تتعاقب دورة الحياة اليومية على كوكب الأرض منذ آلاف السنين، ونحن مجرد ظلال خافتة تتحرك في حدود جغرافيا الكوكب، وعلى اتساع الكون من حولنا وبراحه ولا نهائيته، ما زلنا منغمسين في محدوديتنا الأبدية، ونلمس بأصابعنا حدود السماء والأرض، لكننا لم نفكر يوما، هل تحمل الأرض وجها واحدا للحياة؟ وهل هناك صدى موازٍ لحياتنا التي نعيش؟ وإن كانت ثمة حياة موازية، فما الذي يطغى على سماتها الظاهرية؟ هل هي أكثر بهجة مما نحيا أم أكثر ظلاما ووحشية؟
ما بين اتساع الفضاء وخلود الزمن يضيع كوكبنا المعروف بالأرض، هكذا يصف كارل ساجان موقعنا من محيط الكون، فهو مجرد ذرات غبار تسبح في فضاء الكون، وكل اهتماماتنا الإنسانية اليومية هي محض هراء بائس في عيون الفضاء الكوني[1]. تبدو الفكرة منطقية من وجه نظر العلم، لكن الإنسان بطبعه يحب أن يمجد ذاته وكيانه، واهتماماته الحياتية تلك هي غذاؤه الذي يستمر به في خضم صراعات الحياة، من تلك المساحة الإنسانية يأتِي دور البطل الأميركي ليُثبت أنه قادر على التصدي للعالم الداخلي والفضاء الخارجي والأكوان الموازية، فقط لأنه يملك عقلا وذكاء، هذا هو مصدر قوته الخارقة الفطرية.
هذه الأفكار والتساؤلات هي المحور الرئيس للقصة الدرامية لمسلسل “أشياء غريبة” (Stranger Things) الشهير الذي تُعرض حلقاته على منصة “نتفليكس” منذ صدور الموسم الأول له عام 2016، كل عام يأخذنا المسلسل في موسم جديد من ثماني حلقات عبر رحلة متصلة زمنيا بدأت بالموسم الأول مع فك لغز العالم الموازي، ليؤكد بالفعل فرضية وجود حياة موازية لحياتنا، لكن هذه الحياة لها شروط، ولها بوابة مظلمة باختراقها تستطيع أن تتحرك بأريحية في ذلك العالم المواز ذي الطابع المظلم والوحوش الشريرة، وبطلة المسلسل الطفلة “ميلي بوبي براون/إيليفن”، تلك التي تربّت في أحضان التجارب العلمية، استطاعت أن تكتسب قوة خارقة تستطيع أن تحرك بها الأشياء بنظرة واحدة، وتستطيع أيضا الولوج إلى العالم الموازي لتغيير أي شيء أو التحكم في عالمنا الواقعي من هذا العالم الخفي، وهنا تكمن مساحة جديدة لتوظيف تلك القوة الخارقة تتأرجح بين حافتي الخير والشر.
“كل الكائنات الحية تُطوِّر آليات دفاعية ضد أي هجوم، تتأقلم، وتجد وسيلة للبقاء”
كل شيء في المسلسل يحدث بالمصادفة، تلتقي “إيليفن” بأبطال المسلسل، وهم أطفال في عمرها نفسه ولكنهم مهووسون بالعلوم (Nerds)، ومنبوذون في محيطهم الدراسي، والشخص الوحيد الأقرب لهم في عالمهم الصغير وهو الأب الروحي لهم “كلارك” أستاذ العلوم في مدرستهم الإعدادية. تنتهي أحداث الموسم الأول بفهم هذه الأكوان، والقوة الخارقة التي تملكها “إيليفن”، وأن من زرعها بداخلها هي الحكومة الأميركية بهدف التجسس على الروس في فترة الحرب الباردة، إلى أن نصل إلى آخر أجزاء المسلسل وهو الموسم الثالث الصادر منذ أيام قليلة، لنجد أن الوحوش ليست مجرد مخلوقات أميركية مصنعة للتغلب على الأشرار، بل إن وحوشا جديدة تنبت جذورها في العالم واستطاعت أن تخترق بوابة العالم الموازي، هؤلاء الوحوش هم الروس. نزولا من أرض الخيال الدرامي إلى الواقع كان السؤال الأكثر تداولا بين جمهور المسلسل: هل الأحداث مأخوذة من قصة حقيقية؟
