فوّاز حداد: لا حياد في اللحظة التاريخية الراهنة
حداد يقف شامخاً في وجه هذه الأنظمة القمعية، عاملا على مساءلة متخيلها السياسي من خلال التنقيب في تاريخ سورية المعاصر والكشف عن اللامفكر فيه داخل التاريخ الرسمي للدولة، محاولا إبرازه وتفكيكه وتعرية المخبوء منه، لكن بقدرة أدبية فريدة تمزج بين الواقعي والتخييلي، مستندا في طرائق تشكله على التاريخ، الذي يعمل كخلفية تدفع بتوليد الأفكار وتحريض الخيال على ممارسة لعبته، دون أن يتنصل من الواقع السوري، الذي يعمل بشكل خفي على تعرية المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية عبر نص يتأرجح بين الواقعي والتخييلي، لكنها يلتقيان ويتلاحمان حول خطاب واحد، يجد متنفسه وأرضية اشتغاله في التاريخ ومكره السلطوي داخل عدد من الروايات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: “موزاييك دمشق 39“، “الشاعر وجامع الهوامش”، “جنود الله”، “المترجم الخائن”، “السوريون الأعداء”.
بمناسبة صدور روايته الجديد “تفسير اللاشيء” ضمن منشورات رياض الريس في بيروت كان لنا معه هذا الحوار الخاص حول الرواية والتاريخ والواقع السوري والمثقف في علاقته بالربيع العربي:
مناخ الدولة الشمولية
(*) أستاذ فواز صدرت لك قبل أسابيع روايتك الجديدة “تفسير اللاشيء” ضمن منشورات رياض الريس وهي الرابعة عشرة في ريبرتوارك الروائي، وتبدو عوالمها المتخيلة امتدادا فنيا ومشروعا روائيا، إذا أردنا ربطها بالروايات الأخرى، فهي تتمة لما أسميته في أحد مقالاتك بـ”تعويذة الدولة الشمولية”. ما الجرح الذي لم يندمل في جسدك بعد، حتى تضع آخر رواية لك في موضوع القضية السورية الذي قاربته سياسيا واجتماعيا وثقافيا؟
– تُكتب الروايات عادة لفتح الجروح، مع الرغبة في محاولة إغلاقها. أما ما الذي يحصل، فيذهب بنا إلى تكهنات قد لا تقل عن حقائق. كتبت رواياتي الأخيرة تحت مؤثرات مناخ الدولة الشمولية، وبهدف التعرض إليها لكن من دون قدرة على التصدي لها، إلا على الورق، وليس من دون جدوى. هذا عالم يجب التحاور معه، والتشهير به بجميع الوسائل.
المأساة السورية ما زالت مستمرة لم تكتمل فصولها بعد، وستبقى زمناً طويلاً جرحاً نازفاً، فما خلفته ليس من السهل تجاوزه، ولا غض النظر عنه، إنما لا بد من الإلحاح على أن الدولة الشمولية هي البلاء الذي يعم المنطقة، مهما اتخذت من أقنعة: مقاومة، ممانعة، تحرير، نضال … لكن مقاومة وممانعة وتحرير ونضال ضد ماذا؟
جرى الاعتقاد أنه لا مكان لها بعد انتهاء الحرب الباردة، إذ مع الوقوف على عتبة القرن الحادي والعشرين، لم يتبق منها سوى بعض الدول ككوريا الشمالية وإيران ودولنا المواظبة على التخلف… ليس هذا فحسب، حاليا نشهد عودة لها في أرقى الديمقراطيات الغربية، ولا تخفي نفسها في الدعوات الشعبوية، وصعود أحزاب اليمين المتطرف. لذلك تجد تجاهلاً وتحبيذاً وسنداً لها في العالم، ولا دعوات جدية لحرمان الدولة الشمولية من التمدد.
كشفت المأساة السورية عن “الدولة الشمولية الرثة”، وكان من الضروري فكفكتها، فالشموليات التي سبقتها، النازية والستالينة والفاشية، كانت لديها أيديولوجيات مغلقة، أما شمولياتنا الرثة في المنطقة، فلا أيديولوجية لها، إلا إذا كان الفساد والقمع أيديولوجية، ما يحيلنا إلى عصر انحطاط مستمر.
