هل فكرت يوما ما الذي قد يؤهّل غرضا ما لأن يُوضع في متحف؟ لنرَ، التحف الفنية وأعمال الفنانين العظماء بالطبع تجد لها مساحة محفوظة في المتاحف العريقة، والآثار القديمة تُشيّد بلادها لأجلها متاحف تحفظها فيها بطبيعة الحال. لكي يوضع شيء ما في متحف إذن فيجب أن يكون إما عملا فنيا، وإما أثرا تاريخيا، أليس كذلك؟
ليس تماما، فهنالك متاحف تحتوي على مقتنيات لا تُعدّ تحفا فنية، ولم يمر عليها ما يكفي من السنوات لتصبح آثارا تاريخية. كمثال على ذلك، يحتفظ متحف مهم بدراجة وساعة وصندوق طعام لم يمر عليها حتى مئة عام. أغراض عادية تماما، ليست تحفا فنية، وليست قديمة بما يكفي لتصبح آثارا تاريخية. أغراض عادية تماما، لكن وراء كل واحد منها قصة ليست عادية.
الدراجة ركبها صغير في الصباح الباكر خارج ردهة البيت، والصندوق اصطحبه فتى وبه طعامه للمدرسة، والساعة التفّت حول معصم عجوز جلس في أمان في بهو منزله. لكن الصغير لم يكمل دورته فوق الدراجة حول البيت، والفتى لم يصل إلى المدرسة قط، والعجوز لم يتسنَّ له أن ينظر لساعته مرة أخيرة ويعرف الوقت. من السماء، انفتحت عليهم بوابة من الجحيم وصبّت نيرانها، لتحوّل الثلاثة، ومعهم مئات الآلاف من سُكان مدينتهم الهادئة، مدينة هيروشيما، في ثوانٍ إلى رماد، راح الصغير والصبي والعجوز، لم يخلفوا وراءهم شيئا، عدا دراجة ما عادت عجلاتها تدور، وصندوق طعام تفحم ما فيه، وساعة احترقت عقاربها وتوقف زمانها للأبد. لم يقابل الثلاثة بعضهم بعضا أغلب الظن قط، لكن أغراضهم تتشارك اليوم فضاء متحف “هيروشيما للسلام”، حيث يمكنك أن تراها إلى اليوم.
تحوي بعض المتاحف أغراضا لا تنتمي للفن، ولم يمر عليها سنوات بعيدة لتصبح آثارا، لكنّ أحداثا جساما مرّت من فوقها، وطبعتها للأبد بطابع من أسى وشجن. تدهس تلك الأحداث الجسام البشر، سواء ماديا أو معنويا أو الاثنين معا، تهلكهم في اللحظة نفسها، أو تُبقيهم أمواتا يبدون لغيرهم أحياء، حتى تأتي لحظة النهاية وتزيح عنهم عبء الوجود. في كل الأحوال، يرحل أولئك البشر وتبقى أغراضهم شواهد على آلام ومآسٍ تخجل أمام وصفها الكلمات.
تنشأ الحاجة حينها لبعض مَن بقي بتجميع آثار من رحل، يخصصون لها متاحف، يجلس فوق كل رف منها غرض له حكاية مسطورة بدماء ودموع؛ كدراجة الطفل شين التي احترق عليها قبل أن يُتمّ أربع سنوات،[1] وصندوق طعام الصبي شيجورو الذي لم يتسنَّ له أن يتناول ما فيه قط،[2] وساعة العجوز فوكيشي التي صمدت بينما تحوّل هو إلى أشلاء.[3]
يُؤْثِر البشر عادة أن يبنوا متاحف بها آثار تحكي حكايات عظمة ومجد، لذا، نجد أن متاحف قليلة فقط حول العالم بُنيت خصوصا لتخليد آثار مآسٍ وهزائم، لعل أشهرها هو متحف “هيروشيما للسلام”. الوطن العربي لا يخلو من مثل تلك المتاحف؛ في لبنان وحدها يوجد اثنان، كل واحد منهما ينتمي إلى تاريخ ووطن مختلف تماما عن الآخر، لكنهما يلعبان معا على وتر الشجن نفسه.
في قاعة ضيقة تحيط بها الرطوبة بمخيم شاتيلا ببيروت، يوجد المتحف الأول، متحف “الذكريات”، كما أسماه مؤسسه محمد الخطيب، اللاجئ الفلسطيني الذي رحل عن أرضه وهو رضيع لم يتم عامه الأول بعد. يحوي المتحف نحو ألف قطعة، تعود كلها لأسر وأفراد فلسطينيين حملوها معهم بعد أن هُجّروا من أرضهم قسرا عام النكبة. قام الخطيب، بمجهودات فردية، بتجميع كل تلك القطع من مختلف الأماكن، لتُشكّل معا مجموعة متحفه الخاصة جدا.[4]
بالنسبة للخطيب، لم تنبع الرغبة في حفظ التراث القديم من محض احترام مجرد للماضي، فكأي فلسطيني كبر وعبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” تتردد على مسامعه من محتلّي أرضه، تتحوّل الرغبة في حفظ آثار ماضي شعبه إلى حاجة وجودية، إنها وسيلته ووسيلة بني جلدته ليُثبتوا للعالم أن لهم ماضيا وحضارة، أن المحتل لم يأتِ لأرضٍ خاوية كما يدّعي.