الإجابة بلا سوف تجعل الجمهور بمنأى عن هذه الدراما وتؤكد أن ما يشاهدونه محض خيال ويفسد محاولات التفكير الحقيقي بشأن العوالم الموازية، والإجابة بنعم سوف تضعه في مأزق كبير يزيد من شعوره بالمحدودية في خضم نظام الكون المعقد بالنسبة له. دعونا نتفق أن أثناء الحرب الباردة بين أميركا وروسيا انتشرت الكثير من الأفكار السامة من كلا الطرفين بشأن أعدائهما، وهذه الأفكار المتعلقة بالتجسس واختراق المساحات كان لها وجود حقيقي في عقول الشعبين، وأعداء الشيوعية أول المتقبلين لهذه الأفكار. يقول أحد أبطال المسلسل “جاتن ماتاتزو/داستن” إن أحداث المسلسل مستوحاة من وقائع حقيقية حدثت في منطقة مونتوك بولاية نيويورك في فترة الحرب الباردة، حيث اكتُشف مخيم لجواسيس من روسيا يقومون بتجارب علمية ما على أرض الولاية[2]، ولكن التفاصيل الخاصة بشأن الحياة الموازية هي الأكثر تعقيدا وتصديقا رغم قبولها علميا، لأننا هنا لسنا بصدد محاضرة علمية، ولكن المسلسل يستغل الواقعة ويسند قوام خياله إلى فرضية علمية يرددها العلماء ولم تثبت صحتها بعد.
يصف الناقد الأميركي هارولد بلوم “قلق التأثير” بأنه الهاجس الذي يطارد الكتاب وصُنّاع الأفلام في مساحة الإبداع الفني، كيف لهم أن يصنعوا أفكارا أصيلة بعد أن قدم الفن والأدب الكلاسيكي كل شيء بداية من شكسبير ووصولا إلى ستانلي كوبريك؟
ينتمي صُنّاع المسلسل “الأخوان دفر” إلى جيل الثمانينيات، وُلدوا في ولاية كارولاينا الأميركية، وشهدوا كل مظاهر ثقافة البوب في الأزياء والديكور والموسيقى والأفلام. يقول الأخوان دفر إن أفلام تلك الحقبة وتحديدا سينما ستيفن سبيلبيرج وروايات ستيفن كينج هما الملهم الأول لخيالهم الإبداعي منذ الطفولة، ولم ينفصلوا بحال عن مساحات الخيال وأفلام الـ “science-fiction” في عالمهم الفني[3]، لكن دعونا نفكر، قدّم مسلسل “أشياء غريبة” (Stranger things) مزيجا لفرضية علمية معروفة في قالب زمني تغمره النوستالجيا التي تحاكي ثقافة البوب من جهة وتحاكي أفلام تلك المرحلة من جهة أخرى، هذا المزج الفني هو المعالجة الدرامية الجديدة التي تحدد القالب الدرامي الجديد للمسلسل وتجعله يقف على الحافة بين التناص* والمحاكاة وبين التجربة الأصيلة[4]، وهذه الحبكة تحتاج إلى مجموعة من الأبطال الأميركان ليزداد وهجها، خاصة لو كان الأبطال هم مجموعة من الأطفال والمراهقين والبالغين، هنا اكتسب المسلسل قاعدة جماهيرية متعددة الشرائح تم جذبهم بالخيال والنوستالجيا، وبالفكرة البراقة لأسطورة البطل الأميركي.
ملاحظة: الجزء التالي من التقرير به حرق لنهاية الموسم الثالث، فانتبه!
على مدار أجزاء المسلسل الثلاثة تتحوّل كل الشخصيات إلى أبطال تستطيع أن تستخدم ذكاءها في فك الشفرات وتتبع خيوط اللغز والوصول إلى فوّهة البركان لإخماده، وفي الموسم الأخير تحوّل الأمر إلى نكتة أكثر تهكّما على الأعداء، فمجموعة من الأطفال الأميركان استطاعوا أن يخترقوا حصن الجواسيس الروس، ويدمروهم دون أسلحة، فقط لأنهم أميركان يملكون بالسليقة قوة الذكاء الخارقة، وهو في حقيقة الأمر إسقاط درامي مضحك للغاية. من جهة أخرى تحوّل المسلسل إلى ما يشبه ألعاب الفيديو جيم الشهيرة التي نقبض فيها على جهاز التحكم لنضرب الوحوش والجنود الأشرار، والشخصية الافتراضية التي تلعب دورنا داخل اللعبة هي الشاب أو الشرطي الأميركي الذي يستهدف إقضاض مضاجع العدو.