في رواياتي السابقة، قاربت مرحلة ما قبل الاستقلال وبعده وبدايات المرحلة الانقلابية ودخول العسكر إلى السياسة، ومدى تأثيرها على المجتمع والثقافة والفن، والشعارات التي رفعت ضد الاستعمار، والدعوات إلى التحرر والاشتراكية والوحدة، ثم اندحار اليسار وظهور الإرهاب، وتفشي الفساد. يشمل هذا الكلام بلدان المنطقة التي تزعم أن العروبة تجمعها، فأساءت إلى العروبة، ودخلت في ما بينها بنزاعات، مع أن قضاياها واحدة، من دون إدراك أنها تنهض مجتمعة، أو تسقط مجتمعة.
أردت الكتابة عن عصري الذي أعيشه، وهي روايات عن أنفسنا، لا تفصل بين الاجتماعي والسياسي والثقافي. لم أدرك أنني كنت في خضم مشروع كبير إلا بعد عدة روايات. هذه هي خلفية عالمي الروائي.
(*) أحببت شخصياتك الروائية خصوصا وأنها أجابت عن بعض التساؤلات الجريحة التي تتعلق بالمثقف في علاقته بالسلطة داخل الثقافة المغربية المعاصرة، بالرغم من أن السياق التاريخي للبلدين يختلف ولكنها كانت مفيدة لي حقا. لماذا هذا الحرص الشديد على المثقف والمخبر والنظام والمعارضة والديكتاتور كشخصيات رئيسية لا تقبل المساومة معها في طرح الأسئلة الحارقة؟
– لا مفر من مواجهة الحقائق في ما نكتب، ولسنا مخيرين. نحن نعاني في عزلتنا مما يتسلط علينا ونحن نكتب. هناك شخصيات تقتحم رواياتنا شئنا أم أبينا، لأن عالمنا الواقعي يغص بها. ومن الاستهانة والغفلة تجاهلها أو الحجر عليها.
انظر إلى هذا الشرق والمغرب العربيين، يستحيل تغييب شخصيات رئيسة من هذا المشهد الذي نعيشه: الدكتاتور، المخابراتي، الشرطي، المحقق، الجلاد، المخبر، العسكري، الواشي… أنت لا تخترعهم، إنهم موجودون، أدوات السلطة والتسلط. يرافقونك من الولادة إلى الممات، فكيف تتجاهلهم أو تمنعهم من الظهور في الرواية، بينما هم مسلطون على رأسك، ويعبثون في دماغك؟ إنهم الجزء البشع والأبرز في لوحة الحياة، والجزء الخفي فيها أيضاً، إنهم الوجه والقفا. لذلك يبرز المثقف والمعارض في هذه اللوحة، محملاً بالمسؤوليات، لكن ليس معطلاً عن الفعل، ولو كان مطارداً وملاحقاً، إن لم يكن سجيناً أو قتيلاً، إلا إذا ارتضى أن يكون عميلاً تافهاً يبرر جرائم الدكتاتور. من هذه الناحية، لا بد من انتقاد المثقف، لشدة حاجتنا إليه.
(*) لماذا تلح في طروحاتك على تفسير ما وقع بسورية منذ سنة 2011 والتي أعتبرها شخصيا مرحلة كبرى في حياة الشعوب العربية؟
– يمكن اعتبار حدث 2011 أهم حدث وقع في سورية منذ الاستقلال، وما تلاه من انقلابات وضعت أقدار هذا البلد بين أيدي العسكر، ما ذهب بطموحاتهم إلى الاستيلاء عليه، وأدى في بداية القرن الحالي إلى تمثيلية التوريث في المجلس النيابي والتي كانت ذروة سوف تتلوها ذروة أخرى ترشح سورية إلى التحول من دولة جمهورية معطلة إلى دولة ملكية مطلقة، ما شجع الجمهوريات العربية على ممارسات على نمط التوريث، على أمل تحول رؤساء الجمهوريات إلى ملوك. بدا هذا في الأفق المنظور في عالم عربي يحدث فيه كل شيء، ما دامت القوة هي الحكم.
هذا الحدث أعاد الأمور إلى نصابها من ناحية إيقاف هذه المهزلة. وكان في عودة الشعوب إلى الشارع، بعد غياب خمسة عقود، أن أصبحت للشارع كلمته، وسوف تكون له خسائره الكبرى وأرباحه الصغرى. فليكن… ما دام هذا الذي حدث يضع بداية النهاية لأنظمة تؤخر قدوم المستقبل. لم يعد الدكتاتور يفرض ما يريد، الشارع أصبح له وجود، إنها معركة بدأت ولن تنتهي، قد تطول بضعة عقود أخرى.