يقول الخطيب في حواره مع مجلة القدس: “تعكس معروضات المتحف مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والزراعية في فلسطين منذ أربعمئة عام. فالقطع الموجودة تُعبّر عن الحياة الفلسطينية بكل أشكالها قبل سنة 1948، ليتعرف العالم إلى أن فلسطين كانت وطنا فيه حضارة وثقافة، لا كما تدّعي الدعايات الإسرائيلية أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب”.[5]
بدأت فكرة المتحف منذ عام 2005، حين نظر الخطيب حوله في مخيم شاتيلا ووجد أن الموت أخذ يحصد مَن تبقّى من جيل النكبة، آخر جيل بالمخيم نشأ وكبر على أرض فلسطين، وأن الأجيال الأصغر سنا لا تهتم بالحفاظ على ما أحضره الآباء والأجداد من الوطن، ففكر الخطيب في أن يقوم بنفسه بتجميع أغراضهم، ووضعها معا في متحف، يقول الخطيب: “إسرائيل تسرق تراثنا وتنسبه إلى نفسها بعدما سرقت الأرض. أيقنت بأن الاندثار والنسيان سيلفّان ذلك التراث الوطني بعد سنوات قادمة، فكانت خطوتي ردا على ذلك بجمع ما أمكن من تراث الوطن والاحتفاظ به داخل قاعة متواضعة في مخيم شاتيلا”.[6]
مقتنيات متحف “الذكريات”، التي بدأت بقدرين صغيرين تبرعت بهما امرأة عجوز للخطيب، اتسعت لتشمل نحو ألف قطعة أثرية لامست كلها هواء الوطن. كلها أغراض بسيطة، لكن قيمتها المعنوية لا تُقدّر بثمن بالنسبة لأبناء وطن حُرموا منه لأجلٍ لا يعمله إلا الله: تراب من مدينة الخالصة، قمح من القدس، طاولات وأوانٍ عتيقة، ومفاتيح لديار لم تعد موجودة. يعي الخطيب تماما الثقل المعنوي الذي يحمله كل غرض من تلك الأغراض: “لكل قطعة في المتحف حياة وروح تتكلم معي… فلكل منها قصة وروح تقول لي أنا عملت كذا وكذا، وذاك الفلاح كان يحملني على كتفه ويغرزني بالأرض ليحصد الخير له ولأولاده”.[7]
كما لا تغيب الدلالة الشعرية الحزينة لتلك المقتنيات عن الخطيب، فهو يستحضرها في اسم المتحف، “الذكريات”، فقد صار كل ما يملكه مئات الآلاف من الفلسطينين عن أرضهم مجرد ذكريات، ويستأنف الخطيب تحت العنوان: “لكل قطعة قصة، ومن كل زاوية غصة”.[8]
بالرغم من الأهمية الشديدة لمتحف “الذكريات” والمقتنيات التي لا تُقدّر بثمن داخله، فإنه لم يلقَ من المؤسسات والجهات المانحة والحكومات أي دعم أو اهتمام. والمتحف، كونه قائما تماما على الجهود الفردية للخطيب، لا يجد العناية الكافية، فتفوح من مقتنياته القديمة رائحة العفن، وكانت الرطوبة وحدها قادرة على إتلاف 350 قطعة أثرية من مقتنياته، أي نحو ثلث المعروضات.[9]
يقول الخطيب: “تعاني القاعة من الرطوبة وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر، وضعف إمكانياتي المادية وعدم قدرتي على توفير قاعة أنسب أدّى إلى تلف العديد من القطع. ولو كان هنالك تمويل لأمكن إيجاد قاعة تتناسب مع ما تحتويه. سبق وأن وجّهت 32 رسالة للتنظيمات والمؤسسات الفلسطينية في محاولة مني للحصول على التمويل، ولكن دون جدوى”.[10] وفي حوارٍ آخر يضيف حانقا: “مثل هذا العمل يحتاج إلى طاقات مالية كبيرة، لم يتبنَّ أي فصيل أو مسؤول أو جمعية هذا المتحف لا من قريب ولا من بعيد”.[11] بينما يمتلك الخطيب ألف قطعة أثرية تبحث عن متحف يليق بها، في بيروت غير بعيد، يوجد متحف كامل بلا معروضات.
