طيبة. لم نفكر أبدا في أن ندفن أبينا في فلسطين، لأن فلسطين كانت مكانا لم يعرفه أبي أبدا، على الرغم من أنها كانت قضية اعتنقها ودافع عنها حياته كلها. كان العالم يربط إدوارد سعيد بفلسطين ولكني لم أكن أفعل. أنا لم أكن أعرف سوى “أبي”. ولكن كيف كان بإمكاني شرح هذا للعالم؟
بالتالي قضيت حوالي سنة أعزي الناس الذين حزنوا على موت أبي. أقول في كل مرة تقريبا: “أنا أفتقد أبي كثيرا”، فيقول الآخر أحيانا: “حسنا، نحن جميعا نفتقده”. ويبدأ في التحدث بفصاحة عن كيفية غيَر أبي حياته. (لأكن أمينة، لا يزال هذا يحدث في كل مرة أقول فيها إنني أفتقد أبي)، وتكون الكلمات التالية مناسبة دوما بالتأكيد، ولكنها عادة لا تجعلني أشعر بحال أفضل: “لقد كان أباك الحقيقي، ولكنه كان أبا لنا جميعا”. كنت أشعر أنني لا أستطيع أن أستبقي أبي لنفسي. لم أكن أعرف كيف أحزن على “إدوارد سعيد”. لم أكن قادرة على أن أحزن على أبي.