الاتجاه إلى الرواية
(*) أصدرت مجموعة قصصية وحيدة هي “الرسالة الأخيرة” سنة 1994، لماذا بعدها اتجهت صوب الرواية؟
– كانت تجربتي القصصية بداية مثمرة من ناحية أنها كانت في النهاية امتحاناً جيداً، أثبت أنني لا أصلح لكتابة القصة، وكانت تحتاج إلى مهارات لست كفؤا لها. فقد كتبت قصصاً تحتاج إلى إغناء الشخصيات، مع المزيد من الأحداث، وعدم التقشف في السرد.
في ذهني يتحرك عالم واسع، وضع في قالب صغير… الحياة كما أعيشها أو أتصورها، رواية تتحرك على أكثر من خط، ساحتها الحاضر، وتذهب إلى الماضي. ما أوردته ليس انتقاداً للقصة، ولا قصوراً مني، وإنما لخطأ ارتكبته في ذلك الوقت، كتبت الرواية على أنها قصة قصيرة.
كان لدي محاولات في الرواية أيضاً، وكان ذلك في وقت مبكر، وكنت ما أزال طالبا في المدرسة، لكنني لم أتابعها، لم أكن مستعجلا على النشر، فبدت آنئذ محاولاتي القصصية والروائية أشبه بالتدريب، وهي فترة طالت ولا سبب سوى أن متطلبات الحياة عاكستها. لكن عندما أصبحت الكتابة جدية، رافقها شعور بالمسؤولية تجاه النشر، كان من الضروري التعرف إلى مزاجي الأدبي، خاصة أنه كانت لديّ اهتمامات جدية في المسرح والسينما. وكان من الطبيعي، أن تنزاح آخر قصة قصيرة كنت أكتبها عن خطها، وتنمو وتتمدد وتنساب إلى أن أصبحت روايتي الأولى “موزاييك – دمشق 39”.
(*) إلى جانب الكتابة الروائية تكتب مقالات نقدية صارخة في وجه جملة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تبدو لي أنها مشروع واحد في علاقتها بطبيعة الكتابة الروائية لديك. إلى أي حد يمكن أن تساهم هذه المقالات في النجاح بإقامة جسور معرفية لإضاءة بعض معالم كتاباتك الروائية بالنسبة للقارئ أو الباحث المنقب في مشروعك؟
– أولاً، أنا لست سياسياً، ولا معارضاً ناشطاً. أنا كاتب روائي، كتبت من موقعي كروائي، وانحزت كمثقف إلى شعبي. لم أقف على الحياد. لأنه ببساطة لا حياد في هذه اللحظة التاريخية. بعض المثقفين استطاعوا تحت زعم الحياد اللعب على الحبلين، فهم هنا وهناك، وفي الواقع كانوا مؤيدين لأنظمة فاجرة وسفيهة.
كتابة المقالات كانت في مرحلة متأخرة من حياتي الأدبية. لم أكن متحمساً أبدا لهذا النوع من الكتابة. واعتذرت أكثر من مرة، مع أنني كتبت عدة مقالات أدبية متفرقة. مع بداية الثورة، شعرت بالحاجة إلى توضيح موقفي، كان من الضروري التأكيد على انحيازي إليها.
بعد ذلك، عندما دعيت للكتابة في “العربي الجديد”، اعتبرته أمراً جيداً، أن يكون لي منبر أعبر من خلاله عن مختلف القضايا الثقافية والأدبية والسياسية، وكان لمقالي الأسبوعي الفضل في إضاءة أفكاري، وبسط آرائي حول الكثير من الأمور. اعتبرت أن الكتابة في الكثير من القضايا عبارة عن مواجهتها. ولا ريب أنها كشفت جانباً من أفكاري ونظرتي إلى الرواية، وما يحصل في عالمنا العربي، وكذلك في العالم.
(*) روايتك “السوريون الأعداء” لها علاقة وطيدة بالربيع العربي ولكن إلى جانب ذلك هي شهادة في شعب واجتماع إنساني، خاصة وأنها رواية مسكونة بالتاريخ السوري وجغرافياته. لماذا هذا العشق المفرط للتاريخ السوري؟
– من الممكن النظر إلى التاريخ السوري على أنه مسرح للاضطرابات والطموحات العظيمة نحو صناعة التاريخ الجديد، تاريخ بلا استعمار، لكن يبدو أنهم كانوا يصنعون التاريخ على نحو مغاير، فكانت سورية مسرحاً للألم، من كثرة الفرص المضيعة بعد الاستقلال حيث توفر رجال وطنيون، ونوايا جادة لبناء وطن عصري، كذلك في زمن الوحدة كان هناك صعود قومي يبشر بالتغيير والدخول إلى العالم. جاء العسكر وركبوا على القومية، واعتبروها تمنحهم المشروعية لإستئثارهم بالسلطة طوال خمسة عقود، كانت تنكيلاً بالحريات، لماذا؟ كانت وسائلهم الانقلابات والاعتقالات والسجون، ولا يحق للشعب مساءلتهم عن كيفية تحقيق أهدافهم في الحرية والاشتراكية والوحدة.
