معدل الجريمة في القرية منخفض للدرجة التي يقترب فيها إلى أن يتلاشى تماما، أكبر كوابيس أهلها مجموعة من السرقات ذات النطاق المحدود بين الفينة والأخرى، الشرطة عملها أقرب للهو، لا يوجد عمل أكثر سهولة لشرطي من مراقبة ساحل يلهو جميع مرتاديه وكأنهم في إجازة صيفية مفتوحة. لذلك السبب تحديدا، رأت إدارة الشرطة في العاصمة البريطانية أن تلك البلدة هي المكان الأنسب لنقل المحقق أليس هاردي إليها، حيث فشل لتوه في حل جريمة قتل بشعة، بل وطاردته الصحافة مُلقية عليه اللوم في إفلات الجاني من العقاب.
القرية هي المكان الملائم لأن يستعيد المحقق توازنه، لديه وقت طويل للتحديق في البحر، ولا توجد جرائم معقدة ليفشل في حلها، يصبح رئيس المحققين في “برودشيرش”، لكن يتصادف وصوله مع عودة المحققة “إلي ميلر” من إجازة وَضْع طويلة، كانت قد وعدت قبلها أنها ستصبح رئيسة المحققين، فيجن جنونها بعد معرفتها أن شرطيا من خارج القرية جاء ليقتنص ترقيتها الموعودة، ليبدأ المحقق عمله بمناوشات مع من ترى نفسها أحق بالمنصب، فهي تنتمي لبرودشيرش وعلى صلة قوية بأهلها. لم يتوقف سوء حظ المحقق هاردي عند غضب زميلته في العمل، بل تقع جريمة قتل غامضة لطفل لم يتجاوز الحادية عشرة، لتُقلب برودشيرش رأسا على عقب، في جريمة هي الأولى من نوعها في مجتمع كهذا، وتكتمل المأساة بكون الضحية طفلا.
نحن أمام مسلسل جريمة إذًا، تبدأ أولى حلقاته بجريمة غامضة، ليتولى المحققان مهمة الكشف عن الجاني وتقديمه للعدالة، وتبدأ المفارقات بكون المحققين مختلفين تماما عن بعضهما ويشعر كلٌّ منهم بالنفور من الآخر، هذه سمات عامة لذلك النوع. لكن المختلف هنا أن ذلك يحدث بالفعل، لكن على هامش الحكاية الأهم. من الصعب تخيل أن ثمة ما هو أهم من جريمة قتل في تلك البلدة الهادئة، لكن الحقيقة أن تلك الجريمة لم تكن سوى “القشة” أو وجه من وجوه نظرية أثر الفراشة، التي تكشف زيف ذلك المجتمع وهشاشة روابطه.
لا يكون الحدث الرئيسي في العمل هو الثيمة البوليسية ومحاولة الإيقاع بالجاني، هذا يحدث كما قلنا بالخلفية، ليحافظ فقط على انتباه المشاهد ويُضفي الإثارة والتشويق على أحداثه، لكنه يصرف أنظار المشاهد رويدا عن الجريمة، ثم يورطه في تتبع آثارها على ذلك المجتمع، وكيف نكتشف رويدا أن تلك القرية الهادئة على وشك الانفجار.
يبدأ مجتمع القرية الصغير في التعاطي مع جريمة القتل، يبدو مجتمعا متماسكا للغاية، وكأنه أسرة كبيرة ممتدة، فقدان داني اعتُبر مأساة للقرية ككل وليس فقط لأسرته الصغيرة، لكن ما كشفت عنه هذه الجريمة هو زيف وادعاء تلك الطوبيا، ذلك التضامن كموقف جمعي لأهل القرية سيشق صفوفه متوالية من الأشخاص تباعا مبينين عن وجه آخر لبرودشيرش لكنه الوجه القبيح هذه المرة.
يبدأ الأمر من عند أحد ملاك الفندق الوحيد للقرية، والذي تضرر من فرض الشرطة سياجا أمنيا حول الشاطئ، وحظر الدخول إليه، وهو ما يضر بسمعة القرية وبالتبعية حجم السياح المتوافدين إليها، ما يعني بالطبع نزلاء أقل بالفندق، وأرباحا أقل في خزينته، ليس غريبا أن النهم بالثروة كانت العصا الأولى التي تحاول تمزيق وحدة برودشيرش.
بينما الصحفي الشاب الذي ضاق ذرعا بعمله في الصحافة المحلية، ولا يجد فرصة مواتية للالتحاق بإحدى الصحف المهمة في المدينة، يعتبر تلك الحادثة التي خلّفت مأساة مفجعة لأسرة صغيرة، فرصته لإرضاء شبقه وطموحه، يخالف تعليمات الشرطة بعدم الكشف عن هوية الضحية، غير مبالٍ بالضرر النفسي الذي سيقع على أسرته، طالما سيحقق سبقه الصحفي الأول، الذي ربما يجذب إليه أنظار مديري الصحف الكبرى. (1)
يعتبر القس أن تلك الحادثة فرصة ملائمة للوعظ أمام شاشات التلفاز، لا توجد فرصة أفضل لإعادة الكنيسة التي باتت خاوية على عروشها لقلب الأحداث، الألم والخوف، المعاناة بشكل عام شكّلت جروحا في جسد تلك القرية، والقس رأى أنها فرصة ملائمة ليعرف الجميع أن الكنيسة هي المكان المناسب لتضميد الجراح الغائرة.