فوق الخط الفاصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية، يقف المبنى الذي يُسمى اليوم بـ “بيت بيروت”. لم يكن المبنى يُعرف دائما بهذا الاسم، فله تاريخ طويل تغيّر فيه اسمه عدة مرات. عندما أقامته عائلة بركات عام 1924 بشرفات واسعة تمنحه إطلالة مميزة على المدينة، سُمّي على اسمها، “مبنى بركات”، وعندما جددت واجهته عام 1932 باستخدام الحجر الرملي الأصفر، سُمّي بـ “البيت الأصفر”، أما عام 1975 عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، لم تهتم الميليشات حقا بتسميته بعد أن احتلّته واستغلت إطلالته المميزة على المدينة لتتخذ منه مركزا لقناصتها.[12]
اليوم، ما زال المبنى واقفا، وآثار أكثر حروب لبنان دموية لم تبرحه، ليتحوّل لتذكار حي لماضٍ بشع. كان من الممكن أن يصير المبنى لمثل ما صارت إليه مبانٍ كثيرة تركت الحرب فوقها بصمتها، فيُهدم ويُقام مكانه مشروع تجاري، لكن منى حلاق، المهندسة المعمارية المختصة بصيانة تراث المباني، حالت دون هذا، فبالنسبة إليها كان هذا المبنى يرمز للكثير.
تقول الحلاق: “يختصر هذا البيت بيروت بالحرب، فقد كان أداة قتل في حرب انقسمت فيها بيروت إلى نصفين، ويختصر أيضا مضارباتنا القديمة بعد الحرب التي سارعت لبيع كل شيء، حتى الذاكرة والهوية، ولولا مجهودات كثيرة بذلتها أنا ومؤسسات المجتمع المدني لتحوّل هذا المبنى إلى جراج آخر أو برج جديد، محو آخر لذاكرة المدينة”.[13]
كان الحفاظ على مبنى “بيت بيروت” وعدم السماح ببيعه وهدمه كما أراد مُلّاكه الأصليون من عائلة بركات مسألة حياة أو موت بالنسبة للحلاق، فذلك المبنى، كآثار هيروشيما ومعروضات متحف “الذكريات”، يقف شاهدا على تاريخ لا يجب أن يُمحى، أضافت منى في حوارها مع رويترز: “نحن هنا في “بيت بيروت” نريد أن نحكي قصص بيروت وأهلها، هناك الكثير من القصص التي تجمع الناس في الحرب. كل الناس خافت. كل الناس هربت. كل الناس خسرت ناس. خسرت أشياء. كل الناس فقدت عالما. فقدت أشياء عزيزة عليها. هذه القصص التي نريد أن نرويها عن الحرب.. القصص الإنسانية”.
أعادت الحلاق برفقة المهندس المعماري يوسف حيدر المبنى ليصير متحفا ومركزا ثقافيا تحت اسم “بيت بيروت”. رمم حيدر بعض أجزائه، لكنه أبقى على الجزء الأكبر كما هو؛ لم يُرتّق الثقوب التي خلّفتها الرصاصات في الجدران، ولا تخلّص من المتاريس التي احتمى خلفها القناصة يوما وهم يطلقون النيران. يقول حيدر: “بدلا من تجصيص الثقوب الناجمة عن الحرب، يجب علينا مواجهتها”.[14] صارت تلك الثقوب جزءا من تاريخ المدينة، جزءا أليما، لكن عليه أن يبقى كتذكار دائم عن الوجه القبيح للحرب. لم يوضّح القائمون على المشروع بعد إذا ما كان المتحف سيحوي مقتنيات أخرى متصلة بتاريخ الحرب الأهلية أم لا، لكن الأكيد أن مبنى “بيت بيروت” في حد ذاته يتخطى كونه مجرد مبنى متحف آخر، يقول حيدر: “في المتحف لديك مجموعة من القطع الأثرية، ولكن في هذا المتحف المبنى ذاته هو جزء من المجموعة”.[15]
كحال متحف “الذكريات”، وبالرغم من تلقيه دعما ضخما من مؤسسات عالمية وصل إلى 18 مليون دولار، فقد ظل “بيت بيروت” لفترة طويلة مُهملا والعمل فيه مُعلقا بسبب “خلافات إدارية وسياسية تعوق استغلاله، إذ اختلف القيّمون عليه بشأن تحويله إلى متحف يحتوي على شواهد الحرب أو إلى مكتبة أو ملتقى ثقافي وحضاري”.[16] يبدو أننا في الوطن العربي نختار الحل الأسهل دائما، ونُؤْثِر النسيان، مهملين كل ما في الماضي وآثاره. لكن علينا ألا ننسى، إنسان بلا ذاكرة لا يمكن أن يتعلم، وسيبقى يكرر أخطاءه للأبد. فهل نتعلم من الدرس، ونحافظ على آثار ماضينا حتى لا تصبح كحاضرنا، مصيرها إلى الضياع؟ أم أن حارتنا ستصر على إهمال كل ما يذكرها بالأمس لتظل آفتها الأبدية النسيان؟