كانت الاحتجاجات في آذار 2011، تحولا خطيراً، كاد أن يكون فاتحة عصر جديد من الإصلاح والتغيير والعمل على الديمقراطية والدولة المدنية وسيادة القانون. في ذلك العام، كانت الآمال قوية في وضع سورية على الطريق الصحيح.
يمنحنا الاطلاع على التاريخ رؤية لما سبق من أخطاء إن لم يكن جرائم ارتكبت، ليس عبثاً ولو كان عن الماضي. يجرنا هذا للاعتقاد أن السوريين كانوا يستحقون نظاماً أفضل، لا هذه الشرذمة الجشعة من الحكام، وأن التاريخ كان من الممكن أن يكون على نحو مغاير تماماً. لا أريد الكلام بصيغة “لو”، فقط الإشارة إلى أننا بامتلاك فهم للتاريخ، فهذا يجعلنا ندرك المضيع أيضاً، ما يساعدنا على تجنب عثرات المستقبل، وبأن البشر يمكن لهم التحكم بأقدارهم، لا تركها لأيديولوجيات أناس مرضى بالسلطة.
لذلك كانت “السوريون الأعداء” روايةً عن سورية خلال هذه العقود، من خلال قصة بسيطة عن عائلة حاولت النجاة بنفسها خلال حصار حماه 1981، لكنها تستجر القارئ لفهم لماذا قامت مظاهرات الاحتجاج بعد ثلاثة عقود، في مشهد لا يقل عن ثورة، ونفهم طبيعة هذا النظام الذي استخدم جميع الأسلحة الخفيفة والثقيلة للقضاء عليها، واستقدم دولتين وعشرات الميليشيات للدفاع عنه.
الرواية عالم من الحرية
(*) إلى أي حد يمكن للرواية أن تحتضن التاريخ وتجيب عن بعض التساؤلات التي تظل في حكم اللامفكر فيه داخل الكتابة التاريخية المعاصرة، خصوصا ما يتصل منها بالممنوع كتاريخ القهر الذي عانت منه الشعوب العربية جراء أنظمة ديكتاتورية قمعية؟
– نشأت الرواية من التاريخ، إنها حكاية عن شيء مضى، تسمح للروائي التصرف فيها، بواسطة الخيال والإثارة والتشويق، وربما باستخدام الأوهام والخرافات والبطولات والانتصارات. في الرواية ثمة احتمالات لا يحدها حصر. إنها عالم من الحرية.
إذا كان الروائي قد عثر في الماضي والتاريخ على قصة جاهزة، يمكن إعادة كتابتها على أكثر من نمط، سيجد في الحاضر ما يثير أيضاً، ما دام الخيال يسعفه، خاصة أن الحاضر سرعان ما سيصبح جزءاً من الماضي. وبات الاعتقاد أن الكتابة عن الحاضر هي عن الماضي في الوقت نفسه، فكتب عن المستقبل، وأتاح له الخيال العلمي التصرف به، ولم يكن في أحد وجوهه إلا حنيناً للخرافات.
هذه السيرورة لا علاقة قوية لها بنشوء الرواية لكنها تشبهها، إنها كاريكاتورية نوعاً ما، مع مدخل مبسط غير مؤذ.
الرواية مدينة للتاريخ، وعندما تذهب إليه فهي لا ترد الدين، بقد ما تؤكد صلتها به التي لا تنقطع، لا سيما في حكاية القهر الاجتماعي والسياسي، وإذا كان التاريخ تاريخ الدول والملوك، واليوم تنبه المؤرخون إلى المهمشين، فالرواية بالمناسبة سبقتهم إليهم، غالباً كانت الكتابة عن البشر في التاريخ، مثلما سنكتشف أن للقهر والقمع تاريخا، لا تاريخ الهزائم والانتصارات، بل قصة الناس والحب والنشاط الإنساني والفعاليات البشرية، حتى يبدو الحكام لا أكثر من عالة على المحكومين، فندرك أن السلطة تسلط، وما يجب تغييره هو أن السلطة سلطة الناس، وخادمة لهم.