“الانتقام الفردي من شيم الأبطال”
تعزز دراما المسلسل تأثيرات شخصياتها، هم جميعا أبطال وحلقات وصل رئيسة في عالمهم الافتراضي، والبطل بقواعده المعهودة لا يجوز له أن يكسر أفق التوقعات عند الجمهور إلا في حدود، وبعد أن ينقذ العالم عليه أن يطالعنا بابتسامة رائقة والموسيقى تصدح في الخلفية في إشارة إلى النصر المحتوم، لكن الجمهور يخدع أحيانا، والنهايات السعيدة للبطل أضحت نهاية لا تليق بالملاحم المعاصرة، بل إن موته هو الـحبكة الملتوية التي نصطدم بها، بداية من قتل “نيد ستارك” في مسلسل “صراع العروش” (Game of thrones) ووفاة “الرجل الحديدي” في آخر سلاسل عالم مارفل السينمائي في فيلم “المنتقمون: نهاية اللعبة” (Avengers: end Game). كانت الصدمة غير المتوقعة هنا أن ينتصر الأبطال على الوحوش الروسية، على أن تكون الخسارة الوحيدة التي تنال منهم هي موت “هوبر” الشرطي والأب والعاشق الذي يحمل كل صفات البطل الأميركي الذي يقود فريقا بأكمله لإنقاذ العالم.
بدءا من الموسم الثاني ارتكن المسلسل إلى بدايات هادئة يعقبها لهث خلف الأحداث، عشرات الأبواب المغلقة تحتاج إلى أن تُفتح على مصرعيها من أجل الولوج إلى أعداد أكبر من الأبواب، المزيد والمزيد من الألغاز والشفرات لا تدع لك مساحة للتفكير في طرق حلها لأن الأبطال، الأكثر ذكاء منك، يجتازونها ويصلون إلى حلول تساعدهم في الهرب من المتاهة، والجمهور يتحوّل شيئا فشيئا إلى مراقب للدراما لا متورطا فيها، ولا يوجد متسع لالتقاط الأنفاس.
مع الموسم الثالث تفرق الأبطال في مجموعات كلها تصل في النهاية إلى حل لغز الوحش الروسي الجديد، ونحن نراقبهم من بعيد وننتظر تشابك الخطوط واتساع الرؤية للأبطال، الأمر الذي أدّى إلى هبوط مستوى السيناريو في الموسم الأخير والذي لم يهتم -كما الموسم الأول- في تقديم التفسيرات المنطقية لكل الأمور الغامضة التي تدور حولها الأحداث، فقط انشغلنا في فك الألغاز ونجاة الأبطال من براثن الروس الأشرار وتحقيق العدالة وإنقاذ العالم من الشرير، وتجاوزنا عن الكثير من المبالغات غير المنطقية في الحبكة، ومن جهة أخرى، ومع تشعب الشخصيات لم نلتفت إلى الظهور الخافت لشخصية “إيليفن”، البطلة التي تملك قوة خارقة تختلف عن الذكاء الخارق لبقية الشخصيات وتحوّلت إلى مجرد أداة تفقد قدراتها بالتدريج وتنتهي الأحداث إلى فقدها لهذه القوة، وكل البناء الداخلي للشخصية منذ الموسم الأول أصبح ظلا باهتا بلا أهمية مقارنة ببقية الشخصيات.
تقدم منصة “نتفليكس” عملين دراميين متقاربين نوعا ما، في مسلسل “أشياء غريبة” (Stranger Things) ومسلسل “ظلام” (Dark) نقف على حافة المكان، خطوة واحدة باتجاه الظلام تفصلنا عن عالم آخر موازٍ لا نعرفه، وبدافع الفضول سندخل كهوف الظلام، كأننا أجنة تعود إلى أجساد أمهاتها لتستقر في الأرحام، إنها رحلة طويلة نقطعها بالمسافات والكثير من الأفكار المشوشة، هناك في الظلام يجب أن نستكين لنعيد فهم العالم، ومحدوديتنا الأبدية.
________________________________________________
*المقصود بالتناص هو الإشارة إلى عمل فني داخل عمل فني آخر، كالمحاكاة الفنية لأفلام الـ science-fiction في أحداث المسلسل.