الترابط القوي بين أهل برودشيرش والذى بدا وكأنه صلب يصعب تفكيكه أو العبث به، كلما مر الوقت اكتشفنا هشاشته. ما رأيناه في البداية، لم يكن سوى رأس جبل الثلج الذي سرعان ما بدأ بالتهاوي، العديد من أهل القرية الذين ظنوا أنهم على معرفة وثيقة ببعضهم، يكتشفون مع المشاهدين بمرور الوقت أن ما يجهلونه أكثر مما يعرفونه، وأن تلك الروابط التي جمعتهم كانت هشّة وغير قادرة على الصمود في وجه حدث واحد صادم. تكشف التحقيقات أن الأب في الليلة التي قُتل فيها ابنه كان في فراش امرأة أخرى غير زوجته، يخون زوجته بعد زواج امتد لخمسة عشر عاما، ومع إحدى صديقاتها -لأن الجميع في برودشيرش أصدقاء بالطبع!-.
العديد من شخصيات القرية كانوا كالمحقق تماما، هاربين من ماضٍ يخجلون منه. وبذلك، لم تكن القرية أكثر من ملاذٍ آمن، بعيدا عن فضائح طاردتهم في السابق. جاك شيبرد وكيل الصحف في القرية، والمسؤول عن التحاق أطفال القرية بفريق الكشافة، وعن تدريبهم، يشير سجله الجنائي إلى أنه تحرش بفتاة قاصر، هكذا يظن الجميع في بادئ الأمر، وعندما يكتشف أهل بوردشيرش الأمر يعاملونه تلقائيا باعتباره الجاني، يقومون بملاحقته ومطاردته، يمتنعون عن شراء الصحف منه أو منع أطفالهم من التعامل معه نهائيا، يهاجمون منزله ويحطمون سيارته، ينهار جاك شيبارد ويُلقي بنفسه من أعلى المرتفع، ليلقى حتفه في المكان ذاته الذي عثر فيه على جثة الطفل.
ولأن الأمور دائما أعقد مما تبدو عليه، والحقيقة بحاجة إلى كثير من التروي وقليل من الأحكام، فإن جاك لم يكن متحرشا بالأطفال من الأصل، بل كان على علاقة بإحدى تلميذاته، وتزوجها بعد ذلك، وأنجب منها ابنته الوحيدة، التي لقيت مصرعها، جاك لجأ للقرية لا كمتحرش جنسي بالأطفال، بل كأب مكلوم فقد ابنته، فحاول العثور عليها في كل طفل يلقاه ويتعامل معه، حادثة جاك هي دراما مكثفة عن الطريقة التي اختارها صناع العمل لبناء شخصياتهم بشكل درامي مركب(2).
نكتشف أيضا أن القس الذي يلقي مواعظ مؤثرة على آذان الناس ليس أكثر من سكّيرٍ قام بالاعتداء على طفل في الماضي، وجاء إلى القرية هربا من ماضيه السيئ، لو سلمت بتلك القصة عن حياة القس، إذًا فأنت لم تتعلم أي شيء من قصة جاك، الحقيقة ليست دائما كما تبدو، الأمور أكثر تعقيدا من ذلك، صحيح أن القس مدمن كحوليات متعافٍ، لكن هل هذا سبب كافٍ لإدانته، والتغاضي عن كونه يحاول أن يكون شخصا مختلفا ويقدم العون لمن يحتاج إليه؟
ووفقا لهذه الدراما المميزة، فقد نال إشادات واسعة وقت عرضه، وترشح للعديد من جوائز الإيمي، حيث جاء مُختلفا بشكل عام عن سمات مسلسلات الجريمة، لكن دون أن يُخل بطابعها العام من الغموض والإثارة، حتى لو احتفظ بإيقاع بطيء، يعطي المتلقي الوقت الكافي لفهم الأحداث، والتروي قبل إطلاق الأحكام.
المسلسل مميز على المستوى الفني أيضا، وتحديدا في التصوير، فهو يخلق من مياه المحيط “موتيفة” ممتدة من الحلقة الأولى وحتى نهاية العمل، كما أن الأداء التمثيلي يعدّ مميزا لغالبية أبطال العمل.
في النهية، يعد برودشيرش تجربة درامية ثرية، في زي مسلسل جريمة، وحصل على تقييمات مرتفعة على موقع “روتن توميتوز” و”تي في دوت كوم” (3) (4)، لذا فهو يستحق المتابعة.