(*) ثمة سمة أخرى تطغى على شكل الكتابة لديك وموضوعاتها هي أنها تذهب دائما إلى كشف المخبوء وتعريته سواء كان ثقافيا أو اجتماعيا أو سياسيا، فهل الرواية المعاصرة في نظرك مطالبة اليوم بالاتجاه صوب هذا الشكل الكتابي الذي يجعلها تبحث عن الحقيقة مع العلم أن الهاجس التخييلي هو الأهم؟
– أرى أن الكتابة غير مقيدة بنوع، فلندعها تذهب في الاتجاهات كافة. وإذا كان هناك من يكتبون بحثاً عن الحقيقة، فليس من دون خيال، إذ لا تعارض بينهما، وبالمناسبة لا تنافس أيضاً. وإذا كانت الحقيقة تهتم بالواقع، فإنها تذهب إليه مسلحة بالخيال. وليس هذا من قبيل التلاعب بالكلام. لن نظفر بالحقيقة تحت أكداس الأكاذيب إلا باقتحامها بالخيال.
إياك أن تعتقد بالواقع وحده، ما دام الخيال مفتاح الواقع، وحده يمنحك الحرية في الحركة والكشف، من خلاله تتعرف على الواقع، وليس من دونه. الواقع مغلق لا تظن أنك تعرفه، ولولا الخيال لجهلنا الواقع.
في رواياتي نصيب من التخييل، لكن الواقع وجهتي ودليلي. الخيال الطليق عبث وترهات لا طائل منها، وضلال لا أعتقد به. إن لم تقف على أرض الواقع لن تستطيع التحليق عالياً. الهاجس التخييلي وسيلة، أداة، وليس ذريعة للكتابة كيفما اتفق، توظيف الخيال هو الكتابة الروائية. أما الخيال للخيال فلا يؤدي إلى شيء. انظر الى الأعمال الكبرى، تجدها تعول على الواقع، ليس من دون خيال. حتى عندما تكتب عن قصة حب عشتها فلا بد من أن تتخيلها. الخيال وحده يذهب سدى، والواقع ليس مبرراً لإطلاق الخيال، بل الضابط له. ترى ما الفن؟ انه تلك اللحمة بين التخييل والواقع.
(*) في نفس الطرح، غطت الروايات تاريخ سورية منذ 2011 إلى اليوم، ما الذي لم يندمل في جسدك من مغادرتك لدمشق؟
– كأننا عدنا إلى البداية، أي كل شيء على حاله، لكن مع خراب هائل، وتمزق بالغ في النسيج الاجتماعي، وأصبحت هناك أقليات وأكثرية تبحث عن حلول لن تجدها، بينما كنا نريد أن نقضي على هذا التصنيف والتمييز. طبعاً النظام ما زال كما هو، بعدما جعلته الحرب أكثر شراسة، لم يعترف بأن فشله كان كاملاً، يداريه بمهرجانات التهريج. ما الذي ستفعله القوى الأجنبية بسورية، هل تشعر بالمسؤولية تجاه بلد أسهمت بتدميره، وشعب لم تقصر بتشريده؟ أعرف أنه في حال العودة إلى دمشق، فلا أدري مدى التشويه والخراب الذي أصابها في العمق، ماذا تتوقع من الناس الذين عانوا سنوات طويلة؟ إنهم منهكون تماماً. أما التغيير الحاصل فلن يكون بالنسبة للنظام سوى الإعداد للمزيد من القمع.
الربيع العربي ما زال نفسه
(*) الكثير من الكتاب العرب لم يستسيغوا ما سمي بـ”الربيع العربي” حتى باتت هذه الكلمة تخجلهم ووجدوا لها تسميات من قبيل “الربيع الديمقراطي”. في نظرك ما الدلالات المعرفية التي يختزنها المفهومان؟
– هل العلة في التسمية؟ هذه من فذلكات المثقفين، ما الفارق الذي تحيلنا اليه هذه التسمية، الربيع العربي. منذ بداية الاحتجاجات كانت الديمقراطية على رأس مطالباته، إلى أن جاءت الفصائل الإسلامية المسلحة، وكان من شروطها استبعاد الديمقراطية. فاستبُعدت وكُفرت، لكن ليس من المعارضة… هل العرب ضد الديمقراطية؟ طبعا لا. ليست الديمقراطية احتكاراً لدولة أو لفصيل أو حتى للمعارضة، إنها مفهوم وجده البشر يُعدّ الأفضل حتى الآن، ولا خلاف كبيراً حول أخطائه، لكن أي نظام آخر لا خلاف أيضاً حول جرائمه.
وإذا كان الربيع قد أخفق، فهو ما زال الربيع نفسه. حسب ظنهم، لا يريدون الارتباط بالقضايا الخاسرة، يهتمون بالقضايا الرابحة. التسميتان سيان، ولا داعي للخجل، ما دام مضمون الربيع الديمقراطية والحرية والكرامة، ولا يصح لأي جهة انتزاعه من الذين أطلقوه عليه. تغيير التسمية لا يحل المشكلة، ما دام أنه لا يغير شيئاً، وهذا الحراك دخل التاريخ تحت هذا العنوان.
(*) مؤخرا شهدت بعض الدول كالجزائر ولبنان والسودان والعراق العديد من الثورات المذهلة، التي حققت تمايزا مطلبيا وربما أبانت عن اختلاف في تعاملها من القوى المضادة لها.. إلى أي حد يمكن اعتبار هذه الموجة امتدادا صريحا للموجة الأولى من الربيع العربي وما مدى التقاطع والتلاقي بين الموجتين؟
– تعيش المنطقة مناخاً واحداً من القمع وفقدان الحريات. ولا نستبعد أن بعض الاحتجاجات كانت تنتقل بالعدوى أيضاً. والكثير من السوريين قالوها صراحة عندما اندلعت المظاهرات في تونس والاعتصامات في الساحات بمصر، واعتقدوا أنهم الأحق في الثورة.
والسوريون كانوا ممنوعين ومحرومين حتى من بعض المظاهر البسيطة؛ لا أحزاب، لا صحافة نصف حرة مع توافر الرقابة، اعتقالات، تكميم أفواه، وفساد مستشر… لا تنقصها جميع مثالب الدولة الشمولية.
برأيي، كانت الموجة اللاحقة امتدادا للموجة الأولى، وكانت واعدة، استفادت من الأخطاء السابقة، أسهمت في تجديد الحراك الديمقراطي بشكل عام. ولا شك في أنه كان للدرس التونسي والسوري والمصري تأثيره في الحكام والشعوب، الحكام لا يريدون الدخول في نفق من الصراع غير المضمون عدة سنوات، يعتقدون أن المماطلة والمراوغة والمساومة أفضل، بينما الشعوب ما زالت ميالة للسلمية والمطالبة بالإصلاح. الأمر الجيد أن الدولة لم تستدرجهم إلى حمل السلاح، وذلك بالمقارنة مع ظروفنا قبل سنوات التي كانت سيئة، ففي سورية مثلاً، حزب البعث استولى على الأحزاب والصحافة والنقابات والمنظمات الشعبية وغير الشعبية، بينما المخابرات كانت تمارس جميع الصلاحيات من تعيين وزير إلى تعيين أصغر موظف. الدولة كانت في مركز قوة، لم تقدم أية تنازلات، واستطاعت تحويل إحتجاجات سلمية إلى إحتجاجات مسلحة.
(*) اعتبرت في مقالات كثيرة أن المثقف العربي لم يكن موجودا بالشكل الكافي إبان الربيع العربي للدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها بغية مواجهة الأجهزة القمعية التي حدت من هذه الحرية. ما تعليقك؟
– يمثل المثقف ضمير الأمة، هذا القول ليس من عندياتي، إنه بحكم الأمر المفروغ منه. المثقف هو الأديب والسياسي والمؤرخ والعالم والفنان… إنه الذي لديه رأي في الشأن العام، ويأخذ على نفسه الانتصار للعدالة والحرية والحقيقة.
بعض المثقفين الذين خرجوا من تحت عباءة الأنظمة كانوا ضد هذه المبادئ، وروجوا لها بحكم أنهم يكتبون في الصحافة ويظهرون في وسائل الإعلام، ويتصدرون الشاشات تبعاً لمناصبهم، فجرى الاعتقاد بأنهم يمثلون المثقفين. هذا خطأ مجحف بحق الثقافة والمثقفين، وهم ليسوا أكثر من موظفين عند النظام، لديهم من الانتهازية والوصولية ما يسمح لهم بتسويغ الذرائع لأجهزة القمع من أجل الاعتقال والقتل.
*ناقد مغربي